الجمعة ١٣ شباط (فبراير) ٢٠٠٩
بقلم صلاح السروي

غنائيات الحارس السجين

اطلالة أولى على شعر حسن فتح الباب

فتح الباب بطاقة غنائية هائلة، وقودها تلك المشاعر الملتهبة والوجدان المفعم، الى جانب رؤية اكتشافية بالغة الاتساع والنفاذ. حيث استمد من وضعيته الشخصية ومعاناته الذاتية عناصر معنوية ودلالية كثيرة أجج بها هذه الطاقة وارتفع بها الى عنان السماء. فهو ذلك الضابط الذى لم يستطع - على خلاف مع متطلبات مهنته - إلا أن يكون قلبا حانيا وروحا عطوفا، غيرأنه بدلا من أن يحرر البؤساء والعناة أصبح "سجينا" مضطهد . ولعله بذلك يجسد مأساة المثقف فى العالم الثالث، ذلك الذى ينتمى الى مصالح الجماهير ويضحى من أجلها، ولكنه لايستطيع أن ينفذ الى وعيها، حتى أنه يشعر بالغربة بين ظهرانيها فى أحيان كثيرة، فاذا تمكن من حل هذه المعضلة والتحق بجماهيره اذا به تتم ملاحقته ومنعه وربما يصل الأمر الى سجنه. ولعل هذه الحالة التى يميزها الاحتشاد والروح القتالية هى التى مكنته من طرح قصيد مشبع بالمعنى ومفعم بالعاطفة، غائر فى الوجدان وقار فى الوعى، بذات القدر. وهو بذلك يكاد يجمع بين مدرستين شعريتين كبيرتين: الرومانتيكية، والرؤيوية. وهذه الأخيرة هى المدرسة التى عرفت باسم: مدرسة التفعيلة، أحيانا، ومدرسة الشعر الحر, أحيانا أخرى. والتى تقوم تحديدا على محاولة استكناه الوجود واستبارأعماقه والغوص الى مادون سطحه الظاهر.

وتتجلى النزعة الغنائية عند حسن فتح الباب منذ أعماله الأولى ( من وحى بورسعيد 1957 و فارس الأمل 1965) ، حيث تبرزالوظيفة الانشادية التعبوية المحملة بالعاطفة والانفعال التى يقوم عليها القصيد:

" والنيل يردد أغنية

تترقرق: لا تحزن ايزيس

أحمس عاد اليوم فلبى

صيحته جيل تحت الأعلام

يحمل - منصورا- قربان سلام

خبزا لم يمزج بدماء الثأر

وتفيض على الوادى الأصداء

دافقة دافئة خضراء

من خفقات الأيدى السمراء " (فارس الأمل ص40 )

فهذا الاستنطاق للطبيعة , بما يجعل النيل يردد الأغانى ،وهذا التجذير التاريخى للحالة النضالية الراهنة المتمثلة فى استدعاء أحمس وايزيس ،وهذا التعدد فى الوصف "دافقة دافئة خضراء".. الخ وأيضا استخدام أدوات النداء والنهى ، كل هذه عناصر تهدف الى التعبير عن حالة الانفعال ونقل التوهج العاطفى . وهو مايجعل من القصيدة أنشودة حماسية ذات طابع ملحمى واضح . ولا أقصد بالملحمية هنا ذلك النوع الكلاسيكى المعروف , ولكن أقصد به هذه المشاعر الفياضة المفرطة التى تحتاج - لكى يتم توصيلها الى متلقيها - الى تخييل يقوم على التضخيم و التكبير ومجاوزة المعقول ..انظر الى هذه العبارة .."وتفيض على الوادى الأصداء / دافقة دافئة خضراء / من خفقات الأيدى السمراء " . ففيضان الأصداء على الوادى هنا لايمكنه الا أن يكون مجازيا متصورا ومتخيلا ، وكأن صيحة أحمس التى بثها منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام قد ظلت باقية محفوظة الى أن بان أثرها اليوم , فقد لباها جيل ثائر "تظلله الأعلام" ، بل ان أصداء هذه الصيحة تفيض على الوادى وتحتل مسامع أبنائه ، وأكثرمن ذلك تتخذ صفات ملموسة ومرئية وهى التى تنتمى الى حقل السمعيات ، بما يعنى التجسد والسبوغ والهيمنة الكاملة ,وقد كان لخفق ايادى الثوارالأثر الأكبر فى بث الحياة فيها وبعث حيويتها التى لم يقض عليها طول الأزمان ، فأصبحت دافقة دافئة خضراء .

وتتواصل هذه النزعة وان كان بدرجات أقل , بالطبع , فى باقى أعمال حسن فتح الباب الشعرية .. و صولا الى آ خر أعناله " على سلم من هشيم الرياح "( 2006 ) عندما يقول :

" مالذى تشتهي ؟

فلسطين تحمل أغلالها

ويبكى على كتفها الصليب

ويحنى الصنوبر والغار أغصانه كى يمر الشهيد

طريق العذابات يبكى ويدمى

بلحم يسوع صريعا".. (ص 10 )

حيث نلاحظ هنا تواصل استخدام ذات التقنيات المؤدية الى هيمنة النزعة الغنائية , وان غلبت عليها مسحة رثائية واضحة ، بعد أن ضاق به الحلم وقصرت به المآلات فاذا به لم يعد يشتهى شيئا ، وهو ما نفهمه من هذا الاستفهام الاستنكارى ،فلم يعد لديه مايمكن أن يشتهيه ، ليس لأنه قد حصل على كل ما يريد ، لكن - تحديدا - لأنه لم يحصل على أى شيىء . ففلسطين لاتزال فى أغلالها ، بل لقد بلغ من مأساوية وضعها أن الصليب الذى تحمله على كتفها هو الذى يبكى , ربما رثاء وحزنا عليها ، فى صورة كثيفة العناصر بالغة القوة والتأثير . فلو قال الشاعر أن فلسطين هى التى تبكى حاملة صليبها ، لأصبحت الصورة عادية مكرورة أما أن يبكى الصليب ، وهو المحمول ، فما بالك بمن يحمله . ان رمز الصليب هنا يعيد موضعة القضية الفلسطينية ، بكاملها ، فى منطقة المعاناة الكونية اللدنية ، فهى بفعل هذه الصورة تتماهى مع السيد المسيح الذى جسدت نهايته كل معانى النكران والجحود ، اذا وضعناها فى مقابل دعوته التى تناقض كل ما مارسه ضده أعداؤه . فهو الداعى الى المحبة والوداعة والخير ، بينما لا يجابه الا بالقمع و النكال . كما أن الصورة هنا يمكنها أن تمنح تأويلا أضافيا ، من زاوية أن الصليب يمكن أن يتماهى مع الوليد الذى تحمله المرأة على كتفها ويبكى , وهو ما يجعل حمل فلسطين لأبنائها البؤساء - الطفل الباكى - ما يشبه القدر المؤلم الذى يمثله الصليب والذى يمثل ، الى جانب ذلك معنى الخلاص والافتداء .أن هذا المعنى الأخير يمكن أن يؤكده الاستطراد المأساوى المتمثل فى احترام عناصر الطبيعة من أشجار الصنوبر ونبات الغار لموكب الشهيد .

وكما يبكى الصليب آلام فلسطين المتماهية مع السيد المسيح فى الألم والغاية والمصير ، كذلك يبكى طريق العذابات ، طريق الآلام ، ويدمى بلحم يسوع الصريع . هكذا تحتشد كل الأدوات التعبيرية لكى تحقق تلك الرؤية الغنائية الأسيانة الملتاعة .

ورغم الفارق الذى نلاحظه بين الرؤيتين - فى كل من الديوان الأول و الديوان الأخير - حيث ذلك المنحنى الهابط من علياء التفاؤل والروح القتالية الوثابة ، الى وهدة الألم والحزن , وربما اليأس . رغم هذا الفارق الا أن مايوحد بينهما هو هذا التوهج العاطفى والتوقد الانفعالى الذى يتوسل بكل الأدوات الفنية و الجمالية القادرة على صنع الصورة الشعرية ذات الكثافة المعنوية والدلالية .

الى جانب هذه الغنائية الواضحة , بطرفيها , الثائر والحزين , توجد نزعة أخرى لا تخطئها العين ولا الواعية , تلك هى الشعرية الرؤيوية التى يصبح فيها الشاعر صنو المتصوف الباحث عن "لؤلؤة المستحيل" وقرين الباحث فيما وراء السطح الظاهر الذى يحاول أن يلمس "قلب الأشياء" . نلمس هذا بوضوح فى ديوان "مواويل النيل المهاجر" (1987) ، حيث تتحول العناصر والأخيلة من أدوات للتعبير الى أدوات للتأويل , من أدوات للتأثيرالى أدوات للكشف عن مكنون وحقائق جديدة للأشياء غير مدرجة وغير شائعة .. يقول :

"حبيبى هذه مصر على الأفق أفق

ها هو الحلم على النهر وطن

لم يجف النيل فى الوادى

وظل الحب لما يحترق

ياحبيى هذه مصر أفق " (ص42 )

فاذا وضعنا على فاء كلمة "أفق" الأخيرة فى السطر الأول ضمة ستصبح مصر هى الأفق على الأفق أى أنها تظلل الوجود وتهيمن على المشهد أنى توجهنا ، وهو ما يطرح اكتشافا لمعنى جديد للوطن , خاصة فى الغربة ، عندما يصبح الوطن هو الهوية الوحيدة التى يمكن أن يبرزها المرء أمام كل من يقابله وأمامه تنمحى كل الانتماءات وتتراجع كل الانتسابات . أما اذا وضعنا أسفل الفاء كسرة بمعن أن تكون الكلمة فعل أمر بدعوة الافاقة فانها تشكل مع العبارة التالية لها بنية مفارقة مدهشة أيما دهشة ، ففى الوقت الذى تقول فيه المحبة لحبيبها "أفق" ، فانها تشيرالى الحلم الذى أصبح وطنا على النهر ، وهى هنا تشير الى أن ما كانا يحلمان به ( اى مصر) فى نومهما ويقظتهما قد تجسد أمامهما وطنا جميلا على ضفاف النهر . وهى صورة تعتمد على بذرة المراوحة بين الحلم والحقيقة ، فأيهما كان الحقيقة وأيهما كان الحلم ، وهل هى (أى مصر) فى الحقيقة كما كنا نحلم بها . فلقد بقى الحب فيها لايغيب ولا يغيض , لكى تأتى العبارة الأخيرة .."ياحبيبى هذه مصر أفق" .. موحية ودالة بقوة ، ففضلا عن كونها قد جاءت بمثابة القفل على الأغصان - اذا استعرنا بناء الموشحات - فانها يمكنها ان تتبادل مواقعها مع العبارة الأولى فتصبح "أفق" بكسر الفاء وضمها على حد سواء . ان ما أهم ما حققه هذا البناء ، هو أنه قد خلق وضعية مراوغة قابلة للتأويل والمراجعة الرؤيوية على أكثر من وجه وأكثر من زاوية رؤية . وقيمة ذلك أنه يثير الخيال ويثرى الوعى ويبعث على معاودة النظر بغية الكشف من جديد عن حقائق للأشياء التى من فرط ألفتنا بها عدنا لانعرفها وربما لانراها .

وهوأيضا ما نجده فى ديوان "كل غيم شجر - كل جرح هلال" .. حين يقول :

عجلات الطاحون الأسود

تردى المردة

تودى بالشبح الأوحد

لكن الطاعون

قدر الأقزام المغمورين

لا تجزع

أنصت .. ودع الشجو

فالأرض تدور

تأخذ زخرفها .." (ص 71)

ان المهم هنا هو الاشارة الى هذه الطاقة المعرفية الاكتشافية التى تذخر بها هذه الأسطر ، بدءا من عنوان الديوان ، الذى يكاد يخلق معانى جديدة للغيم وللجرح بقرائن ظاهرة أو خفية ، من قبيل أن الغيم ينزل منه الماء فينبت الشجر, مثلا ، أو أن الغيم فى تبدياته المتحولة الأشكال تكاد تشبه الأشجار و غيرها من الأشكال ، الا أن امكانية تحول الجرح الى هلال ، بقرينة المشابهة الخارجية انما هو التأويل الأجمل والأكثر براعة والذى يمكن أن يحول الجرح من مادة للألم واليأس الى وحدة جمالية يمكن التأمل فيها والاعجاب بها ، بل والاسبشاروالفرح أيضا كما يحدث مع الهلال . وهى نفس الامكانات التأويلية التى يمكن أن تمنحها لنا تلك الأبيات التالية .. فمن يمت تحت عجلات دولاب العمل ( الطاحون ) انما هم العمالقة المردة الذين يموتون ميتة الشرف والاباء ، أما الموت بالطاعون فهو موت الجرزان عديمة القيمة والشأن . وعلى الرغم من الطاقة العاطفية العالية فى هذه الأسطر - من حيث تمجيد قيم معينة - الا أن هذه الطاقة تتوارى أمام هذه المقارنة ذات الطابع المعرفى الاكتشافى . فتأتى عبارة "لا تجزع" وما يليها , الى أن تصل الى العبارة الخاتم التى تمثل حصيلة المعنى وآية القطاف " فالأرض تدور / تأخذ زخرفها " فيصبح الدوران للأرض بمثابة البشارة والوعد الذى لايبقى حالا على ماهو عليه من بأس وظلم وعبت .

ولقد تزاوجت مع هذه الوجهة الشعرية وجهة أخرى تمثلت فيما يمكن تسميته بالوجهة الدرامية ، وهى تتناثر فى مختلف دواوين حسن فتح الباب ، حيث تقوم على تعدد الأصوات وتجادلها وتحاورها ، بما يطرح أبعادا متعددة للحالة الموعى بها ـ تنقلها من كونها حالة فردية خاصة الى جعلها تحمل خاصية العموم والسبوغ ، وهو الأمر الذى نجده فى ديوان " الخروج الى الجنوب " ( 1998) .. عندما يقول :

أسألكم .. أسألنى :

لم أمسى كل صباح أغدو كل مساء

رهن الأحياء ؟

يعلونى الجبل العاتى

يناى بى الفلك الدوار" (ص 83 )

الى أن يقول:

"من زهرة الصبار فاغما أتى عطر (المسيح)

واغتسلت بمائه القروح

لوح (يوحنا) الوديع للحمام فى الغمام

بريشة من دمه المطلول

فاورق الورد العليل

وجمعت (زينب) أشلاء (الحسين)

فانتفض الضريح ". ( ص86 )

فالسؤال فى الفقرة الأولى يستتبع بالضرورة مسؤلا أو سامعا , ومن الممكن أن يكون هذا المسؤل هو ذات الشاعر نفسه حيث يشكو لواعجه وآلام ضعفه وغربته . الا أن الفقرة الثانية تكاد تمثل صوتا لشخص آخر جديد , يأتى كمن يواسى آلامه ويحمل له البشارة فهاهو عطر المسيح وتلويحة يوحنا واخلاص زينب وحنانها . ان استدعاء أبطال التاريخ وسير الأنبياء انما يستمد أهميته من كونه يحيل الى علامات قارة فى الوجدان والوعى الانسانيين ، بما يحمله من دلالات جاهزة و معانى مستقرة واضحة ، وعندما يتم هذا الاستدعاء فانه يمكن تحميلها ،دون جهد كبير،بمعانى جديدة . كما أنها تجعل الحالة الراهنة فى اشتباكها مع القديم ،موحية بسرمدية المعاناة وتاريخيتها . ومن هنا تصبح الآمال المعقودة على الخروج منها أكيدة فى ضوء الخبرة التاريخية المستدعاة والتى تتمتع باليقين الكامل والمطلق فى صحتها .

هكذا تكتمل عناصر وملامح الفعل الشعرى عند حسن فتح الباب والتى تشى بمدى غنى وثراء هذا الشاعر الرائد والمجدد على حد سواء

اطلالة أولى على شعر حسن فتح الباب

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى