السبت ٣٠ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٠
بقلم وسام دبليز

طائـر الحــب

لست بحاجة إلا للقليل من الوقت، كل ما أطلبه وقتاً إضافياً قبل أن تتوقف دقات قلبي، وتغفو شمس حياتي عن هذا العالم، عالم البشر المتصحر إلا من جثث العقول والضمائر.

ترى هل ستسمعون صراخ وجعي المدفون تحت سوط ظلمكم؟!. هل ستستطيع قصتي أن تمسَّ حياتكم الخاوية الباردة بشعاع بسيط من الدفء.

هي قصة عادية,بل تقليدية، تحدث كل يوم مع شروق الشمس،حقيقة لا أعلم ما هي مفاهيمكم… اليوم تقدمون أعز ما تملكون، وغداً ودون سبب أو مبرر ترفعون سيوف التجريح، وكأنه عالم الضد... يوم لك ويوم عليك.

منذ الصغر قالت لي أمي أن ابتعد عن البشر صغارهم وكبارهم,فهم يرفضون الظلم ويظلمون, يرفضون القتل ويقتلون، يحبون الحقيقة لكنهم أيضاً يرفضونها مثلما سيقفون أمام حقيقة قصتي السوداء.

آه عفواً عفواً نسيت أن أعرفكم بنفسي… أنا طير … مجرد طير صغير. ربما ستهزؤون مني طير يتكلم… ولم لا!!.

أنتم تنطقون الحجر بمشاعركم الرهيفة فكيف لا ينطق طير!! و تستغربون؟ لو علمتم قصتي لما تجرأتم على الوقوف أمام دفق ألمي الروحي.

كنا في عشنا الصغير أنا وأمي وذات يوم ربيعي كانت فيه نسمات الهواء تصافح شجرة الصنوبر بفرح، تسلق طفل شقي الشجرة، أمسك بنا ونزل ليتقاسمنا مع صديقه،كنت ورقة يانصيب في يد غيدق أما أخي فكان من نصيب الطفل الآخر.

حملني غيدق كطفل رضيع في لفته بيديه الصغيرتين إلى منزله، تركني أقفز في أرجاء البيت، قدم لي الحبوب والماء بوجهٍ تتعرش فيه البراءة، كنت سعيداً إلى أقصى درجات السعادة.
أحببت غيدق...الطفل الذي ترسم الحياة على وجهه ضحكة دائمة، وترمي الشمس على جبينه إشراقة فجر، ويكحل الحزن عينيه بسواد الحداد، تعطيه الأمومة فيضاً من رهافة حسها وجميل عواطفها، ضحكته الرنانة التي تدخل القلب فيهدهد لها فرحاً.

أخذت علاقتي معه تمتد وتتثبت مثل جذع شجرة في أرض صخرية، نمى الريش بغزارةٍ على جناحي، هو لم يعلمني الطيران، وأنا كنتُ راضٍ بهذا العالم، وبهذا الملاك الصغير الذي أصبح صديقي الدائم.

كبر غيدق وكبرت محبتي له وتعلقي الشديد به،غير أنه أخذ يدخل ميدان الجفاء وأخذ العوسج ينثر بذاره بين روضة قلبينا دون أن أعلم السبب.

كان دائماً يجلس في السرير يستمع للأغاني الصاخبة ويسرح في براري الخيال وشبح ابتسامة يرتسم على وجهه.

في أحد الأيام وقف غيدق أمام قفصي وهو يتأملني بطريقة غريبة سألته: غيدق.. ماذا بك يا صديقي؟ هل جننت!.

أخبرني أنه يحب فتاة تدعى روز وهي تبادله المشاعر ذاتها,ثم أخذ يركض في أرجاء الغرفة وهو يبسط ذراعيه كطائر النورس، ويقفز على السرير بسعادة، ضحك قلبي فرحاً لسعادة صديقي، الذي أورق الحب في قلبه فتعرش على أبسط الأشياء في هذه الحياة.

وبعد عدة أيام أحضر لي قفصاً فضي اللون، فيه أرجوحة صغيرة، وضعني فيه فشكرته مغرداً ثم أحضر شريطة حمراء كتب عليها "إلى حبي الأبدي" وكم أحسست بضعفي أمام هذه الكلمة، شعرت أنني لا أقدم إلا قطرة ماء أمام بحر حبه الكبير لي، ثم أخذني في نزهة، اكتشفت أنها لم تكن نزهة، أخذني ليقدمني هدية لروز… هل حقاً بعد كل الأيام التي أمضيناها تقدمني هدية…؟؟

أردت الاحتجاج عليه,لكني ضغطتُ على نافورة ألمي وأوهمت نفسي أنني بهذا أكون طائر الحب والغرام الذي ينقل رسائل المحبين المعطرة بشذا المشاعر الدافئة،لابأس فأنا سأكون سعيداً لسعادة صديقي كأمٍ تغرد الحياة في قلبها كلما بصمة الحياة ضحكة في وجه طفلها.
حزنتُ لفراقه رغم سعادتي مع روز,تلك الحسناء المغناج النحيفة القد،المسترسلة الشعر،لطالما تأملتني وقالت بدلعٍ: أحبك… أحبك.

ما أجمل البشر أنهم يُحبون بسرعة.. أدركت لاحقاً أنها كانت تحاكي غيدق فتنطق بهذه الكلمات رغم تعلق نظرها بي.

تزوج غيدق وروز، أخذاني معهما إلى العش الزوجي الذي تحرقك ناره في الشهور الأولى، في حين تنتقل بعد ذلك إلى قارة باردة بعد سنوات أو حتى شهور.

شدَّ الحبُ أمتعتهُ، وفرش الجفاء سجادة الملل في هذا المنزل الصغير, حتى أصبحت الغربة كائناً دائم الحضور بينهما بعد أن كانا العسل بحلاوته والجدول بحيويته.

لطالما نامت ورأسها فوق زنده،لطالما استيقظت على قبلاته وهمساته،غير أن تلك القبل لم تعد قادرة على إيقاظ ذلك الحب، كنت دائماً أصرخ عندما يبدأان برجم بعضهما بحجارة الكلمات: كفى..كفى أرجوكما،لكن عبثاً صوتي لم يكن إلا لمسة يدٍ على أوتار عود أمام طبول الضجيج.

اليوم انفجر بركان الغضب، واشتعلت النار في جسدِ كلٍّ منهما، وبعد اشتباكٍ حادٍ صرخ بها:أ نت طالق يكفيني ما لقيتُ منك وخرج تاركاً الباب يصفق وراءه معبراً عن غضبه.

اشتعلت روز أكثر.. أخذت تبكي وتضحك ببلاهة، ثم لا أعلم ما الذي دهاها أخذت تكسر كل ما حولها.. الزجاج.. التلفاز.. ثم تفرّست عيناها بي وصرخت: وأنت أمازلت هنا؟.

كنت في القفص لسوء حظي وقفت أمام سطوة حقدها وفتحت عيني متسائلاً: وأين تريدينني أن أذهب يا روز؟.

اقتربت مني ومرجل الغضب يغلي في داخلها،أمسكت القفص ثم ضربته بالحائط ورمتني من الطابق الخامس، سقطتُ على الأرض شبه ميت, أنازع مرارة الروح حين تغادر الجسد،بعد لحظات تقدمت روز وهي تحمل شظايا انكساراتها أمسكت بي قائلةً: ملعون أنت أيها الطائر.
ورمت بي مثل حجرة في بركة ماء صرخت بها: الآن أنا الملعون ماذا كنت قبل ذلك؟! طائر الحب؟! طائر الحب الذي شهدَّ حبكما الكاذب المنمق بالخداع.

بعد ساعات عاد غيدق تفاجأ بي حملني مثلما حملني ذات يوم لكني لم أشعر بنبضاته الدافئة قال بأسف: مسكين أيها الطائر.

صرخت روحي ولماذا تناديني أيها الطائر ألم أعد صديقك؟! ثم رمى بي بلا عطف إلى أبناء القط لأصبح قطعة لحم سائغة بين أنيابهم الصغيرة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى