الثلاثاء ١٨ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٢
بقلم نادية كيلاني

غداء فاخر جدا

ألقيت بحقيبتي فوق المكتب.. انهبت علي المقعد وأنا أنفخ من الضيق:

 ما العمل يا ربي مع هذه الميزانية الشاطحة.. ليتها ميزانية بلد، لكنها ميزانية أسرة في غاية التواضع والرضا.

أمضيت وقتي في العمل أحسب بالورقة والقلم، أجمع، وأطرح، وأضرب.. والعملية لا تنضبط علي الاطلاق.

أرسل المدير في طلبي عدة مرات يستعجل الأوراق المتأخرة لدي، والتي تسبب انشغال مخي عدم انجازها.. اعتذرت له وطلبت منه مهلة إلي الغد.. لم يتضايق فهو يعلم مدي اجتهادي، وحرصي علي العمل، لكن الزميل السماوي الذي يكره عمل المرأة ويراها خادمة في بيتها أو في بيت غيرها ليس إلا أطلق سمه في عبارة أثيرة لديه يتلذذ بترديدها:

 اللعنة علي قاسم أمين،سمعت سخطه علي الرجل كثيرا ولم أرد غيبته.. أعلم بنية الزميل السماوي، ودائما أفوت عليه الفرصة، فهو يريد أن يدخلني في جدل عقيم يثبت فيه وجهة نظره الصائبة في عدم جدوي عمل المرأة وأنها لا تفلح في شيء إلا في بيتها و.. و..
هذه المرة لم أطق صبرا.. سألته في استنكار:

 لماذا تدعو علي الرجل..؟!

انتشي كمن حقق سبقا.. وقال:

 هو السبب في خروج المرأة ومزاحمة الرجل في كل مكان.

اندفعت بحرقة المطحونة من هذا الخروج:

 معك حق.. اللعنة علي قاسم أمين، لقد جعل الرجال يتمطعون علي حساب النساء، ينامون في البيوت، ويتمنون لو يرضعون هم الأطفال..!

شعر السماوي بمدي غيظي، وأنني لن أحقق بغيته في جدل يرضيه، فلن أنبري للدفاع غن عمل المرأة ، وتحقيق ذاتها كما يحب، فيجدها فرصة لإظهار المساويء التي نتجت عن ذلك، من زحام في المواصلات، وضياع للأولاد، وانتشار للبطلة، وفوق هذا كله استرجال المرأة وشعورها بالاستغناء عن الرجل مما كان السبب في فشل كثير من الزيجات و.. و.. ولما كان ردي مخيبا لظنه وأنني بدأت بالهجوم علي جنس الرجال، وفي سبيلي لإظهار عيوبهم التي اكتسبوها من اعتمادهم علي المرأة، ابتداء من راتبها، ومتابعتها للأولاد في المدارس، والمذاكرة لهم، إلي التفكير في كسوتهم، واطعامهم، وكيف أن الرجل استمرأ الراحة ما دام هناك من تقوم بالدورين.

قرا الزميل ما يدور في رأسي من تنمر عيني فآثر الابتعاد وهو يردد:

 ياساتر هذا النهار علي آخرها.

حسنا فعل.. عدت إلي حساباتي التي تجلب لي الصداع.. فمنذ أن قيدت أكثر راتبي في الإجراء الاجتماعي الذي يسمي الجمعيات الشهرية ذلك المشروع الذي يحرمك من الشيكولاتة والأيس كريم، وحتي عصير القصب واللب، وكل ما هو زائد عن الضروري في مقابل أن تقتطع جزءا من راتبك شهريا.. فإذا جاء دورك وتسلمت مبلغا لا بأس به قد يتيح لك وإن كان محدود القيمة تحقيق هدف معين، فأنت به علي موعد لشراء سلعة معمرة، أو تجديد فرش، وهذا في الحالات العادية، لكن هناك حالات أكثر رخاء ورفاهية وهي أن تجعل حصولك علي هذا المال في الاجازة الصيفية لكي تمضي إجازة سعيدة مع أسرتك.

ولما كنت من فريق المطحونين في الأرض فموعدي دائما مع بداية عام دراسي لدفع مصاريف المدارس، والمعاهد وشراء لوازمهما، لذلك فانا مرتبطة طوال الوقت بهذا النظام الاجتماعي بدون تخلف.

مشروعي يحتاج إلي أموال متدفقة ومتلاحقة، وهو تعليم الأولاد، وهو أيضا مشروع استهلاكي من الدرجة الأولي، وللأسف لا ربح له..وذلك لأن ما ينفق من مال علي تعليم الأولاد، بلا طائل من ورائه، لأنهم غير مجتهدين في دراستهم، مما يجعلهم لا يكتفون بالاستهلاك المادي فقط، بل باستهلاك الأعصاب أيضا.. أعصابي أنا علي وجه الخصوص، فهو استهلاك تام لآخر مليم، وأخر قطرة من دمائي النقية وتحويلها كلها إلي دماء عكرة.

أصبر نفسي بأنني أفعل ما يمليه علي ضميري وواجبي اتقاء لله عند السؤال.

دققت النظر في الورقة في محاولة عقيمة لتجنب هذا الفلس الذي ظهرت أثاره جلية هذه الأيام، وأثر علي مستوي التغذية، والخدمة والنظافة في البيت، وكذلك ألغي بند الترفيه بالكامل، فمنذ أن خلا جيبي من المال اكتشفت أن راتب رب أسرتي لا حول له ولا قوة وحده.
تنهدت.. منذ متي لم أتوقف عند هذه الحقيقة أن دخلي هو الذي يقوم بكل العبء..؟
كانت الأيام تمر بسلام.. الذي معه يدفع ولا فرق.. والأولاد تكبر جسديا أسرع من أي شيء أخر مما أسرع بظهور الفجوة، فنمو أجسادهم مع التعثر في الدراسة يضاعف المصاريف، ويضاعف الجهد ويضاعف القلق.

اكتشفت الآن أن سلسلة المضاعفات تقع علي عاتقي وحدي، ووحدي من يفكر دائما في سد العجز بالجمعيات ، أو بالاقتراض، وشريكي في الأولاد لا يرهق نفسه لا بالبحث ولا بالتفكير.

والآن ماذا أفعل..؟!

لقد تأخرت عن تسديد المصروفات الدراسية.. وتأخرت عن دفع ثمن فاتورة الكهرباء.. يأتي المحصل مرة وراء مرة مهددا بقطع التيار.

وتعود الأولاد علي طلب ما يحتاجونه مني زادني ضغطا علي أعصابي، وزاده راحة.

في السابق كنت استجيب علي الفور، إذ كانت النقود متوفرة، والقدرة علي التصرف وتدبير أموري مستطاع.. أما الآن فمن أمامي غير الشريك خلي البال.

 يدك معنا يا رجل.

والرجل الذي يردد طوال الوقت أن الحياة تعاون، واليد الواحدة لا تصفق، يطلق اليوم شعارا جديدا:

 لا يكلف الله نفسا إلا وسعها.. هذا راتبي، ولا أخفي عنكم شيئا..

أحيانا يستطرد:

 قلت لك مائة مرة أنت تنفخين في قربة مقطوعة.. الذي لا يفلح في التعليم يذهب بعيد عنا ويتعلم صنعة.. تعيدين له سنة وراء سنة ولا فائدة، ريحي نفسك.

منطقه اللا مبالي.. زاد أعصابي التهابا، وعجزي عن تلبية ضروريات أولادي المتمثل في تغذيتهم التغذية السليمة أربك تفكيري.

لكنه والحق يقال أصبح لا يدقق فيما يقدم له من طعام.. يأكل صامتا راضيا حتي لا يثيرني أو يجعل الأولاد يتمردون، خاصة وهو يراهم يتأففون في صمت ويتبادلون التعليقات في همس :
يقول الولد:

 إلي متي يظل هذا الحال..؟

 يرد أبوه:

 اللهم ديمها نعمة واحفظها من الزوال.

أمازلت تحسبين..؟!

ارتعدت كل مفاصلي وخرجت من تفكيري علي صوت الزميل السماوي.

أكمل اسخفافه:

 دقت ساعة الانصراف يا مدام كما وضعها قاسم أمين بالتمام.

تصنعت الابتسام:

 مزاحك مميت..!!

في الشارع غلب علي تفكيري.

 ماذا يأكل الأولاد اليوم .. لابد أن يتغذي هؤلاء الشباب حتي لا يؤثر علي صحتهم في المستقبل.. قررت أن أبيع السوار الوحيد الذي تبقي من مصاغي، وأمتعهم بثمنه لعدة أيام حتي يفرجها الله من حيث لا نحتسب.

كنت أصبر نفسي بهذا القول وأنا أتنقل من صائغ إلي آخر، رافض ما يعرضه علي من سعر، فإن كان ولابد من فقدي لهذا السوار الغالي علي- ذكري المرحومة أمي- فلن أقبل بمحاولات الابتزاز وأبيعه بالبخس.

قلت لأحدهم:

 إما أنك لص أو لا تعرف قيمة هذا السوار..؟

تبسم الرجل في خبث .. وقال:

 لا قيمة لشيء يباع.

انتزعته من يده غاضبة، واندفعت خارجة من المحل.. زكمت أنفي رائحة الكباب المنبعثة من المحل المقابل .. تسمرت في مكاني مترددة:

 هل أرجع للصائغ وأقبل بالسعر أو أواصل السعي حتي أحصل علي سعر أعلي..؟

كانت عيناي تدوران في محل الكباب تبحثان عن قائمة الأسعار فإذا بهما تستقران علي شخص يتناول غداءه، زاد اتساعهما.. لم أصدق عيني.. أهذا هو ..؟

لكنهما تؤكدان لي .. نعم هو.. شريك الحياة.. أبو الأولاد..!!

مشت قدماي حيث قادتهما العينان.. وقفت أغالب دهشتي.. أتفحص ما أمامه من صنوف الطعام، وأغلاها.

رفع رأسه فسقط السكين والشوكة من يديه.. هم بالكلام فلم يخرج صوته، هم بالوقوف فربت علي كتفه .. أن الزم مكانك.. ثم ناديت بدلا منه:

 جرسون.

أتي العامل مسرعا.

 تحت أمرك يا سيدتي.

 بعدما ينتهي البيه من غدائه جهز له وجبة مماثلة تماما بعدد الأولاد

ثم ربت علي كتفه.. قائلة:

 ليتها تصل ساخنة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى