الجمعة ٣٠ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٥
بقلم هيثم نافل والي

صحوة الضمير

يقول الدكتور الروائي عبد الرحمن منيف في إحدى رواياته:

الشرقيون غريبو الأطوار، كالأطفال، لا يقدرون نتائج ما يفعلون، المهم أن يثبتوا وجودهم ويظهروا متفوقين بنظر أنفسهم وبنظر الآخرين.

الإهداء

إلى إ. بطلة القصة، تلك التي لا أستطيع أن أتكهن بأن سيأتي عليها يوماً وتقرأ قصتها أو كتابي القادم الذي سيتضمنها... متمنياً أن لا تكون قد نسيت أسرارها تلك التي تشبه سر جمالها الذي لا يمكن فك طلاسمه بسهولة!!

اتصلت به وكأن الموت يهددها وهي تحتضر...

بكثير من الشوق، وبرغبة جسدية صارخة محمومة، جائعة، ونفس ملتهبة، وروح متمردة، وقلب ينزف لوعة واحتراقا، حبا وهياما... وهي تدعوه إلى لقائها والاختلاء بها في بيت أهلها، ولم يقتنع، كأنه يعرف ما سيحدث له كما يعرف باطن يده!!
فازت إخلاص وهي في مرحلة الإعدادية بلقب ملكة جمال المدرسة التي تدرس فيها، تلك الرابضة على كتف نهر دجلة من جهة الشرق...

جمالها لا يقاوم، لها عينان بلون العسل المصفى، سبت فيهما محلتها لروعتهما وحسن تصويرهما، واسعتان كعيني ألمها، أنفها مرسوم بقدرة من نتوكل عليه، وشفتان طريتان، موردتان لهما لون قشر الرمان الناضج، وحنك ناعم مصقول، مخطوط بحكمة يجهلها حتى العراف، شعرها كشلال على كتفيها ينساب وينزلق، عودها رفيع وخصرها دقيق يشبه خصر فتاة صينيه تمارس الرياضة منذ طفولتها، رائحتها كصوتها كنظراتها تأسر العقول قبل القلوب والعيون...
هكذا كانت إخلاص، وقدرها وضعها في محنة لم تستطع أن تبرأ منها وهي حبها القاصف، المجنون لمهدي؛ الذي ملك عليها كيانها من رأسها حتى أطراف أصابع قدميها... وها هي اليوم تتصل به وتدعوه للقائها في بيت أهلها وهو يراوغ بإصرار وعناد وبلهجة اعتذار كانت أقرب إلى الرفض يدمدم بها ويسقطها على مسامعها.
توسطت الشمس كبد السماء ونشرت دفأها في الهواء، وهي تلح عليه للحضور ففاق إلحاحها الوصف كلجة الطفل عندما يشتهي شيئاً!! فأصبح أمراً لا يمكن تجاوزه...

رضخ لطلبها وهو يردد في خاطره بارتباك مازجة الخوف:
خطة جريئه أقرب إلى التهور، كيف يطاوعها عقلها؟ لا أدري!! وربما كما يقال:
( بمكان السبع يتمرغل الواوي ) ثم ابتسم وهو يشعر بأن قلبه أصبح يدق بين رجليه، هز رأسه عدة مرات وماء مثل قطة مخنوقة:

سأذهب وليكن علام الغيوب حامينا!! ثم همس لها بصوت خفيض إلى أقصى درجة والكلمات تخرج من فمه متكسرة، غير واضحة:

سأحضر، اتركي باب البيت مفتوحاً قليلاً، وسأكون في غضن دقائق في حضنك يا حبيبتي، وقبل أن يغلق الخط، تذكر شيئاً مهما فسألها بنشاط:

ماذا عن أهلك يا إخلاص؟

 كم أنت ساذج يا مهدي، بل أموت أنا في سذاجتك، لأنها تعني لي صدقك والطفل الذي بداخلك وخوفك عليّ!! ثم أجابته برنة هجينه ما بين القسوة والإغراء:

ماذا تعتقد، هل أنا غبية إلى هذا الحد؟ وأضافت: إنهم لن يرجعوا قبل السادسة مساءً، وغمزت مردفة:
عليك أن تعلم أن الإنسان عقل وجرأة، وها أنا أجسد لك كليهما على الواقع معاً!! وتابعت بنشوة:

هذا يعني أن لدينا وقتا ثمينا وطويلا للعناق وبث الشكوى والنجوى!!

- يا لكِ من فتاة جميلة، ذكية وخبيثة في نفس الوقت... ثم استطرد مختصراً:

لا أريد أن أضيع من الوقت الآن الكثير... سآتي وعندها نستطيع أن نبث الكلام همساً، نسقطه في أذاننا إسقاطاً، وعاد يذكرها بما قاله بعد أن انفرجت أساريره:

لا تنسي أن تتركي الباب مفتوحاً وأغلق الخط وهو يردد جامحاً، مخاطباً نفسه غير مصدق، كفتاة اكتشفت جسدها فجأة وقد نضج:

أنا لا أنكر خوفي عليها وحبي الكبير لها، لكنني أبقى بشراً، وأتوق إلى تجريب الإثم عن قرب أو على أقل تقدير أن أتذوقه!! ثم بوجه محتقن بالرغبة نادى:

ليس بعد الصبر سوى القبر، يا الله، رنتها وهي تهمس لا تجرح فقط، بل تذل، سأطير لها كالعاصفة، بل بخفة وسرعة اختفاء النشالين بعد إتمام أعمالهم!! سوف لن أبقي لها سكة لا ألجها أو ارتقيها!! سأجعلها لا تعرف من هو سيدها ومن هي سيدتها!! ثم هز رأسه مرات متوالية وواثقة ويقهقه بعربدة كضحكة بحار عتيد مخضرم، وهو يشعر بالنشوى تحرق جسده وتأكله، ورغبه أقوى من الشبق في حضنها وطقطقت أضلعها، ويحلم بأوقات كلها إثماً وكفراً، مجونا وجنونا...
لكنه في صحوة ضمير أو لحظة ضعف آدمية تباطأ فجأة وقال في سره:

إن أول جريمة اقترفت على الأرض كانت بسبب فتاة، فلا يمنع من حدوثها مجدداً لنفس السبب!! علينا أن نتعلم من تجارب وأخطاء الذين سبقونا من الحمقى! عض شفتيه، بلع ريقه الناشف وبنبره متراجعة وسوس:
إذن عليّ أن لا أنسى ما لهذه الرحلة من مخاطر قد لا أرجع منها سالماً!! وكما يقال: من الشجاعة في بعض الأحيان أن يبقى المرء على قيد الحياة!! ثم تابع يسأل نفسه بريبة مردداً:

سوء الظن من حسن الفطن كما يقال! ترى أين تعلمت إخلاص فن الإغراء والإغواء هذا؟ ألم تدعُ من قبل رجلا غيري؟ كيف يمكن لي فيما بعد أن أثق بها وأصدقها؟ حتى لو ادعت حبي وكل ما تفعله من أجلي!!
ظل مطرقاً، ساهماً، مطأطأ الرأس، زم شفتيه كطفل غاضب وهو يشعر رغم كل ما قاله وما فكر به... كيانه متوثباً ومتحفز ولا تسيطر عليه إلا فكرة واحدة" إخلاص " وهي تتخلص من ثيابها الواحدة بعد الأخرى، فنظر لها في مخيلته مأخوذاً والشهوة تكاد تأتي على قلبه، فنبر بكلمات حادة وقاطعة كشفرة المقصلة: المثل عندنا يقول:
من يريد أن يصير جمالاً، عليه أن يعلي عتبة بيته، ليسهل ارتقائه! فابتسم بوقاحة وصلافه واستدرك بصوت واضح أقرب إلى الصرامة والتحدي:

لابد من الخلاص يا إخلاص، والله هو المدبر والميسر وعليه التوكيل...
بأعصاب باردة وكأن الأمر برمته لا يعنيه فتح الباب الذي كان مفتوحاً أصلاً، ودخل بخطى واثقة دلالة الاقتناع، حتى أصبح بين أحضان حضرة الملاك في غرفتها وعلى سرير نومها... همست إخلاص برنة ناعمة أختلط فيها المكر مع الإغراء، سحقته فيها:

تستطيع يا حبيبي أن تفعل بي ما تشاء!! وهي تفك أزرار قميصها المخملي الشفاف الذي لم تكن بحاجة لخلعه! فقد كانا نهداها قاسيين وبارزين بقوة وهما يختنقان خلف القميص، لقد رآهما مهدي بوضوح شديد، كما يرى المرء صورته في المرآة! ومع ذلك تحررت إخلاص ممن كان يضايقها أو عن حبيبها يفصلها...

وما أن اندفع مهدي بجنون أعمى نحوها... حتى فتحت أمها الباب عليهما فجأة، فصعقت مما رأت... عقد لسانها للحظة كانت بطول الدهر، لم تكن عيناها تريدان أن تصدقا، فالمشهد كان أكبر بكثير من تصوراتها وحدسها وحتى استيعاب عقلها...

تراجعت إلى الوراء كأنها تريد الاختفاء، ثم فاقت على نفسها فناحت، فدوى صوتها حاداً، جافاً يهيج الأعصاب كعواء الذئب وهي تشعر بالانهيار والاستنكار، تلطم صدرها بقوة جنونية كأنها تريد الانتحار:

ماذا تفعلان؟ ومن هذا الذي تجرأ على تلويث حرمة بيتي والاعتداء على ابنتي؟ ها...؟

ثم قفزت صامته، صمت السكين وهي تقطع وبحالة( أعجز عن وصفها ) على السرير لتلتقط ابنتها وهي عارية كما خلقها الله... وفي هذه اللحظة القاسية، الثقيلة وخزته على خاصرته أمه العجوز التي كانت جالسة بجانبه في القطار الذي يقلهما من بغداد، متوجهين لزيارة أخواله في مدينة البصرة، ولم ينتبه مهدي وظل سارحاً فيما هو به، فصفعته العجوز برفق لا يخلو من تحذير وهي تقول:

لقد وصلنا يا حبيبي، وعلينا الترجل من القطار في المحطة القادمة، هيا التقط الحقائب من خاناتها ولنتوثب للنزول لحظة وقوفه... ثم وبخته زاجرة:

ماذا جرى لكَ اليوم يا بني؟ فحالك يبكي الأصدقاء ويضحك عليك الأعداء! بماذا كنت تفكر؟

فرك مهدي عينيه، نظر إلى أمه نظرة متسائلة أقرب إلى البلاهة، وهمس مخاطباً نفسه:

اللعنة عليّ، بماذا كنت أفكر؟ بل كيف طاوعتني نفسي أن أكون آثماً وأنا أتخيل حبيبتي إخلاص بهذا الشكل الفاضح، المكشوف والمقزز؟! تباً لي من مارق، كيف أدع نفسي تستجيب لهذا المجون حتى لو كان حلماً؟ ثم وصَّ مخذولاً:
إخلاص لا تستحق مني كل هذا الفجور!! آه يا ربَّ... أشعر بالخزي يعذبني ويسحقني... ثم باللحظة التي تهيأ للنزول، والقطار مازال يئن ويزفر ويسير بخطى وئيدة، متمهلة وعجلاته تزمجر، حتى رنَّ هاتفه المحمول فجأة، فرفعه بخمول منهكاً ورد بصوت خرج مجروحاً:

 نعم، من هناك؟

 هكذا إذن!! لم تعرفني؟

 بانفعال، فخرج الصوت من أعماق صدره:

إخلاص!!

 ومن يكون يا ملعون! ثم أردفت بسحر جعله يموت ويحيا:

أشعر بالظمأ... أين أنت الآن؟ أقصد، أريد أن أقول... أن أهلي ليسوا في البيت، فيا حبذا لو تأتيني سريعاً كالطير، شوقي إليك يعذبني، يحرقني، بل يغرقني حتى هامتي؛ اللعنة عليك يا حبيبي لقد جعلتني أزحف على الأرض زحفاً، لا أستطيع الوقوف، متى ستأتي لترويني؟!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى