السبت ٢٨ نيسان (أبريل) ٢٠١٢
قراءة في ديوان يحيى الحمادي
بقلم إبراهيم أبو طالب

«عام الخيام» عام الثورة، والشعر.

يقول أحد النقاد الغربيين: "إن الشعر تأطير للخيال"، ولعلّ الجديد في قوله ليس في مفردتي: الشعر، والخيال، فالشعر يفقد أهم ركائزه إن لم يكن فيه خيال، ولكن الجديد هو في استخدامه لكلمة (تأطير) بظلالها الفنية والتعبيرية وفعلها المحدد في التقاط الشعر هذا المحسوس بالكلمة، والمشغول بها عليه أن يقوم بالالتقاط والتأطير للخيال المطلق الهلامي غير المحدود، ويثبته، ويجمده لنا كإطار لصورة ثابتة موثقة، ولعل هذا القول هو الذي استوقفني، وأنا أقرأ ديواناً شاباً قادماً من روح الشعر وخياله، ومن قلب الحدث وواقعيته ومعاناته، وهو شعر يؤطر الثورة والأحداث التي مرت بها خلال عام كامل، ربما مضت تلك الأحداث وقد يطويها الزمن، في ما يطوي، فيعتريها التغيير والنسيان، ولكن أنّى لهذا الشعر أن يُطْوَى أو يُنسى؟! وقد التقطته عدسة الحرف، ووثقته كاميرا الكلمة، وأطرته لحظةً لحظة، وألماً ألما، وطموحاً طموحا.

إننا أمام تجربة شعرية شابة ومتمكنة تستأثر باهتمامك من القراءة الأولى على الرغم من قصائد الديوان الطويلة في أغلبها، والكثيرة حيث وصلت إلى (62) قصيدة ضَمّت أكثر من (1624) بيتاً وسطرا شعريا، أطولها قصيدة (حوار في شارع الـ 65) التي تتكون من 278 بيتاً من بحر المتدارك (ص 78- 94)، وهو الجزء الأول من قصيدة حوارية ممسرحة تدور بين شخصيتين يرمز إليهما بعلان، وفلتان يحملهما الشاعر كل جدل الأطراف من صراع فكري وقضايا سياسية وفكرية ودينية واجتماعية تمثّل فترة الشهور الماضية جميعها بأصدائها الإعلامية وحديث الناس في كل شارع ومنزل ومنتدى...الخ، وقد كان الشاعر فيها موفقاً على الرغم من طول النص ومحدودية شخصياته إلا أنه قد استوعب تقريبا كل الأفكار التي كانت مطروحة ومتداولة، بكثير من آفاق الشعر والروح الساخرة والموقف الشبابي الواضح الرؤية، ولا شك أن هذا العدد من القصائد هو عدد كبير لديوان واحد مكتنز - إذا ما قيس بما يصدر من مجموعات شعرية في المشهد الثقافي المعاصر-، ولكنه يدلّ على موهبة متدفقة، ومتمكنة من أدواتها اللغوية والشعرية.

لكن لماذا هذا الإحصاء حول عدد القصائد وأبياتها؟ إنه مؤشر واضح لشاعرية جديرة بالوقوف معها للتأمل والقراءة، ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا بأن اليمن ولاّدة للشعراء في كل مرحلة وعصر، ولكل زمان شعراؤه، ومن صفوف الشباب في ثورة التغيير نبغ عدد من الشعراء منهم شاعر الساحة الأول كما يصفه الدكتور عبد العزيز المقالح في مقدمته لديوانه "عام الخيام"، وهو شاعر كما يبدو لم يسع للأضواء، ولم يتلهفْ وراء القنوات، ولا حتى المنصات الإعلامية المنصوبة في الساحة التي ربما كانت قد حُجبت عنه، فظلّ يتبتلُ في محراب الشعر الحقيقي، ويسجل أحداث الثورة كأصدق ما يكون التسجيل ليفاجئ المشهد الشعري بـ (عام الخيام)، وفي هذه القراءة بعض ما استوقفني حول هذا الديوان.

أولاً: من حيث الموضوع:

إنه كما يحدده العنوان التوضيحي على غلاف الديوان الخارجي (قصائد توثيقية لأحداث ثورة التغيير) ويمضي التوثيق ابتداءً من 15 فبراير 2011م مع أولى القصائد وهي (تائه في شارع العدل)، وحتى نهاية الديوان بقصيدة (في وداع عام الخيام) 31/12/2011م.

أيُّ جمعيكَ يُصطفى يا سعيدُ
حار أمري.. أصالحٌ – أم حميدُ؟!
أيَّ شعبيك أصطفي أو أعادي
جفَّ قلبي، وأنت منه الوريدُ
صوتُ أيوبَ شدَّني.. أين أمضي
حين يأتي من ساحتيكَ النشيدُ؟!

إنها بدايةٌ واضحةٌ لشاب غير مؤدلج يحتار في الأمر بين ساحتين، لكنه يحسم الخيار ويصطفي جمع الشباب وصوتهم، والشباب وحدهم، ويختار وسطية الطرح مع الانحياز الكامل – دون شكٍّ – إلى ثورته وثورة أقرانه من الشباب الحر الذين خرجوا يبتغون وطناً خاليا من كل سوء، لم يمسسه قهر ولا جبن، وهو أبيض كبياض قلوبهم، ونقي كفجرهم المرتقب.

إذاً هذه هي رسالته وهذا موقفه الواضح البيان الذي ستعبر عنه كل قصائد الديوان، إنه متأمل للأحداث متماهٍ معها، وفي ذات الوقت منفصل عنها يصفها ويقيمها ويحدد ملامحها، ولا تحجبه المعاصرة، ولا تضلل رؤيته الأصوات الكثيرة ولا الضجيج عن التوصيف الحقيقي الهادئ، إن ذلك التائه في شارع العدل قد حدّد موقفه وعرف سبيله، ومضى بخطى ثابتة في هدفه، لأنه الوطن والشباب، وهو الدماء الزكية، والمكان والزمان، والتراث والأصالة، إنه اليمني بكل محبته وصموده وجَلَدِه وطموحِه، إنه جميع ذلك مؤطراً في (عام الخيام).

ومن العنوان يضعنا الشاعر بين طرفي: الزمان والمكان في جدليتهما الأزلية وضديتهما الديالكتيكية، فالعام سيظهر بيومياته وقضاياه وشهدائه وعوالمه في سير قصائده، وكذلك المكان سيتجزأ ويتفرق، ويأتي من كل شارع وحارة، وقرية، ومدينة في عموم اليمن – تماماً كما جاء شبابها من كلّ ركن في اليمن- ليتوحد من جديد في وجدان الشاعر وديوانه، إنه جدل المتنوع في الواحد والمتفرق في الفرد.

ثم نلاحظ من البداية، ومن العنوان هذا التناص المبدع الذي سيظهر بعد ذلك واضحا مسيطرا في عموم الديوان كلوحة الفسيفساء التي أشارت إليها "جوليا كريستيفا" في تحديدها لمفهوم التناص، (عام الخيام) يحيل الذهن إلى أعوام العرب الكثيرة التي مرت بهم كعام الفيل، وعام الحزن، وعام الوفود، وعام الرمادة... وغيرها من الأعوام المستمرة في حياة العرب المتواصلة حتى عام الجراد، ثم عام الخيام أخيراً.

ذلك هو العنوان ثم سيلتقي القارئ في نصوص الديوان بالكثير من التناص مع أهم منابع البلاغة العربية ومحدداتها، مع القرآن الكريم، والحديث الشريف، ومع الشعر العربي بامتداد عصوره منذ امرئ القيس مروراً بالمتنبي، وانتهاءً بالبردوني والمقالح، وبيحيى الحمادي كل هؤلاء يحاورهم الشاعر، ويتشرب بثقافتهم التي تدلّ على ميراثه الواسع من الثقافة، واطلاعه الكبير حفظا وحضورا وتفاعلا.

ولكن هذه المناصّات لا تقف عند مجرد الاقتباس أو التضمين –وهو المستوى الأول في التناص- ولكنها تأتي بصورة تجديدية يؤازرها الانزياح في معانيها مما يكسب تجربته الكثير من الوعي التجديدي المقصود وينقل استخدامه للتناص وتوظيفه نقلة أعلى في المستوى الدلالي.
كانت تغني.. وكان الحزن أغنيةً

تجري الرياح بما لا تشتهي (اليمنُ)

إلى أن يقول:

الناس والأرض والأيام تجهلني
وفي دمي يقطن السكانُ والسكنُ

إنه استيعاب لموروث المتنبي، ولكن بروح جديدة ذات انزياح يحاول تأصيل الواقع.

ألا ليت الشباب يعود يوماً
ليعلم كم بساحتنا معمّر

وكلّ أعلام الشعر ورفاق الحرف وعلاماته ظاهرة حاضرة، يحاورهم الشاعر ويتممهم في تقابل منتج في دلالاته، مستغلاً وحدة الوزن وبحره وواحدية الموضوع في طابعه التحرري:
(أفقنا على فجر يوم صبي)

ولكنَّ صنعاء لم تُصْبهِ

(خرجنا من السجن شُمّ الأنوف)

وعدنا إلى اللحد من ثقبه

(إذا الشعب يوماً أراد الحياة)

وغنّى لها.. مات من حُبّهِ

إنه تفاعل إيجابي وتناصٌّ موظف بوعي وقدرة فائقة، وهكذا تمضي مناصات الشاعر الحمادي حتى مع المقدس من النصوص:

لأنا أطلنا صبرنا.. طالت الأفعى
ولمّا زحفنا أقبلت حيةً تسعى
ولكنها تدري، وندري بأن من
تفرعنَ بالأسحار لا يُتقنُ البلعا
سنأتي بموسانا على كل ظامئ
فقد شدَّنا وتراً ولذنا به شفعا
سيُفلَقُ هذا اليمُّ يوماً.. وحينها
ستكشفُ عن ساق لتجتازه (صنعا).

إنه استلهام للنص المقدس القرآني وتوظيفٌ في موضوع الثورة الذي هو نفسه موضوع الديوان الثوري.

ذلك كان أول ما يلفت في استخدام الشاعر للغة من توظيف وإزاحة في المعنى التناصي، ثم تستوجب هذه القراءة بعض الوقفات مع لغة الشعر في ديوان (عام الخيام). ومن هذه الوقفات أن لغته صافية من الغريب واضحة وقوية تعبّر عن روح معاصرة واضحة المطالب والأهداف لغة لا تشوبها شوائب الغموض على المستويين القاموسي والدلالي، فهي لغة سهلة عدا مفردتين فقط في عموم الديوان: في قوله: ( وبقدر النهب يقال له:
يا حَيَّهلاً.. بالأحضان)

فكلمة (يا حيَّهلا) قاموسية غير مستخدمة، وهي اسم فعل أمر بمعنى اقبلْ أو عجّلْ، وفي لامها عدة لغات منها السكون ومنها الفتح بتنوين وبغير تنوين.، وفي قوله في قصيدة زفرة وطن:

(لنا في غرفة التعذيب شعبٌ
من الليل المنونصِ لا يُفيقُ)

وكلمة (المنونص) كما يأتي معناها في المنجد: نوّص القنديل: ضعف نوره، ونُوّص القنديلُ:
أُضعف نوره (عاميةٌ سريانية).

ولعل الشاعر أراد بهاتين المفردتين القاموسيتين التعبير والاستعراض المعرفي ليبرهن على سعة معرفته باللغة فأتى بهما.

ثانياً: من حيث التشكيل:

ويتجلى في اهتمامه باللغة من حيث البناء، واللعب بها ومعها، يظهر ذلك في موضوعات البلاغة العربية القديمة فيما يُسمى بالمحسنات البديعية مثل:

الجناس: بنوعيه التام والناقص: وهو كثير في عموم الديوان ولدى الشاعر ولعٌ بهذه التقنية، وهي مما يضيف إلى المعنى ظِلالا كثيرة تخدم النص، وتزيد بهاءهُ وشاعريته، مثال ذلك.

سبأ التي كانت هنا
أمست لجارتها سبيّة (ص58)
أحاول أن أمدّ إليه كفّي
فتخذلني القريحةُ والقروحُ (ص 60)
يا صاحبَ الفخِّ والفخامة
وعاشق الزعم والزعامة (ص 66)

ويصل الجناس ذروته في الديوان -بما يذكرنا بتجارب الشعراء الكبار قدامى ومحدثين، ولعل أوضحهم الشاعر العراقي أحمد مطر، مع اختلاف الموضوع - في قصيدة بعنوان (كاريكاتير) والتي هي بالفعل لوحة ساخرة:

"العلاقاتْ
أصبحتْ تأتي على (قات)
والصداقات
إن أتت تأتي صدى (قات)
والحماقات
كلها تأتي حما (قات)
هكذا تقضي بلادي وقتها
والعمرُ أوقات
إنه أوقات
أو (قات)".

وهكذا يمضي الشاعر في اصطياد الجناس مما يزين المعنى ويرفعه في أغلب استخداماته.
اللعب بالحروف من أجل المعنى لعبا مشتركا بين لغة النص وبين القارئ، حيث يجعله مشاركا في الفعل الإبداعي وليس مجرد متلقٍ سلبي، بل يكون إيجابيا في قراءته، ويكمل النص، يظهر ذلك –مثلا- في قوله:

(خرجنا لـ حاء وراء وجيم
وعدنا بجيمٍ وراء وحاء) (ص48)،

وهنا على القارئ أن يجمع الحروف ليكتمل المعنى المقصود، ويظهر تناقض الخروج والعودة بين الحرج والجرح.

وفي قصيدة (المسكوت) تنتهي القصيدة في جميع أبياتها بما فيها المصراعان في مستهلّ القصيدة تنتهي بـ (ال...) ليكملها القارئ من ذات نسيج البيت بالمعنى الذي يقوده توجيه النص، وهذا تجديد يُحْسبُ للديوان:

الشعر بابٌ لا يؤدي إلى الـ...
ما لم تَكن بالشعر صوتاً مع الـ...
ما لم تكن يا صاحبي شمعةً
تهراقُ في محراب شعبٍ إذا الـ..
ما لم تكن كــفاً يُــداوى بها
وبســـــمةً تفــترُّ حــتى يرى الـ..

يا صاحبي أطلق يد الشعر إن شعرت أن الليل يقفو خُطى الـ.. (ص40)

ويتزايد هذا اللعب اللغوي والمفرداتي في قصيدة (اللغز) التي يكون حلها على المتلقي/القارئ

كادحةٌ في عصر السرعة.. تعمل أسبوعاً في السبعة
ولأنَّ اللـــيل يــراودهــــا.. لا تهـــنأ حـــتى بالجمعة...
كادحــــةٌ تعـــمــل ناصـبةً.. إن شــئت الحـلَّ فقلْ: (... )،
وعلى القارئ أن يقول: (شمعة) لتكتمل دائرة اللعب باللغة.
براعة الاستهلال، ولحظة تنوير الخاتمة.

الأول – في هذا التوصيف- من عالم الشعر وبديعياته، والثاني من عالم القصة القصيرة، وفي هذا مزج واضح بين الأنواع كما نجده في ديوان (عام الخيام)، فمعظم قصائد الديوان تتميز ببراعة الاستهلال التي تجمع نواصي معنى القصيدة من أول بيت فيها وهي قضية اهتم بها الشعر العربي كثيرا في عصوره المختلفة كما اهتم بها النقاد والبلاغيون.

ثم تأتي الخاصية الأخرى في ختام القصيدة واضحة في المفارقة والدهشة التي تركز عليها القصيدة، وكأن الشاعر يستجمع قواه البلاغية ويضعها في آخر القصيدة، بل وفي آخر عهد لنا بقصيدته ليفتح لذة النص على ما بعدها، وهذه النهايات محملة بالكثير من الحكمة.

الطباق، ورد الصدر على العجز، والاكتفاء:

وهذه من صور البلاغة التراثية، وتمكّن الشاعر منها تمكن من استقراء التراث، ففي الطباق أو المقابلة نجد الشاعر لا يخرج عن موضوعه ويستثمر مفردات الواقع الثوري.

لا البلطجيُّ يحبني... كلا ولا المتزمّتُ

والمقابلة بين (البلطجي) - هذا المصطلح الوافد على الساحة الثورية من ساحة ثورية شقيقة هي مصر- لم يجد له الشاعر من مقابل في معناه سوى كلمة (المتزمت)، وهي لفظة قاموسية وشائعة في نفس الوقت، وهي مقابلة موفقة في دلالات كل منهما على الفريق الذي يرفضه الشاعر، فكلاهما وهما طرفان لا يقبلان بالشابّ ولا بوسطيته الشبابية الثورية كما لا يقبلهما الشاب نفسه، وهو على مدار الديوان لا يفتأ يؤكد على هذه التيمة، ويكررها كلما سنحت الفكرة وبكل وسائل التعبير، كما يقابل بين فعلهم الثوري الذي تضحيته بالموت، وبين الحسم المؤجل رغم دفع الثمن الغالي دفعاً مُسبقاً:

آجالها محسومةٌ.. وحسمها مؤجلُ

إنه التقابل المنتج المؤكد لدلالة الموضوع وهو مدار الديوان كاملا، وكأنما هو يكتب نصاً واحدا بصيغ بلاغية مختلفة لا يتوانى في استخدام كلّ ما يصل إليه أفقه الفني وبراعته اللغوية، وفي ذلك ذكاء واضح من الشاعر حتى لا يقع في الملل الذي قد يعتري الموضوع الواحد، ففتح الشاعر آفاقاً جديدة يتحرك داخلها ويخلق منها عالما من الشعرية مفتوحاً على أفق الشعر، وجماليات اللغة والبلاغة.

ولا تخرج بقية الصور البلاغية عما حددناه هنا من موضوع الثورة، ففي رد الصدر على العجز نقرأ:

أعجزتَ حتى الموت لكن لن ترى
موتاً أمرَّ اليومَ من إعجازي (ص105)

وفي الاكتفاء - وهو فن بلاغي يرتبط باللفظ – دلالة أخرى على تمكن الشاعر من لغته، وعدم جعل القوافي قيدا عليه، لذا فإنه يَفطنُ إلى الاكتفاء ويحيي توظيفه الذي ربما يقف عاجزاً حياله الشعراء أنصاف الموهوبين أو بعض المستعجلين الهروبيين من اللغة وعوالمها– رغم أنها أداتهم الأقرب – فيستخدمه بكثرة في ديوانه ولا يرى ضيرا من الاكتفاء، وهو بذلك يضعنا أمام لعبة أخرى كقراء هي لعبة الصفح عن النقص في المفردة بسبب اكتمال المعنى، ووصول الفكرة، فنبتسم مندهشين لتصرفه كما فعلها البلاغيون وعدوها مهارة من مهارات الشعراء، يقول:

وهم الذين بهم ذُبحتُ هنا... ما بين نهّابٍ وديكتاتو..

(أي: وديكتاتور) ولكن رويَّ قافيته التاء المضمومة، وقد جاءت الكلمة في مكانها فهل يغيرها أم يستخدم فناً عربيا بلاغيا أصيلا؟ يزيد معناه وضوحا، ولا يمكن لمفردة أن تحلَّ محلها في الدلالة.

ويقول في قصيدة (نداء آجل) التي مطلعها

أيرقُّ أم يتلذَّذُ.. هذا المشير الجهبذُ؟!

يجد كلمة في قاموسه الشعري لا يمكن أن يؤدي غيرها دورها، فيكتفي، أي: يستخدم بلاغة الاكتفاء.

يا رافعيه وقد هوى.. واجتثَّ قلعاً من جذو.. (أي: من جذوره).

تنوع الوزن والقافية:

الشاعر يحيى الحمادي متمكن من الوزن العربي ببحوره الخليلية والتفعيلية، وقد أكثر من استخدام مجزوءات البحور، ولعل السبب في ذلك يعود إلى جماهيرية قصائده ومعرفته بذلك كشاعر له حساسيته وذوقه الرفيع بما يميل إليه الجو الثوري العام من إيقاع خفيف ووزن سريع، ثم كيف لا يتمكن من البحور، وهو يبرر لنا ذلك بهذا التبرير الظريف الذكي والجديد في ذات الوقت، ففصيلة دمه (فعو) هل سمعتم بأحد قال بهذا التلخيص من عالم الشعر والشعراء؟ فمن هذا الذي يحمل دماً ليس من فصائل الدم المعروفة، بل هو فصيلة جديدة من دم الشعر الذي يتماهى معه الشاعر، ويكون هو والقصيدة من لحم ودم وجينات واحدة، إنه كائنٌ شعري:

وأنا وأنت – أنا وأنت قصيدةٌ.. قُرأت ولكن.. من يُحسُّ ويسمعُ؟

(متفاعلن متفاعلن) متفــاعلٌ..
وحدي هنا، ودمي فصــيلته فعو
نبضي بأوزان الخليل ضبطتهُ..
نومي على مقل الحروف يـــوزّعُ

إذا كان صديقه المتنبي قد نام ملئ جفونه عن شواردها، فإن الحمادي قد وزع على مقل الحروف نومه، ألم أقل لكم إنه كائن شعري؟!

ثم تأتي قوافيه ثابتة قوية يستخدم من حروفها الروي الأصعب، وهو ما قد يتجنبه الشعراء مثل حرف: الـ (ذ، ف، ز، س، ش...الخ)، وقد أتى ديوانه على جميع حروف الهجاء، وفي أكثر من قصيدة كرر بعض الحروف بأشكالها الإعرابية فتحاً ورفعا وجراً وسكونا، فالنون مثلاً جاءت في سبع قصائد، ثم التاء في ست، ثم العين في خمس وهكذا، وقد جاءت عن قصدٍ واضح من الشاعر، وتنويع متعمّد بحيث شمل الديوان جميع الحروف، والتي لم تذكر في القصائد من قبل ذكرها في قصيدة الختام (في وداع عام الخيام) التي تنوعت فيها القوافي، وجاءت في مقاطع ثلاثية الأبيات، ولم يفت عليه من حروف المعجم سوى ثلاثة حروف لم تمثل في قوافي قصائده وهي (ض، ظ، غ) وهي آخر توليفات (أبجد، هوز،...ضظغ)، ولعلها الآن معتصمة أمام خيمة الشاعر مطالبة بحق الحياة، وبحق التمثيل في مجلس ديوانه من عام الخيام.

وعلى الرغم من عمودية قصائده في أغلبها إلا أنه قد استخدم قصيدة التفعيلة في محاولة لكسر فضاء النص الكتابي، وإن كانت في غالبيتها مقفاة بإحكام. ويظهر من التجديد في الديوان كتابة الرقم بدلا عن الكلمة في قافية القصيدة، وفيه نوع من كسر أفق الرؤية البصرية عند المتلقي القارئ تحديدا؛ لأن السماع لا يظهرها مثلا في قوله من قصيدة (تعز):

الوقتُ كان الشــعبَ.. إلا فئه
والساحةُ المليونَ.. إلا 100
والموتُ كان الموتَ لا فرق ما
بين الأيادي والْمُـــدى الظامئة. (ص117)

وفي قوله من قصيدة:

"ما أدراكِ
في (كنتاكي)
ظرفٌ كاكي
يقتلُ بالـ 1000". (ص70)

وهي من قصيدة (رباعيات الخِيام) وفي هذه القصيدة استثمر الشاعر أكثر من حاسة فالعنوان متناص مع رباعيات الخيّام وما بين كسر الخاء وفتحها وبين التشديد والفتح وبين الفتحة وحدها للياء ياتي التناص في الحركة، كما يستثمر منذ المطلع الصوت بمدلولات الجو الحربي حين لا يجد أدل على الحرب والتعبير عن صوت القذائف من الصوت نفسه الناتج عن تلك القذائف:

"قَحْ بُمْ.. قَحْ بُم
إني أنظم
و(عصرْ) و(نُقُمْ)
ترتجلُ القصف"

إذن هو هنا يوظف كل ممكنات التعبير ففي حين يأتي الصوت المشوش على نظمه يكون هناك من يرتجل، فبين الذات الفردية البشرية التي تنظم يكون هناك ذات أقوى متمثلة بجبلين شاهقين وبصوت القذائف تأتي ارتجالاً، إنه تعبير يضعنا في جو الحدث بكل مدخلاته من الحواس الخمس لكي نستنشق ونرى ونسمع ونحس ونحن نقرأ، إنها إذن ليست مجرد قصائد بل هي لوحات سينمائية ناطقة بالإحساس واللمس.

أذّن في الناسْ
إن المقياس
لشديد الباس
في واو العطف
عذراً يا واو
وهديرُ الهاو..؟!
من صوتٍ داوْ
يهتزُّ السقف.

وإذا ما خرجنا من إدهاشات اللغة وهي كثيرة، وإنما أردنا الإشارة إلى نماذج منها فإننا سنلاحظ أمراً مهما لا بد لنا من الوقوف لديه، وهو (الروح الساخرة) الواضحة في قصائد ديوانه، وهي ميزة لدى كبار الأدباء والمفكرين والفلاسفة، فحين يحتار العقل، وتختلط الرؤى، ويعمُّ الظلام والفوضى، ويغيب المنطق، عندها تحضر الروح الفكهة الساخرة، وهي واحدة من علامات الذكاء، فتفهم الحياة على أنها ملهاة و(كوميديا) باختلاف ألوانها سواء كانت بيضاء أو سوداء لا يهم، وهذه النقطة تظهر عند الشاعر يحيى الحمادي في ثنايا نصوصه، حتى في أكثرها جدية وفي وسط الدموع أحيانا لتنبري من داخل ذلك روح ساخرة كبيرة مدهشة، تتعامل مع الحياة وصروفها بكثير من الفهم والتعرية لحقائق الاشياء والتي لن تعبر عنها تمام التعبير سوى السخرية، وهي سخرية مسؤولة تأتي في موقعها المناسب، ومن أمثلة ذلك قوله في قصيدة (ترانزيت):

يا بضعة أحـزابٍ شمــــطا.. حنّت للحـــكم على كبَرِ
...يا جيل الثورة مؤتمرُ الـ.. أحزاب كحزبِ المؤتمرِ
نصحوه، وقالوا يا قــــمراً.. إن تُقـتَ إلى قـــمرٍ فطرِ
لن تبلغَ حُلمك في سـفرٍ.. حتى لو سرت على (همر)
ماتــــتْ ناقتـهُ – بــدلها.. لـكن بــحمـارٍ (ديســكفري)

ويقول في قصيدة (المؤترك) - وهو نحت للمؤتمر والمشترك - والسخرية واضحة من العنوان.
ألا لا غدتْ ثورةً هذه.. إذا ما حمارٌ بها استحمرك. (ص 118)

ويقول في (جدال المساكين):

يا وطناً تحتَ الـ (كتـيوشا).. ينضحُ أيتاماً ونــــعوشا
... يجهل ما معنى أن يفنى..بالصمت ليحيا مبطوشا
أنجب طربوشاً عطــروشا.. عفوشا أنجب كــــشكوشا (ص 114)

هذه الروح الساخرة تضع خلاصات ذكية في تحليل المواقف تدلّ على حكمة شاب متأمل يلخص الوضع ويختصر التحليلات الكثيرة والمجلدات السياسية والتاريخية في مثل هذه الخلاصة:

الجهلُ والأحـــزاب والقات.. و(الحارس المشبوه) واللاتُ
من هؤلاء يجيء يا وطني.. سيلُ التـخلفِ والخــلافـــــاتُ

وختاماً أقول إن الشاعر يحيى الحمادي واحدٌ من شعراء الجيل الألفيني، وهو الجيل الأحدث في الصوت الشعري في اليمن، والذي بدأ يبرهن عن نبوغه وتميزه في وقت قصير ظهر منه مجموعة شعراء (سماوات) وهم أحد عشر شاعرا (أنور داعر، حسن المرتضى، خالدة النسيري، سبأ عباد، عبد العزيز الزراعي، عبد القوي محب الدين، علي الفهد، مفيد البخيتي، مليحة الأسعدي، ميسون الإرياني، وليد الحسام) انتظم نتاجهم في روح تآلفهم قبل أن يبرز في ديوان وحيهم المختلف ربما أحسوا بأنهم يجب أن ينهضوا معا جماعات لا فرادى مع تميز أصواتهم الخاصة المعبرة عن شاعرية كل منهم على حدة، وهم كما وصفوا أنفسهم بأنهم (مجموعة من الشباب جمعهم الإقصاء، ووحدهم الإبداع، يعترفون بالآخر، حيث يؤمنون بمن سبق، ويرحبون بالقادم لتشكيل فضاء إبداعي نقي)، ثم تبعتهم مجموعة شعراء (أناجيل) هؤلاء الشعراء الأربعة شاعران هما: حسن المرتضى، ومحمد عبد القدوس الوزير، وشاعرتان هما: أميرة الشايف، وأحلام شرف الدين الذين شكلوا ظاهرة شعرية تجريبية مدهشة، وهذا جيل حري من الأجيال السابقة له من التسعينيين، والثمانينيين، ومن الرواد أن يستمعوا إلى صوته ويرحبوا به، لأنه صوت جدير بالمتابعة والتقييم والتأمل، وقد أثبت نجاحه في منابر الشعر العربية فبلغ الإمارة للشعر العربي الشبابي بفوز (عبد العزيز الزراعي) بلقب أمير الشعراء، وفاز بعضهم الآخر بأعلى جوائز الشعر المحلية ممثلة بجائزة رئيس الجمهورية، كزين العابدين الضبيبي وغيره، ولهم شأن وشأو لابد أنهم بالغوه.

فتحية لهذا الشاعر المتميز القادم من باقتهم الألفينية، ولإنتاجه الأول ديوان (عام الخيام) بما يحتويه من إبداع وتألق وعوالم مؤطرة بالحياة، وبنبض الشباب النقي، وأصوات الساحات الثائرة بإشراقها واختلافها وتوقها الذي أنتج مثل هذا الإبداع، وما تزال ثورة التغيير بشبابها وفلسفتها مليئة بكل جديد ومنطلقة إلى غد جميل تسير فيه اليمن إلى غاياتها المنشودة وموقعها اللائق بها بين دول العالم وشعوب الأرض المتحضرة التواقة إلى الحياة الكريمة، وإنا لبالغوها بإذن الله. وسننشد مع يحيى الحمادي، وقد بلغنا ذلك الوطن الذي نهواه.

"أنا وطني الذي أهواه
ليس حكاية تروى
لـ (أروى)
أو لـ (ذي يزنِ)
ولا بحناجر نشوى
بعزف نشيده الوطني
ولا بمناظر التلفاز
من صنعا ومن عدن
وأسقط بعدها سهوا
من المثوى
إلى المثوى
أنا وطني الذي أهواه
إن ناديتُ يااااوطني
جرى كالماء في بدني
سرى كاللحن في أُذني
وكان المنَّ والسلوى
وكان لرأسي المأوى". (ص100، 101).

مشاركة منتدى

  • مرحباً
    انا طالب فی فرع اللغه العربیه من ایران
    اسئل اذا عندکم دیوان للشاعر الشاب یحیی الحمادی او کان مقال کُتب عنه اذا ممکن ان تبعثون لی فارید کتابه مقال لنیل الدرجه وموضوع المقال هو السخریه والتهکم فی شعر یحیی الحمادی

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى