الجمعة ١٣ نيسان (أبريل) ٢٠٠٧
بقلم أحمد نور الدين

شيرين

علا الصياح بشكل جنوني وصكت الأسماع أصوات كثيرة مرعبة اختطلت فيها زمجرات وارتطام عصي وتناثر زجاج وقرقعة الكراسي التي تبودلت كالكرات الطائرة. وأصابني الذهول في هذه الغمرة الرهيبة، لقد اشتعل المكان بغتة دون سابق نذير او اشعار. كما يحدث في الافلام تماما. فمنذ لحظات معدودات كان الجو رائق والانسجام يؤلف بين النفوس ويترامى إليك من هنا وهناك أصوات قهقهات ومداعبات لطيفة. وقد مال مراد علي هامسا في أذني بشيء ما لم اسمعه جيدا. ثم قهقه ضاحكا. وضحكت مقهقها انا ايضا فالحق اني كنت اشعر بسعادة وكان يداعب انفي عطر أحلام الشهي الذي قدرت انه ينبعث من شعرها وثنايا ثوبها البرتقالي الموشى وربما من شفتيها ايضا. كنا نجلس حول الطاولة المستديرة الى جانبي مراد الذي لا يني يوزع لفتاته وابتساماته في كل اتجاه ولا يعجزه الإتيان بالنكات والقهقهات الصاخبة. مع أنني كنت قد حذرته من الإفراط واني لن أسامحه ان تسبب في مشكلة مع احد كما هي العادة. كانت احلام تجلس الى طاولة مجاورة لنا من جهة اليسار على نحو ما امكنني ان ارى بيسر الجانب الايمن منها واشتم العطر الذي كان فواحا. ويجلس قبالتها رجل كهل في نحو الخامسة والخمسين يدعى عزام يملك معمل بلاط وتستهويه رفقة الغواني من النساء فلا نسمع عن غانية الا ويكون له منها نصيب الأسد. وقد راقته حانتنا بجوها الفاسد المنتن بعد ان حرم عليه ان يطأ حانة الورود في الحارة المجاورة اثر الفضيحة والمعركة الكبيرة التي وقعت فيها عندما كان ساهرا هناك ذات ليلة وقد روي أن أحدا من رواد حانة الورود تحرش بإمرأة جميلة كانت في صحبته فنادى عزام رجاله وتبين أن الشاب المتحرش ابن رجل مهم وله رجاله أيضا فنادى عليهم واشتبك الرجال في معركة حامية وتناثر الزجاج وتحطم اثاث الحانة شر تحطيم وان أحدا اتصل بالشرطة فأتت مجموعة منهم وحسمت الموضوع.

و كان يروى الكثير عن مشاكل عزام في الحانات ولا عجب فهذا الكهل البدين ذو الشاربين المعقوفين الكثيفين لا تهمه السمعة في شيء. وفيما تهمه إن لم يكن رجل اعمال معروف ولا سياسيا مرموقا. انه يمتلك ثروة لا تأتي عليها النيران وعماراتان وعدة محال يؤجرهم بالاضافة الى حسابه الضخم في المصرف. ولا عمل يشغله ولا مهنة. يقضي النهار كله في النوم وعندما يحل المساء ينطلق الى حيث يستقر به المقام في اي من الحانات، لا فرق لديه ان كانت فخمة او وضيعة وحتى لئن كانت وضيعة قذرة كان ذلك افضل على اي حال. كانت الغانيات تستبقن الى مرضاته ومحظوظة هي كل الحظ من يقع عليها الاختيار. التفتُ الى حيث يقف ثلاثة من رجاله على باب الحانة ونظرت بتوجس. كانوا يقفون كالاصنام في حالة اقرب الى الترقب والحذر كأنهم يتوقعون ان تقع حادثة ما. جذبت مراد وهمست في أذنه قائلا:

 حذار ان تتمادى في هذرك ولهوك. نحن لا تنقصنا المشاكل!

 لا تخف..ما بك؟ اتراه يرهبك وجود هذا العجوز بيننا؟!

فقلت هامسا باستياء:

 ما الذي هداه الى حينا. ان هذا رجل عربيد طائش صيت السوء يسبقه بأميال!

قال مراد هامسا:

 لا عليك منه.

ثم انصرف مراد عني مواصلا لهوه بغير اكتراث. وقذف احد الحاضرين بنكتة فاحشة فصفق له مراد بشدة إعجابا واستحسانا. نظرت اليه مستاء اود لو اعنفه على افراطه. لكنه التفت الي بغتة ولكزني ثم قال بصوت خافت:

 انظر ماذا سأفعل.

ثم انتصب واقفا وراح يلوح بيديه هاتفا بصوت عال:

 سماع.. يا شباب سماع!

حملقت إليه غير مصدق. هل لطش السكر عقله؟! اردت ان اشده من قميصه لكنه استرسل قائلا:

 هذه أول زيارة يشرفنا بها عزام بك يا شباب.

عم الصمت الجميع وراحوا يتطلعون إلى مراد باهتمام كبير ورمقه عزام بنظرة باردة مزدرية لكنه تابع منطلقا بغير اكتراث:

 لذلك يا جماعة.. وجب علينا الترحيب الحسن. علينا كلنا ان نرحب بعزام بيك ترحيبا يليق بمكانته. الا توافقوني الرأي ام ماذا؟

و ظل الصمت مخيما باستثناء عدة اصوات انطلقت خفية تشجع مراد على متابعة كلامه ولعل البعض كان يأمل ان يشاهد شيئا عجبا! وأنا كنت انظر الى مراد نظرة غيظ مشتعلة كنت ارغب في ان انهال على انفه لكما فأهشمه تهشيما لكن مراد تابع ما بدأ به دون ان يكترث لي قائلا:

 عزام بيك..! اهلا بك في حيك وبين ناسك وصحبك.. شفرتنا يا سيد الرجال.

ثم تلفت فيما حوله بنظرات حادة وصاح بالجلوس:

 ماذا أصابكم يا رعاع لماذا لا تشاركوني السلام على سيد الرجال عزام بك؟!

لا شك ان مراد فقد عقله. ما الذي حدا به الى هذا الهراء. صاحت عدة اصوات بالتحية وتشجع الباقون فعلت اصوات الترحيب والتهليل لوجود عزام بك واختلست أنا نظرة الى الرجل فألفيته يبتسم ابتسامة راضية وهو يهز برأسه على نحو رتيب ينم عن تعال وفخامة فسرت في اطرافي موجة ارتياح وتنهدت في سري. عاد مراد يجلس وقد بادل عزام بك نظرة باسمة قصيرة. همست في اذنه محاذرا:

 ما الذي فعلته بحق السماء؟!

فقال همسا:

 أنا اعرف هذه الاصناف من الرجال لا عليك!

و الحق انني شعرت وقتها بأن مراد لديه فعلا شيء من الخبرة في هذه الأمور ولم اخفي ابتسامة ابديتها إعجابا وعجبا!

إلى هذا الحد ليس ثمة ما يدعو الى القلق والاضطراب. هذا ما كنت اوقن به. نعم فالجو عاد رائقا تبتل انسامه الموشاة بأدخنة السجائر بما تجود به الشفاه من هسيس والحناجر من قهقهات. والمكان الذي يتزيا بأحلام ومثيلاتها ما أجمله من مكان وما اهنئه! فجأة سمعت قهقهة عالية ثم سعل احدهم سعالا حادا وسمعت الرجل الذي سعل يقول بصوت ابح محشرج:

 وهكذا كانت ليلتنا الأولى!

وأعقب ذلك عدة قهقهات أخرى. ومر من أمامي النادل بثيابه البالية يحمل صينية تعلوها زجاجة حمراء وقدحان. اشعلت سيجارة ورحت أدخنها بتؤدة وتلذذ. ما اجمل هذه السهرة! لكن للحقيقة هي سهرة جافة ناشفة. التفت الى مراد فلم اجده في كرسيه!

مسحت المكان بنظرة سريعة فألفيته عند احدى الطاولات منحنيا فوق امرأة من اللواتي ينقصنهن بريق الجمال لكن لا تعوزهن الاحجام الدسمة! كان يبثها كلاما لا يصلني منه سوى حفيف وهي تنفجر من حين الى حين مقهقهة بصوت عال. وكنت احتار متسائلا بأي كلام عساه يخاطبها؟!

في تلك الاثناء رحت اختلس النظرات صوب طاولة عزام بك. يساورني شعور كبير بالغيرة والحسد. ما اجملك يا احلام! انها امرأة في الثلاثينيات من عمرها كانت تسكن قديما في حينا ثم حدثت لها امور كثيرة طارئة مثل وفاة أبيها واضطرار أمها إلى الزواج من رجل شاب يصغرها بأعوام كان وسيما جدا احتار الناس في سر تعلقه بأم احلام التي رغم تمتعها بقسط من الجمال كانت قد جاوزت عامها الأربعين وأحلام كانت في نحو السادسة عشر من عمرها تلميذة في ثانوية البنات الرسمية ذات جمال موفور ورثته عن امها الى طول قامتها وشقرة خفيفة في شعرها الكستنائي محببة!

وبعد أن مرت أشهر عدة على زواج امها من ذلك الشاب الثلاثيني ارتفعت في الحي صرخة مدوية وانتشرت الاقاويل.. لقد اختفى الشاب فجأة فليس له من اثر! ولم تقوى الأم على طول الكتمان فسرعان ما عرف الناس بالمبلغ الكبير من المال الذي خلفه المرحوم ورائه استطاع الزوج الشاب ان يتملق الأم ويقنعها بأنه قادر على شراء بضائع معينة ليفتح فيها محلا تجاريا كبيرا. وطبعا ما ان حصل على المال حتى ولا فرارا لا يدري احد اين حل به المقام حتى أمه وأبوه وإخوته لم يدروا عنه شيئا ولا يزال مصيره سرا من الاسرار. رغم كل ما شاع عن اختفاءه وسفره من إشاعات وأقاويل لا سند لها في الحقيقة اكثر مما لها في الخيال!

وعلمنا ان ام احلام انتقلت من الحي مع ابنتها لتسكن في مكان ما عند احد الاقارب ربما في القرية لست متأكدا من ذلك على اي حال.

ما يهمني الان تذكره انني التقيت بعد عدة سنوات بعاملة بار جميلة جدا عرفت فيها جارتنا القديمة احلام! كانت قد كبرت وشبت ونضجت فيها ملامح الأنوثة وتضوعت بعطر الشباب الريان. فرحت برؤيتها كثيرا وأدرت معها حديثا لطيفا. كنت منتشيا تسري حرارة الخمر في اطرافي. قلت لها مفتعلا الكلام:

 لا بد انك جديدة هنا يا انسة اليس كذلك؟

رفعت عينيها عما كانت منشغلة به ورنت إلي متأملة لثانية ثم قالت وهي تتابع عملها من جديد:

 نعم!

فقلت:

 أنا من رواد هذه الحانة. اتي الى هنا كلما سنح لي الوقت.

لم تنبس بكلمة. القيت في جوفي دفعة من الشراب. ثم قلت متسائلا:

 هل أنت مرتاحة في عملك؟

فابتسمت قائلة:

 ما رأيك؟

 لا اظن ان معاشرة هؤلاء العربيدين امر لطيف.

 بل علي انا ان اكون لطيفة.. لزوم المهنة!

عادت إلى عملها. كانت تنشف الاقداح بقماشة بيضاء صغيرة. قلت بعد هنيهة متشجعا بما سلف من كلام:

 ما هو اسمك؟

عادت تنظر الي متأملة للحظة. قالت وعلى شفتيها ابتسامة باهتة:

 شيرين!

 اسمك شيرين؟!

 لماذا تستغرب؟ نعم اسمي شيرين!

 عاشت الاسامي يا شيرين!

 شكرا. ماذا تعمل حضرتك.

 انا؟.. حاليا عاطل عن العمل. لكنني انهيت دراسة الهندسة في الصيف الفائت.

شعرت بسلطان الخمر يحكم قبضته علي وسرت في جسدي قشعريرة هادئة لذيذة. نظرت من حولي نظرة شاملة. كانت الاضواء خافتة والجو مخمور عبق. امرت "شيرين" بان تسكب لي كأسا اخرى. ثم تسلمت الكأس مترعة وشربت منها..

اقترب من البار زبون فانشغلت به عني. وانشغلت عنها بأفكاري فسرحت بعيدا.

شيرين هذه التي امامي جميلة جدا لكن احلام ايضا بارعة في جمالها. كانت تسكن في عمارة قريبة لعمارتنا. كنت اراها كل يوم في ذهابها الى المدرسة وفي إيابها إلى البيت. وكنت مفتتنا بجمالها الى ابعد الحدود. والدها موظف بسيط معروف بتدينه واستقامته وأمها امرأة طيبة بسيطة. كانت تزورنا من ان لان مصطحبة معها ابنتها أحلام. وكنت أربط خلف الباب استرق نظرات خائفة الى الفتاة. جالسة قرب امها في رزانة الشابات. كنت اراها كاملة لا يشوبها عيب. وكانت أمي تحب أمها كثيرا. وكان يحدث أن ترسلني إلى بيتهم لكي اوصل لهم شيئا من الطعام او كعك العيد. وعندما مات أبوها وحدثت كل تلك الاحداث المفجعة كنت انا في الصف الخامس الابتدائي وقد انقطعت أحلام عن حضور المدرسة فانقطعت عن رؤيتها عيناي فشغلني التفكير في احوالها عن امور دراستي وكانت أخبار بيتها تصلني كاملة كما يتداولها الناس والجيران فكان يملئني الحزن والأسى واشرف على البكاء وأقول في سري انه يا ليت كان بمستطاعي ان اخطف أحلام واهرب بها إلى حيث لا تقع علينا عين انسان فنحيا معا اسعد حياة عرفها التاريخ. ولما سمعت ذات يوم ان ام احلام هاجرت الحي الى حيث لا يدري احد بلغ بي الذعر غايته واستفظعت أن لا أرى أحلام بعد اليوم ابدا لا سائرة في الطريق برفقة صويحباتها ولا في حجرة المعيشة في بيتنا جالسة بقرب امها تجللها هالة من الجمال والوقار الملائكي وشعرت بأنه فات الاوان على تحقيق حلمي بالهرب معها الى مكان ناء مهجور وكأنني جبنت وعجزت عن انقاذ محبوبتي فتملكني نازع قوي حدث نفسي بالانتحار!! لكن مرت ايام كثيرة وشهور ولم انتحر. وصارعت سنوات الدراسة حتى صرعتها ودخلت الجامعة فمضت سنوات وتخرجت مهندسا طبعا كانت احلام قد ركنت الى اعماق غياهب الذاكرة. ولم يعد من شيئ يستحضر علي ذكراها. حتى انني لم اعد اشعر بشيئ من شذرات الجوى كلما فكرت فيها وبت أكثر من ذلك استعجب كيف كنت في يوم من الايام اكن كل ذلك الحب الجارف لفتاة لم تجمع بيني وبينها إلا كلمات معدودات حتى انني لم اكن ادري ان كانت تحبني ام لا اذ لم اكاشفها يوما بما كان يعتلج في صدري من حب لها.

لماذا تقول هذه ان اسمها شيرين؟! انا متأكد من انها أحلام ولا احد سواها! نعم.. لا يمكن ان اخطأها ابدا. لم يبد عليها انها تعرفت علي لكنها هي دون شك. رباه ظننتني نسيت ذكراها الى الابد لكن ما بي ما ان رأيت لها طيفا حتى اهتزت نفسي بزلزال عميق وعاودتني أخيلة الذكريات وشعرت بحرارة تكوي أضلعي؟ إنها هي هي ما في ذلك من شك. لكن ترى هل تتعرف الي ان انا كشفت لها عن هويتي؟ هل تتذكر ذلك الغلام الذي كانت تزور بيته بصحبة أمها في الاصائل؟! هل تتذكره حين كان يرصد خطاها في الذهاب والإياب. وترتعش يداه بما تحملان حين تفتح هي له الباب وتحمر وجنتاه إذا التقت العينان هل تراها تتذكر من ذلك كله شيئا؟!

ساورني شعور عارم بالرغبة في استجلاء الامر. فاستسلمت لداعي الرغبة وقلت لها إذ ابتعد الزبون منتحيا اقصى البار:

 سعدت بلقائك جدا يا أحلام!

فالتفتت إلي بحركة سريعة وشملتني بنظرة متأملة لبرهة من الزمن. داخلني شعور قوي بأن نطقي لاسمها ايقظ شيئا في أعماقها وبأنها ستتعرف علي لا محالة. لكنها ما لبثت ان ضحكت ضحكة قصيرة رنانة ثم قالت بتهكم:

 شرفت بيت خالتك يا عيون شيرين!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى