الاثنين ١٠ أيار (مايو) ٢٠١٠
بقلم مي محمد أسامة

شِتاءُ عُمرٍ ذاهِـل

ينسلُّ النهارُ خفيةٌ من براثنِ الظلام،و الشّمسُ تهدُج خجلى من خلفِ سَحائِب الشِّتاء،كأنّها تعتذرُ عن حُلكةِ ليلٍ مارقٍ عن سُلطانها،قضاهُ الساهدينَ دون مؤنسٍ يؤاسيهم ..

رذاذُ المطرِ يَندي سُحنة الأديم فتلتمعُ كشظايا الزُّجاج.وخلفَ نافذةٍ يلحظُها طرْفُ الصّباحِ،جلستْ.

تُجاذِب نفسها تَفِهَ الذّكرياتِ،مع فِنجانِ قهوةٍ غبّت رائحتهُ وحْشةَ المكانِ،فاستحالَ أُلفة.

السادسة و النصف و خمس دقائق صباحـاً،لا زالَ في الوقتِ متّسعٌ للفراغ!

ذات الوقتِ "المُستنسخ " عن أمسٍ و ما سبقه،بنفسِ التّكرار يعلنُ – كلّ يومٍ - ولادته،نموّهُ و تسارعه،اضمِحلالَه،و من ثمّ رحيلهِ أمامَ ناظريها.

وهي المُنسجمةُ معه حتّى النُّخاع،تُعيد تمثيلهُ و تدويرهُ و عَيشهُ دونَ كللٍ،دونَ شكوى تَتسلّل خفيةً إلى روحها فتُشعلها.
تَحدجُ ببصرِها زوايا المكان،إطاراتُ صورٍ تضمّ عالمها بأسرِه،أو ما بقي منه قيدَ "مُلكِها".

صورٌ هي خُلاصـة عالمها،و بعضٌ من عالمٍ كان لها..

إطارٌ صغيرٌ،يحتضنُ صورةَ طفلٍ مثقلٍ باليُتم،لم يعرف أباه،يبْتسمُ بمرح،و كأنّه أهنأ أهلِ الأرض كلّهم.

و آخرٌ أكبرُ حجمـاً،يضمّ الغلام عينه،و قد أينع فيه الشباب و صـارَ لها سنداً و أنساً و هناء.

و ثالثٌ مكتحل بألوان الطيف،حين التقى نصفه البعيد..

و رابعٌ أعظمٌ،حين أعلنتهُ الحياةُ أباً حين ذي غسقً. 

" آه يا جمـال،رائدٌ أضحى رجلاً..لم تَرهُ عينك..

 برُغم قلبك الذي ترجّى يومَ مجيئه،لكنّ دنياك تحفّظت على حقّك في الأبوّة..فرحَلْت وتـركتنا ".. 

يعتريها سكونُ الخوضِ في دهاليز ذاكرتها كما كلّ يوم..

كم تجرّعتْ غُصصاً من ألم،كم أذاقتها الحياةُ شعورَ النقصِ. شعورٌ أشبهُ بكونِها "نِصفُ شيء "..!

فقد عادت إلى منزل أبويها الذي غادرته فرداً،بعد أشهرٍ قليلة من السعادة،اثنان.لها غرفةٌ تؤويها و نصفُ فراشٍ بينها وبينه،نصفُ خزانةٍ أيضاً و نصفُ حياةْ.

كم كانَ نِصفُ حياتها غنيّاً به،بعملها و بأهلها..

لكنّها أحنت عمرها ليبلغ أشُدّه،و عندما صارَ..أدركتهُ حياتُـه فتبعها..

لطالما أخبرتها والدتها: " إنّ الشوكة حين تخزه،ستؤلمك،فهو قطعة منكِ،لكنّك يا ابنتي لستِ قطعةً منه!".
كم عانت بعد رحيل من أحبّت، في قُرّةِ أمانته لها من بعده.. 

فنجانٌ آخرٌ من القهوة المُرّة،تتجرّعه ليطغى على مرارةِ وجعها.تزيحُ بيدهـا سِتارَ ورقة التقويم عن اليوم الوليد،تقرأ ما سُطر على ظهر ورقة الأمس،تبتسمُ على مضض،ثمّ تضعها جانبـا.

تستبقُ عقاربَ الساعةِ فترتدي لباسها،تقف أمام مرآتها تُعالج مَظهَرها..تتأبّط بعضَ الكتبِ في حقيبةٍ جلديّة،وتغلقُ الباب من خلفها.

..
نسمات قارسة شتائيّة لفحت وجهها..فأخذت في حثّ الخطى علّ بعضَ الدفء يلحقها من تسارع نبضها..
 يتلألأ الشارع المنتثر بالمطر اتجاهها،تتوزّع عليه أفواج و أفراد من طلبة و طالبات،ضحكات و همهمات عالية،قصص مراهقة لا تنتهي لتبدأ أخرى.

يحاكي شفتيها خيالُ ابتسامة تحاولُ جاهدةً شقّ خطوط وجهها،للمشهد المكرور دوماً أمامها كلّ صباح بلونٍ قد يختلِف.
 لكن وحقّاً،لا شيء يوحي بتميّزِ اليوم عن توائمه الفائتة المتشابهة،منزوعة الأوراق سلفا من تقويم حياتها..
....

 تقطعُ المسافة القليلة التي تفصل البوّابـة الرئيسة للمدرسة عن مبناها بخطى صبغتها بالاتّزان،فمعظم الطلبة يرشقونها لحظاً، و كأنّهم يتصيّدون خطاها..

ثلاث درجات و..

رهط من المدرّسات تحلّقن بانتظارها..

تصفيق و وجوه مبتسمة..تُمارس الفرح أوّ تدّعيه،المهمّ أنّها تشارك الجوقة.

ما تبادرَ لذهنها أبداً تاريخ اليوم..

يوم تقاعدها..

حفرت ببالغ جهد المفاجأة على وجهها ابتسامة تردّ بها على نظراتهم،كتلٌ من الثلوج استحلّت قلبها فأوجمته..
هو اليوم الأخير إذاً..

..

دخَلت المبنى بعد تردّد قَتل إحساسها بالزمن.

ليس هنالك "صفّ " اليوم..ولا طلبة.

لا دروس ولا مدرّسات.

لم يعد لها هنا أيّ شيء،و لا ينتظرها أيّ شيء في أيّ مكان آخر..

 بكمدٍ لم تعد تحاول قمعه أكثر،لملمت متعلّقاتها الشخصيّة و هدايا المحتفين بها..

قصاصات الطلبة التي احتفظت بها جيلاً فآخر..

بقيّة أقلامها و الإطارات التي تؤوي أشباحَ عُمرهـا..

صندوقٌ صغيرٌ وسِعها كلّها..بسنواتها المديدة..باعتقادها!

ودّعت زميلاتها بإيماءة شكرٍ،ما استطاعت تكلّف غيرها،بعد أن خانها صوتها.

 عاودت احتضان الطريق في المنحى المعاكس. تماماً من حيث أتت.

ببطءِ مذهولٍ هذه المرّة. تهادت،و كأنّها وحدها في الشارع الذي –بناظريها - تجرّد من عُمّاره فجأة..

فلم تعد تلمحُ من أحد إلّا صدى عمرٍ دارس فرّ – فجأة – من بين أصابعها.. 

 
* العنوان، شطرٌ من قصيدة للشاعر العراقيّ "بلند الحيدريّ".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى