الأربعاء ٦ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
بقلم أسامة نصـّار طلفاح

عينٌ على مدينة مادبا

كنخلة عشقِ شامخة تطل على الماضي ، تنظر إلى الآخرين بوجهٍ مرّ عليه آلاف السنين بعيون الحاضر ، أحلامه و آماله ، تطلّ مادبا عروسٌ أردنية جميلة ، بعبق الطبيعة و الأرض و بمحاذاةٍ من شمس الأصيل ، تروي لنا مسيرةً من العطاء و التميز ، تعبر مدن السماء بروعة ممزوجة بأجمل معاني العشق والحياة ، لترسم فوق جدران القلب حلماً خريفياً و تزرع ما تبقى من ليالي العمر كاسات عشق أزلية تروي من خلالها قصة وطن و حضارة و إنسان.

مدينة الفسيفساء و الحضارة ، مدينة العشق الأزلي ، القلب النابض والإنسان ، تعتبر مدينة مادبا من المدن الأردنية الرئيسية و تقع إلى الجنوب من العاصمة عمّان على بعد 30 كيلو متر تقريباً على طريق سريع يزيد عمره عن الـ5000 عام.

وكلمة ُمادبا كلمةٌ سريانية مركبة معناها "المكان الطيب" أو المياه الهادئة ، لأن في وسع المياه أن تستقر حول المدينة و لقد كان من نصيب مادبا أن يخلد اسمها و لا يتغير على مرّ الأزمان.

تعتبر مدينة مادبا من أكبر المتاحف الطبيعية المنتشرة في العالم ، و تحتوي على كمٍّ هائل من الآثار لحضارات عدة كثيرة مرّت من فوقها منذ آلاف السنين و التي لا زال الكثير منها قائما شامخاً لغاية الآن.

وتتمتع مدينة مادبا بخصب تربتها وعلى الرغم مما اكتشف فيها من آثار إلا أن الكثير الكثير لا زال مدفوناً في جوفها . ويرجع تاريخ هذه المدينة إلى العصر الحديدي الأول (1200-1160) قبل الميلاد والذي يدل عليه اكتشاف قبر على مقربة من التل يعود تاريخه إلى ذلك العصر.

تُبهرك بشوارعها الجميلة ، "بيوتاتها" القديمة الرقيقة التي تدل على فنّ العمارة المميز ، بأجراس كنائسها الرقيقة بمآذن جوامعها ، جبالها و حقولها الخضراء ، تبهرك و تدهشك حتى يصبح عشقها كلّ برنامجك.

تحكي لنا قصص العابرين الذين مرّوا من هنا ، تروي لنا بلسانٍ "مادباويٍ" جميل عن حضارة الإنسان ، فكره و رؤيته منذ آلاف السنين و لسنوات عديدة قادمة لن تزول.

مادبا التي جعلتني من خلال أهلها و كنائسها و جوامعها و شوارعها أن أضع قطعاً من جسدي و روحي هناك بعيداً فيها لتبقى في قلبي و قطعةً من جسدي و روحي التي لن تسترد إلا بالعودة إليها من جديد ، و زيارتها في كلّ حين.

تَركتُ في مخيلتي صوراً لذكرياتٍ عابرة ، لمن مرّوا من هنا عبر سنواتٍ مضت ، صورا للقادمين و العابرين عبر مادبا ، صوراً من صوت مادبا الحبيبة ، همسات زيد و نظرات يزيد و أنغام مكادي..

تحتل مادبا في الوقت الحالي مكانة مميزة في الساحة الأردنية لما تحويه من آثار عديدة متنوعة ، سياحية ، دينية ، اقتصادية ،طبية و ترفيهية ، و تضم مادبا اليوم مراكز ثقافية و صروحا علمية مميزة على الساحة الأردنية ، و تعتبر مدينة مادبا من المدن الأردنية المشتهرة بالزراعة و تحتوي مادبا على سيول مائية عديدة ذات انسيابية مميزة جميلة .

و أكثر ما تشتهر به مادبا القطع الفسيفسائية الجميلة ، وتضم خارطةَ فسيفسائية تعود إلى القرن السادس تشمل القدس والأراضي المقدسة. تزخر الخارطة بكم هائل من الأحجار المحلية ذات الألوان المشرقة، وتعرض رسوماً للتلال، والأودية، والقرى، والمدن التي تصل إلى دلتا النيل.

تغطي خارطة الفسيفساء في مادبا أرض كنيسة القديس جورج للروم الأورثوذكس، بُنيت على أنقاض كنيسة بيزنطية قديمة جداً من القرن السادس. ويبلغ طول اللوحة التي تتضمن خارطة الفسيفساء حوالي 15.6 م. مربع وعرضها 6.94 م. مربعاً، غير أنه لم يبق محفوظاً على مر الزمن سوى ما يقارب ربعها.

هذا وتظهر قطع فنية أخرى وُجدت في كنيسة العذراء و كنيسة الرسل وفي متنزه مادبا الأثري رسماً لكمية كبيرة من الأزهار والطيور، والأسماك، والحيوانات ، بالإضافة إلى مشاهد من علم الأساطير والمطاردات اليومية لصيد الطيور والأسماك، والعمل بالزراعة.

و تنتشر القطع الفسيفسائية الرائعة المتنوعة الجمال في الكثير من بيوت مادبا و كنائسها و التي تغطي الكثير من أراضيها .
من بعض معالم مدينة مادبا الأثرية :

 السياغة أو "صياغة" ويعني اسمها الصومعة أو محبس الرهبان أو الدير أو وكر الطائر وهو جبل مرتفع بات موقعاً منذ قديم الزمن للعبادة والتنسك وقد عثر فيه على ثلاث كنائس هامة والكثير من اللوحات الفسيفسائية التي تروي تاريخ المنطقة بدقة وجمال خلاّب.

 الدير كان صومعاً للرهبان ولم يعثر فيه إلا على كنيسة صغيرة وعلى طابونين لصنع الخبز وعلى صومعة للناسك المصري وعلى بئر ماء وكانت فيه مضافة لاستقبال السياح وعثر على أقداح وكؤوس كثيرة التي تدل على كثرة زوار هذا المكان المقدس.

كنيسة القديس جورج في مادبا
كنيسة القديس جورج في مادبا

- "جبل نبو" شهدت هذه المدينة حضارة عظيمة وتقع على الطريق المؤدية إلى السياغة "صياغة" يساراً وتبعد عن عمان واحد وأربعين كيلومتراً ونبا هو اله التجارة عند البابليين.

مسلة جبل نبو
مسلة جبل نبو

وتذكر مسلة ملك مؤاب "ميشع" مدينة نبو والحروب التي دارت على ذلك الجبل . و يُطل جبل نبو بمنظرٍ رائع الجمال على فلسطين الحبيبة ، يناجيها كلّ يومٍ ، يمسح دموعها بشئٍ من عشق و محبة و يداوي جراحها بأنغامٍ عربية و نظراتٍ حزينة ، ينتظر ذلك اليوم الذي سيتوحد به معها و يقبلها ، يُقَبّل فلسطين كلّها و يضمها إليه بشغف العاشق الولهان.

 مكاور : جبل يقع الى الجنوب الغربي من مادبا، ويعود تاريخه لسنة 57 قبل الميلاد وقد حدث في قلعته مأساة قطع رأس يوحنا المعمدان.

هنالك الكثير الكثير من المعالم الأثرية الرائعة الجمال التي لن يجدها الإنسان إلا في مادبا و التي تدل على عمق الحضارة الإنسانية و الأجناس البشرية التي مرّت من هنا في أزمانٍ خلت و لكنها حاضرة بكلّ وقت و في كلّ زمان.

يقول مالك حدّاد "يحدث للإنسان أحياناً أنه إذا صادف شيئا جميلا مفرطا بالجمال رغب في البكاء" .

مادبا ؛ أنت الجمال كلّه ، تشرقين مع الشمس في كلّ يوم ، تحملين بين يديك رغيفاً من أمل و غصن وطن ، اليكِ ارتحلت نفسي يوماً ترتجي راحةً و شيئاً من أمان.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى