الاثنين ١٤ آذار (مارس) ٢٠١١
بقلم بسام عليان

شرائط ملونة من حياة كامل مهنا

قراءة في كتاب «ملحمة الخيارات الصعبة»

بطاقة الكتاب: ملحمة الخيارات الصعبة: من يوميات الدكتور كامل مهنا.

حافلة كانت يوميات الدكتور كامل مهنا، التي جاءت بين دفتي كتاب «ملحمة الخيارات الصعبة»، فقد انتقى منها ما أثر به، ورواه بذاكرة انطباعية مليئة بالحنين الوجداني، والتجربة اليومية.

واستطاع أن يقف، ويجعلنا نقف معه عند أحداث مهمة مرّ بها الرجل بتجارب غير عادية في حقبة تاريخية مترعة بالأحداث.

واختار انفعالاته للحدث بشعور يفوق عظمة الحب بين الإنسان والآخر.

فالدكتور كامل مهنا، صاحب هذه اليوميات، ولد في بلدة الخيام بالجنوب اللبناني، وتخرج طبيباً في زمن الفقر. وانتسب إلى الثورة الفلسطينية، وسكن المخيمات الفلسطينية في لبنان، وعايش الفقراء في الجنوب والشمال والبقاع مروراً بمدن الصفيح حول العاصمة بيروت. وأنشأ مؤسسة «عامل» المسالمة في زمن الحروب.

يقول عنه، صديقه د. ابراهيم بيضون، في مقدمة الكتاب: «ليس لمثلي أن يقرأ بعين مؤرخٍ تجربة الدكتور كامل مهنا، من دون أن تخترق شغاف الوجدان. ذلك ما صرفني عن صياغة هذه «اليوميات» التي واكبتها عن كثبٍ وكنت في بعضها خلال أربعين عاماً من صداقة لم تنقطع، ولم تمرّ في سمائها غيمةٌ، حتى بدونا وكأننا في ذات واحدة، يتعرّف أحدنا مكنونات الآخر دونما حاجة إلى كلام. فلن أكون، مهما اجتهدت محايداً، ولن أنجو بالتالي من تهمة الانحياز في أول الطريق. فكان أن تصدّى للمهمة شوقي رافع، بأسلوبه الشيّق، مروضاً النصّ إلى ما يشبه الرواية، إن لم تكن رواية مكتملة العناصر النفسية والفنية، عدا العناوين الجاذبة التي توجت فصولها. هذا الصحافي اللامع الذي عرفناه منذ الأيام الأولى لجريدة السفير، قبل أن يأخذه الترحال طويلاً في بقاع الأرض، مكتسباً ملكات جديدة، أضفت على هذه «اليوميات» نكهة خاصة، فكان أديباً وصحافياً وروائياً في آن. لقد أمسك بعنان السيرة الفريدة لمناضل فريد، ما انفك يراكم تراثاً من التحدي، دونما تهيّب من الخطر الذي عاشه بكل ألوانه، وصنوفه وشروره...».

إذن، هذه اليوميات يصوغها إنسان أديب وصحافي وطبيب، ومناضل، لتكون بين أيدينا أشبه بالرواية، أو سيرة حياة لمناضل استثنائي، يشدّك إلى فلسطين المنكوبة، وقد جاشت هذه المأساة في وعيه وهو طفل، وما برحت تسكن فيه، صبياً ثم شاباً حتى الكهولة. ومن القضية الفلسطينية استلهم الدور الذي وجد نفسه فيه، واختلط المسار الذي أدمن عليه، قومياً متأثراً، كأبناء جيله بالتيار العروبي المتوهج بقيادة عبد الناصر، وماركسياً يرى في «البؤر الثورية» هي الحل لإنقاذ الأمة من الهزائم والانكسارات، و«جنوبياً» ينخرط في جبهة الفقراء على مساحة الوطن، إلى أن يكون «عاملاً» بصمتٍ، مؤمناً بأن العمل «فريضة».

تدرب في معسكرات الثورة في كهوف «ظفار» باليمن، انضم بعدها إلى صفوف الثورة الفلسطينية، كان يعيش على تخوم مخيمات البؤس، محملاً بالأدوية وأدوات العلاج ومتنقلاً ما بين الفاكهاني وأحياء الضاحية فالجنوب، عائداً بعدها إلى تل الزعتر.

كان في قيامه لواجبه متألقاً مع الموت الذي كان ينجو مصادفة من براثنه على الحواجز القاتلة. كان مناضلاً بحق لا يدركه اليأس، يتجرع الأهوال مع نفر من الشجعان.

تجربة الدكتور مهنا، التي يرويها من خلال هذه اليوميات، تصور لنا فارساً شغوف بالخطر، وتجربة مثيرة في المنجزات التي تحققت للشعبين اللبناني والفلسطيني، على مستوى الإغاثة ورعاية الطفولة، وتأمين العمل للمنكوبين، باعثاً فيهم إرادة الصمود والتحدي والتغلب على القهر والإحباط.

في بدايات دقات قلبه للحب، اكتشف كامل مهنا – في تلك اللحظات الحميمية - أن العلاقات بين من لا يملكون هي العلاقات الإنسانية الحقيقية، فهي ليست مرتهنة بأثقال الملكية والطبقية، واختيار الآخر لا يخضع لأية شروط، سوى شرط الحرية، والحب هنا يدخل من بوابة القلب على اتساعها ورحابتها، وليس من بوابة سيارة فاخرة أو شقة فخمة، أو حتى من كعب حذاء فرنسي. ولأن الحب لا يعني سوى العطاء، فإن من لا يملك هو الأقدر على العطاء.

عايش مهنا في «يومياته» الحقيقية، أكثر المناطق بؤساً، فقد تبين له عمق التفاوت الطبقي في المجتمع اللبناني، والتي تكشف عن واقع الحياة اليومية للناس، في أحزمة الفقر خاصة، فالعمال الزراعيون النازحون من الجنوب والبقاع لم يكن من السهل عليهم إيجاد عمل منتظم، فهم يعملون يوماً ويتعطلون أياماً، فكان يعاينهم أثناء دوامه في المستوصفان الشعبية.

فقد كان يتخذ عيادة خاصة له في حارة حريك، إلاّ أنه كان يضع برنامجاً له للتنقل ما بين المركز الصحي في مخيم برج البراجنة، وفي منطقة بئر حسن الشعبية، وهي من أكثر المناطق بؤساً، وفي حي الفاكهاني في الطريق الجديدة في مستوصف «النقاهة»؛ وكان يتنقل في نهاية الأسبوع لمعاينة المرضى في الخيام وفي كفر شوبا وكفر حمام وراشيا الفخار.

ودخل كامل مهنا «الحرب الأهلية» في لبنان من موقعه كطبيب، مترجماً قناعاته السياسية من خلال المبضع، ومثل أي طبيب كان هذا المبضع هو سلاحه الميداني، ينتقل به بين المتاريس، متاريس المقاومة ومتاريس الفقراء والمهجرين. وكان له رأي في «الحرب» فكان يقول بأن هذه الحرب، هي بين معسكرين: فاشي يستخدم سيف الطائفية لحماية نظام عاجز ومنغلق، ويساري علماني يقدم للعرب البديل عن هزيمة الـ67 وتسويات حرب 73، فيقول: «الفاشيست أطلقوا النار على المدنيين، كما حصل في الحرب الأهلية الأسبانية، «الفالانج» جماعة الجنرال فارنكو أطلقوا نيران رشاشاتهم على المواطنين من منطقة «الاشتوريس»، لأنها منطقة العمال والكادحين، واعتبروهم جميعاً شيوعيين وأردوهم حيث وجدوهم. «الفالانج» اللبنانيون من جماعة بيار الجميل اختاروا الفلسطينيين وفقراء اللبنانيين».

في يوميات كامل مهنا، «ملحمة الخيارات الصعبة»، لا تعرف متى يبدأ المهني كطبيب، لينتهي السياسي، ولا تعرف متى يبدأ السياسي لينتهي المهني، وأين تنتهي حدود الحزب لتبدأ حدود المؤسسة الاجتماعية «عامل»؟! أسئلة تبدو للوهلة الأولى نظرية، لكن كامل مهنا، انتقل من التنظير إلى التجربة، وكأنه يقول «إنما نعلمكم بالأمثال»، فقد نجحت مشاريع «النجدة الاجتماعية» في الدامور، وتوسعت وانتشرت شمالاً وجنوباً، فأقيمت روضة في الطريق الجديدة، وأخرى في مخيم البداوي في طرابلس شمالاً، وثالثة في مخيم الرشيدية، ورابعة في عين الحلوة، وخامسة في البرج الشمالي، ومع كل روضة مشغل للنساء، تعمل فيها الأرامل اللواتي فقدن أزواجهن، وبتن المعيل الوحيد للعائلة، وكانت رياض الأطفال والحضانة تساعدهن على التفرغ جزئياً للعمل والإنتاج، وعلى الرغم من مشقات الحياة في المخيمات، فقد كانت مشاريع النجدة الاجتماعية تحاول تأمين الحد الأدنى من الاستقرار لمجتمعات نازحة تقاتل يومياً في سبيل البقاء.

فقد كان هذا الطبيب المناضل، يخطط ويتابع تنفيذ نشاطات هذه المشاريع حتى أصبحت مؤسسة «عامل» المحور والقطب في مجالها، تجدها في معمعان الحرب الغشوم كما في السلم الفقير، وظلت في عين الفقراء لا تدّخر سائحة من أجل أن تكون صوتهم، وحصلت على العلم والخبرة وتدفقت عليها المساعدات، وكان كامل مهنا يقدس العمل مع الفقراء من خلال عمله الشعبي والتطوعي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من ركام الحروب الأهلية ومع العدو الإسرائيلي.

واليوميات لا تخلو من الدعابة، والمرح، ومؤسسة «عامل» تظل داخل هذا المرح، وتلك الدعابة، مما أعطى الدكتور كامل مهنا مساحة للوقوع في الحب من أول نظرة، وطلبه يد «فايدة» للزواج، متيقناً أن وطنه لا يكتمل من دون فايدة، وأنه ليس سوى الحب يشفي من أوجاع الحرب. ودخلت «فايدة» ضرّة منذ الأسبوع الأول للزواج على «عامل»، المؤسسة التي «لا تفارقهم حتى في غرفة النوم». وكانت زوجته تشاركه قناعته بأن «المال خادم ممتاز وسيد سيء»، وبالتالي كانا يستخدمانه ويستنفذانه قبل نهاية الشهر.

وبعد أكثر من ثلاثين عاماً، تظل «مؤسسة عامل» هي أسرة كامل مهنا الكبيرة، مختتماً يومياته بأنه «لا يزال يتعلم في مدرستها» قائلاً: «إن الإنسان عندما يتمنى شيئاً بصدق، فإن العالم كله لا يستطيع أن يقف في وجهه».

قراءة في كتاب «ملحمة الخيارات الصعبة»

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى