الأحد ١٠ تموز (يوليو) ٢٠١١
بقلم هيثم نافل والي

شهرة

في مساء ربيعي رائع ، كالحلم، يرنُ جرس الهاتف معلناً عن نفسه، وكأنهُ يريد أن يقول : أنا هنا ! يذهب إليه هيثم بتباطؤ، كمن لا رغبة له، فيرفع السماعة بتخاذل، وكأنه صحا من النوم لتوه، فقال بجزع كمن يريد بعدها الاختفاء : نعم .. من هناك ؟

 أنا رئيس الجمهورية ( ج . ط ) يا أستاذ هيثم ! ثمَ يشرع قائلاً دونَ تردد، وكأنه رئيس جمهورية حقاً ! أتصلُ بكَ، كي أهنئكَ على القصة القصيرة الأخيرة التي كتبتها والتي كانت تحت عنوان رقم 101، فهي جديرة بالمدح والثناء، على الرغم من تحفظنا لبعض مشاهد التعذيب إلا إنسانية التي صورتها في القصة ، وكما لا يخفى على أحد، لقد كنت واضحاً في التعرض للأنظمة الشمولية التي حكمت العراق لفترات طويلة! ومعَ ذلك نجد بأنك قد عالجت هذا الموقف عندما قلت في بداية القصة : أنها حدثت في منتصف الثمانينات من القرن المنصرم، ثمَ يردف وبصوت مجلجل ، كالواثق من نفسه أو كمن يحكم دولة بالفعل ! فيقول ضاحكاً : عفارم عليك يا أستاذ هيثم، نحنُ راضون عنك كثيراً ومما تكتب، أنها جهود يشار لها بالبنان وهو يضحك ها .. ها .. ها .. أستودعكَ الله، فيغلق الخط، كالذي فقدَ الإحساس والشعور بالآخرين! ودونَ أن يعطي لهيثم فرصة كي يرد أو حتى يعقب على كلامه أو يشكره على الأقل! فظلَ جامداً في مكانة لدقائق، وكأنه فاقداً للوعي ..

وبعدَ لحظات فاقَ على نفسه وهو يدمدم : هل حدثت المكالمة حقاً؟ أم أنها حلم ضبابي كالسراب؟ ومن ثم ما معنى كل هذا؟ يسأل نفسه كالعالم! رئيس الجمهورية شخصياً يتصل بيّ ويحمل لي التهاني! عجباً، لا .. لا يمكن أن يكون هو بالفعل! ثم يردد على سمعه نفس المعاني والكلمات وكأنها الصدى فيقول : من الأسهل عليّ أن أجد دجاجة خضراء على أن أصدق ما يحصل! ثمَ من أكون أنا؟ كي يتنازل ويعطي من وقته لشخص معزول، غير معروف، يتخذ الغربة وطناً له ويجهله الناس كما يجهل نفسه! أعوذُ بالله، ما هذا الكابوس الجميل اللذيذ.. يتحدث معَ نفسه وهو يذرع الغرفة من ركنٍ إلى ركن، وكأنه يود قياسها! ثمَ ينظر من خلال النافذة الوحيدة التي تمتلكها الغرفة، فشاهدَ ما هو أفظع ، فسرحَ إلى حد السهو والنسيان ! كمن يشاهد حريقاً هائلاً مرعباً أمامَ منزله، هناك مجموعات كثيرة من الشباب والفتيات الذين يحملون ألآت التصوير وهم يتزاحمون أمام البوابة .. ينظر لهم هيثم بذهول وبعيون واسعة، كمن ينظر إلى شخص أمامه وهو يأتي بشيء خارق أو معجزة، فتراجع إلى الوراء كالمهزوم ودقَ الأرض بحذائه، وكأنه يرقص، وباتَ يردد كلمات لا معنى لها ، كالتي يرددها المرء دائماً دونَ شعور عندما تقع مصيبة ..آه يا ألهي ، ما الذي يحدث، شيءٌ لا يصدق، يقولها المرء، حتى وأن كانَ لا يؤمن بها ..! ثمَ يقيس حرارة جبينه براحة يده، ليجدها ساخنة جداً، وكأنه تعرض للتو إلى ضربة شمس، فقال هامساً : أنا في وضع لا يعلم به سوى الشيطان! ومن يراني هكذا سيظن حتماً بأنني قد جننت، ثمَ يعيد ما قاله منذ قليل آه يا ألهي منْ هؤلاء؟ وماذا يريدون؟ ولماذا يتجمعون بصخب هكذا؟!

في هذه الأثناء يرنُ جرس الباب بقوة، فيهرع لها مفزوعاً، خائفاً وهو يصرخ كالوثني عندما يصلي!

منْ هناك..؟ فيسمع صوتاً متذمراً يقول.. بريد خاص ..

يجيبهُ هيثم حائراً، مستغرباً، ماذا؟ وكأنه لم يسمع جيداً، بريد خاص، وماذا يعني هذا؟

( الصوت من الخارج ) : يعني رسائل جاءت إليك عن طريق البريد، ومسؤوليتي وعملي وواجبي يحتم عليّ تسليمها لكَ شخصياً، ثمَ يردف متهالكاً : أرجوك أفتح الباب وخذ رسائلك، ما هذا أعوذُ بالله، أرجوك، الزحمة هنا خانقة ولا أستطيع الوقوف هكذا مضغوطاً لمدة أطول، أفتح الباب، أتوسل إليك، فيشرع قائلاً كالذي يريد أن يبتاعَ شيئاً ويتعامل حول السعر! ما هذا المساء المزدحم، أنه لا يريد أن ينتهي على سلام ثمَ يعود فيكرر توسلاته كالشحاذ : أرجوك أفتح لي الباب وخذ رسائلك، بالله عليك، خذها وأغلق الباب وراءك، أنا لا أطلب منك أكثر من هذا، ثمَ يشتم نفسه بحنق فيقول : لتهاجمني الشياطين بعد ذلك، لا يهم ، ولكن خذ رسائلك أولاً، ولتلاحقني الدببة، ولتلتهمني نار جهنم، أرجوك، ثمَ يغير من لهجته الباكية فيقول مسترسلاً بالحديث من وراء الباب ، يعني عفواً ، لماذا تريد العزلة هكذا، وكأنكَ تعيش كالعنكبوت.. ينظر هيثم إلى الاتجاه الذي يصدر منه الصوت دونَ أن تطرف عينيه وكأنه ينظر إلى قطعة من الحلوى التي لا تشبع منها العين! فقالَ بصوت خافت وكأنه لا يريد أن يعرف الآخرين بقراره : أنتظر لحظة واحدة، سأفتح الباب .

يفتح هيثم الباب بحذر شديد وكأنه يفتح أسلاك لغم موقوت، ليخطف الرسائل بسرعة ، فيعود ويغلق الباب بوجه الصحفيين والمصورين ، بعدَ أن تخيل نفسه ( لو أستمرَ الحال هكذا ) سيقاد إلى ساحة الإعدام بعدَ قليل ، فقد تجمعَ المارة وعدد من الجيران ، ليبدو المكان وكأنه سوق عكاظ !.

يجلسُ هيثم متهالكاً من التعب والإرهاق وكأنه رجعَ للتو بعد أن قطعَ عشرة كيلو متر راكضاً، وهو يلهث وقلبهُ يدق سريعاً كمن يعاني من ضيق في التنفس .. يفض الرسالة الأولى دونَ تعين بيد مرتعشة كالمريض بمرض عصبي، فيقرأ بانفعال غير معهود الكلمات الأولى :

الفنان الكبير هيثم، نحنُ من المعجبون بفنكم الراقي الذي.. ثمَ يدفع الرسالة بعيداً وكأنها عقرباً يحاول لدغه! ثمَ فضَ الرسالة التالية بعدَ أن سقطت نظراته عليها دونَ قصد، والأصوات في الخارج تعلو .. فيقرأ : أنا الكاتب العربي السوري ( ح . م ) ، أحب أن أسجل لكم كلمة نراها.. فيمزق الرسالة إلى قطع صغيرة جداً، وكأنه يريد بها أطعام أسماك في بحيرة، ليقف وسط الغرفة صارخاً : ما الذي يحصل، أرجوكم، قولوا لي، أجيبوني ولا تجعلوني أكلم نفسي كالمجنون .. أرتفعَ ضغطه، أختلَ توازنه، فسقطَ على الأرض.. وفي اللحظة التي يرتطمُ فيها على الأرض يجفل بقوة كالذي وخزَ بإبره ليصحو على نفسه وهو يجلس خلف الطاولة وأمامه مجموعة من الأوراق البيضاء التي لم تمسها يد بعد، فتذكر ما كانَ عازماً عليه قبلَ ساعة، عندما أرادَ أن يكتب قصة قصيرة جديدة، فسرحَ خياله، ليوصله إلى عالم الشهرة البعيد كالنجوم، والذي لا يصله أيّ إنسان بسهولة، إذ لا تأتي الشهرة هكذا كما تطلي الثلوج الحياة في الشتاء، ولا أن تثمر كالثمار في أوانها وموسمها، بل تأتي نتيجة جهود مضنية وسهر ليالي طويلة وحرق لنفس الكاتب مرات عديدة، لكي يمتع القارئ بأيام من المتعة العليا واللذة الروحية، وقد لا يستطيع بعد ذلكَ المشوار الطويل من العمل أن يصل بالقارئ إلا لمتعة فكرية لا تتجاوز الساعات والدقائق !، فيا لها من مأساة حتمية! في حين يقول أوسكار وايلد كلمته الشهيرة : لقد وضعت في حياتي كل مواهبي، لكني لم أضع في كتبي إلا بعضها! فالكتابة فنٌ بسيط ، لكنهُ خارق كالمعجزة! والإنسان العادي عندما يقرأ لكاتب يقول ما هذا .. أنه بسيط، سهل ويمكن لي الإتيان بمثله..! وما أن يجلس وراء الطاولة ليحاول الكتابة، حتى يبدأ الملل يزحف إلى قلبه، لتعلو على سحنته علامات الحيرة والاضطراب، فيكسر القلم احتجاجا ويمزق الأوراق ويلعنها وهو ساخط على نفسه، ويدق الأرض بقدمه بقوة ويدمدم مقهوراً وهو يقول لماذا لم أستطيع فعل ذلك؟ وقد تناسى بأن الموهبة لا تزرع في كل الحقول، وإن زرعت عنوةً فأنها لا تثمر تحت كل الظروف، كالأذن الموسيقية، لا يمتلكها الجميع!

ففن الكتابة فنٌ بسيط، سلس، ويستطيع الجميع أن يفهموه وهذا هو سر المهنة رغم بساطتها، كالأعجاز الذي جاءت به الكتب الدينية المقدسة! فهي قد جاءت بطريقة فنية رائعة، فيها من الموسيقى الشعرية الكثير، ويمكن فهمها وحفظها بسهولة لكنها تبقى معجزة، يعجز فيها عقل الإنسان عندما يحاول الإتيان بمثلها وهذا هو سبب خلودها وشهرتها .

ينظر هيثم إلى الأوراق التي أمامه .. فيجدها مازالت بعد عذراء لم يلطخها الحبر..! فانحنى على الطاولة كمن يعاني من قصر النظر، فكتبَ : قصة قصيرة بعنوان / شهرة .

في مساء ربيعي رائع كالحلم .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى