الاثنين ٢٦ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٦
بقلم حسين سرمك حسن

علي الوردي: (77) ابتكار المصطلحات المعرفية

مصطلح "إزدواجية الشخصية"

ابتكر الوردي - في سعيه لتأسيس قاموس عربي مقابل للمصطلحات والمفاهيم الحضارية الغربية - مصطلحات عربية موفقة لغويا ودلاليا . ولم يقتصر جهده هذا على مجال علم الإجتماع حسب بل امتد إلى الحقول المعرفية الأخرى ، فأول مصطلح اجترحه كان مصطلح ازدواجية الشخصية الذي جاء جديدا على القاموس التداولي في الثقافة العربية . وكانت المناسبة الأولى التي طرح فيها هذا المصطلح الجديد هو محاضرته الأولى: ( شخصية الفرد العراقي ) التي طرح فيها فرضيته الصادمة عن ازدواجية الفرد العراقي :

(( إني لا أنكر بأن ازدواج الشخصية ظاهرة عامة توجد بشكل مخفّف في كل إنسان حيث وجد الإنسان ؛ ولكني أؤكد لكم بأن الازدواج فينا مركّز ومتغلغل في أعماق نفوسنا . إن العراقي ، سامحه الله ، أكثر من غيره هياما بالمُثل العليا ودعوة إليها في خطاباته وكتاباته ، ولكنه في نفس الوقت من أكثر الناس انحرافا عن هذه المُثل في واقع حياته . زارنا من أحد الاقطار العربية كاتب ، ذات يوم ، وكان الوقت رمضان فعجب من شدة تمسّكنا بمظاهر الصوم من ناحية ، ومن كثرة المفطرين بيننا من ناحية أخرى . وربما لا نغالي إذا قلنا بأن المسلم العراقي من أشد الناس غضبا على من يفطر علنا وهو من أكثرهم إفطارا . وكذلك يمكن القول بأن الفرد العراقي من أكثر الناس حبا للوطن وتحمسا لخدمة العلم ، بينما هو في الواقع مستعد للتملص من خدمة العلم إذا آن الأوان . إنه أقل الناس تمسكا بالدين ، وأكثرهم انغماسا في النزاع بين المذاهب الدينية . فتراه ملحدا من ناحية وطائفيا من ناحية أخرى . وقد يلتهب العراقي حماسة إذا انتقد غيره في ما يخص المباديء السامية أو رعاية العدل والعفو والرحمة ، ولكننا نراه من أسرع الناس إلى الإعتداء على غيره ، ضربا ولكما ، حالما يرى الظروف مناسبة)) (550) .

ويؤكد الوردي على نقطتين أساسيتين : الأولى هي أن الازدواجية لا تعني النفاق أو الرياء وليس لها صلة بهما ، فالنفاق يشعر به صاحبه وهو يتقصّد القيام به عمدا من أجل كسب منفعة شخصية له ، أما الازدواج فهو بناء لاشعوري يعمل فيه الفرد بإحدى شخصيتيه وينسى لاشعوريا ما فعل بالشخصية الأخرى. أما الثانية فهي أن المفهوم الذي يطرحه عن الإزدواج في الشخصية لا علاقة له أيضا بمفهوم الإزدواج الذي يطرحه المختصون في علم النفس . ففي الأخير يعني الازدواج مرضا نفسيا ، أما في علم الاجتماع فهو ظاهرة اجتماعية تحدث في كثير من الناس الذين لديهم صراع ثقافي.

ويرى الوردي أن علماء الاجتماع الأجانب لم يهتموا بموضوع الازدواجية بصورة كافية لقلته في مجتمعاتهم . لكن علينا - والقول للوردي - أن لا نكون مقلّدين للباحثين الأجانب تقليدا أعمى .. لأن مجتمعنا يختلف عن مجتمعاتهم في كثير من النواحي ، والواجب العلمي يقضي أن ندرس مجتمعنا في ضوء ظروفه الخاصة به . وربما توصلنا في دراستنا إلى نتائج تختلف عما توصلوا إليه .

أسباب إزدواجية الشخصية

وللبحث في أسباب هذا الإزدواج في شخصية المواطن العراقي يحدّد الوردي ثلاث مجموعات من الأسباب :
1- الأسباب الحضارية ممثلة بصراع الحضارة والبداوة حيث نشأت في العراق أقدم الحضارات ، ولكنه كان يقع على حافة أعظم الصحارى التي صدّرت له أعتى الموجات البدوية .

2- الأسباب الإجتماعية : وتتمثل في "تجزّؤ " الجماعة الاولية، أي العائلة العراقية، في أدوار الرجل والمرأة والطفل .

3- الأسباب النفسية : وتعود إلى التربية المتزمّتة في العراق التي تخلق لدى الطفل شخصيتين : شخصية خانعة مؤدبة ، وأخرى ثائرة معتدية . وهذا يؤدي إلى شدة المكبوت في لاشعور الفرد العراقي .
مصطلح "التناشز الإجتماعي"

وارتباطا بمصطلح " ازدواجية الشخصية " هناك مصطلح لفرضية الوردي الثالثة – الثانية كانت صراع الحضارة والبداوة – عن " التناشز الاجتماعي " الذي يقول عنه الوردي أنه اصطلاح لجأ إلى استعماله لتوضيح ما يقع في الريف العراقي من تناقض أو تصادم بين القيم البدوية التي حملتها القبائل القادمة إليه من الصحراء، والظروف الواقعية التي تسيطر على تلك القبائل فيه " (551) .

يقول الوردي :

(إن التناشز الاجتماعي هو ترجمة للمصطلح الذي جاء به العالم الاجتماعي المعروف ( أوغبرن ) . وإني قد جئت بهذه الترجمة في عام 1965 عندما أصدرت كتابي : (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي) ، ثم عرضته على المجمع العلمي العراقي أملا في أن أحظى منه بجواب إيجابي أو سلبي - لاحظ معاناة الوردي مع المجمع وإهمال الأخير له فهو لم يحصل على عضويته حتى وفاته - فلم أوفق في ذلك مع الأسف الشديد . كان العالم "أوغبرن" يقصد بهذا المصطلح ظاهرة اجتماعية تُلاحظ في كل مجتمع يعاني من التغيّر ، فمن طبيعة التغير الاجتماعي أن أجزاء المجتمع لا تتغير كلها على وتيرة واحدة أو بسرعة واحدة ، فمنها ما يتغير بسرعة كبيرة ومنها ما يتغير ببطء . وهذا التفاوت في سرعة التغير يؤدي إلى ظهور بعض المشاكل في المجتمع . .. ولا حاجة بنا إلى القول إن هناك صلة وثيقة بين التناشز الاجتماعي وازدواج الشخصية في كثير من الأحيان) (552) .

وفي هامش على الصفحة نفسها يذكر ( سلام الشماع ) الملاحظة التالية:

(( اعتبرت مجلة (علوم إنسانية) في الموسوعة التي خصصتها لعلماء الاجتماع العراقيين أن من أهم أطروحات الوردي هو (التناشز الاجتماعي) ، وذكرت الموسوعة أن الوردي حوّر مصطلح ( الفجوة الثقافية ) الذي جاء به العالم الاجتماعي ( وليم أوغبرن ) وعمّمه على المجتمع العراقي والعربي )) (553) .

مصطلح "الخارقية"

ومن المصطلحات الهامة الأخرى التي نحتها الوردي هو مصطلح ( الخارقية ) كمقابل عربي للمصطلح الإنكليزي – parapsychology . وقد تناولنا هذا المصطلح في موضع سابق.
مصطلح التراثيّة

لنأتي الآن إلى مصطلح " التراثية " الذي اقترحه الوردي كمقابل عربي للمصطلح الغربي وهو " culture" . وقد جاء استخدام الوردي هذا متأخرا في الثمانينات بعد أن مر بمرحلة قلقة - إذا جاز التعبير - تجاه هذا المصطلح ، وهي المرحلة التي تحدث عنها في كتابه : ( دراسة في طبيعة المجتمع العراقي – 1965 ) حيث قال :

(( من المؤسف أن نجد المؤلفين العرب يختلفون في ترجمة هذا المصطلح [ = culture ] إلى اللغة العربية . فبعضهم ترجمه إلى " ثقافة " والبعض الآخر ترجمه إلى "حضارة". إني لا أميل إلى ترجمته إلى حضارة والسبب هو أن لفظة الحضارة استُعملت في اللغة العربية منذ قديم الزمان بمعنى " المدنية " . وعلى هذا جرى ابن خلدون وجميع المؤرخين والباحثين والأدباء العرب . فهم قد اعتادوا على تصنيف الناس إلى فئتين متناقضتين : البدو والحضر . ولهذا فإني أحب أن أحافظ على هذا المعنى القديم للفظة الحضارة ، فهي عندي بمعنى المدنية .. أما الثقافة التي يستعملها الآن كثير من المؤلفين في مصر فإني أميل إلى مجاراتهم فيها . ولكن هذه اللفظة لا تخلو من عيب . فهي قد شاع استعمالها في التداول العام بمعنى المعرفة أو التهذيب أو النضوج العلمي . فإذا وصف الناس شخصا بأنه " مثقف " عنوا أنه مهذب أو مطلع على المعرفة الحديثة اطلاعا ناضجا وعميقا . إن هذا التداول الشائع للفظة " ثقافة " قد يحدث التباسا وغموضا لدى القاريء عند استعمالها بمعناها العلمي . ولكي لا يقع مثل هذا الإلتباس سأحاول استعمال "الثقافة الاجتماعية" بمعنى " culture ". وبهذا يمكن التفريق بين المعنى العلمي والمعنى الشائع لهذا المصطلح المهم)) (554) .

ولكن قبل ذلك - وكما يقول الوردي نفسه - فإنه حاول أن يُطلق على الثقافة الاجتماعية اصطلاح "التركيب الاجتماعي" متأثرا في ذلك بنظرية "روث بيندكت" عالمة الاجتماع الأمريكية ، لكنه اضطُر إلى تركه أخيرا وفضل عليه اصطلاح "الثقافة الاجتماعية " .

في الثمانينات اجترح الوردي مصطلح : " التراثية " كمقابل لمصطلح : culture والذي أنقل هنا نصا كاملا عن الأستاذ (سلام الشماع) من مخطوطة كتابه الجديد عن الأحاديث التي أجراها مع الراحل علي الوردي يوضح فيه هذا المصطلح الجديد:
(( أقصد بالتراثية ما يسمى في الاصطلاح العلمي (Culture) ، ومعناه مجموعة المعتقدات والقيم والتقاليد والعادات والمألوفات التي يتميز بها مجتمع عن آخر ، والتي ينشأ عليها الإنسان منذ طفولته . إن الإنسان حين ينشأ في تراثية معينة يصبح كالذي يقع تحت تأثير التنويم المغناطيسي ، فهو يعتقد اعتقاداً جازماً بصحة المعتقدات والقيم التي نشأ عليها حتى لو كانت هي في حد ذاتها سخيفة أو مضرة أو غير معقولة . وبعبارة أخرى : إن الإنسان تحت تأثير التراثية التي ينشأ فيها يخضع لتنويم يمكن أن نسميه (التنويم الاجتماعي) . خذ على سبيل المثال فرداً يعيش في قرية بدائية منعزلة ، فإن التنويم الاجتماعي فيه يكون على أشدّه ومن المستحيل أن تقنعه بصحة رأي أو عقيدة مخالفة للتراثية التي نشأ فيها مهما كان الدليل العقلي الذي تقدمه إليه واضحاً ، وهذا الفرد لو أُخذ من قريته فجأة وجيء به إلى مدينة كبرى من مدن العالم المتحضر لأصيب بصدمة نفسية هي التي تسمى علمياً "الصدمة التراثية - “Culturel shock . ومن الظواهر الاجتماعية التي تدلّ على تأثير التنويم الاجتماعي في عقل الإنسان هي مقاومة الناس للأنبياء والمصلحين ، وهذه ظاهرة تُلاحظ في كل زمان ومكان ولا يمكن أن يخلو منها أي مجتمع من المجتمعات البشرية .

والملاحظ أن الناس بعد أن يقاوموا الدعوة الجديدة ويضطهدوها في بداية أمرها يدخلون فيها أخيراً حيث تصبح جزءاً من تراثيتهم .

وعند هذا قد يظهر في الناس مصلح يريد تنقية الدعوة من التحريف الذي طرأ عليها، وهذا المصلح سيجابه من الناس مقاومة تشبه تلك التي جابهها النبي من قبل.. وهكذا يسير التاريخ مرة بعد مرة . إن الناس لا يقاومون الدعوة الدينية أو الإصلاحية فقط ، بل هم يقاومون كذلك كل نظرية علمية جديدة تخالف التراثية ، التي نشأوا عليها . إن ما فعله الناس تجاه غاليلو وبرونو وداروين وغيرهم أمر معروف لا حاجة بنا إلى ذكره. يُقال عن قبائل الأسكيمو، التي تسكن في شمال أمريكا بالقرب من القطب الشمالي إن لديهم عادة هي أن الضيف الذي ينزل في بيت أحدهم يجب أن ينام مع زوجة صاحب البيت ، وقد يغضب صاحب البيت إذا وجد الضيف يمتنع عن النوم مع زوجته ، ويعتبر ذلك إهانة له . إننا حين نسمع هذا الخبر عن الأسكيمو نعتبره غير معقول ولا يمكن أن يحصل في أي مجتمع من المجتمعات البشرية ، ولكننا لا ندري أننا لو كنا نشأنا في نفس التراثية التي نشأ فيها الأسكيمو لصرنا مثلهم . وفي هذا يظهر بوضوح مبلغ العجز أو الشلل الذي يُصاب به العقل من جراء تأثره بالتنويم الاجتماعي. إننا نستطيع أن نأتي بأمثلة واقعية كثيرة في هذا الشأن ، فنحن حين نسمع عن بعض المعتقدات الموجودة لدى بعض الشعوب، والتي هي سخيفة جداً في نظرنا ، كعبادة البقر عند الهندوس ، أو عبادة الحجر عند الوثنيين ، نتعجب منها ونتساءل كيف جاز لهؤلاء أن يتمسّكوا بمثل هذه المعتقدات؟.. أليس لديهم عقول يفكرون بها؟. نحن لا ندري أننا لو كنا نشأنا في مثل تراثية هؤلاء ولم نعرف غيرها لصرنا مثلهم تماماً . إن عقلنا الآن يعتبر هذه المعتقدات سخيفة لأننا نشأنا في تراثية تستنكرها، ولو كنا قد نشأنا في بيئتهم لكان عقلنا يفكّر على نمط آخر )) (555) .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى