الثلاثاء ٢٤ آذار (مارس) ٢٠٢٠
بقلم رامز محيي الدين علي

فلسفةُ الحُبِّ والجمالِ

في الفكرِ والأدبِ (دراسةٌ نظريّةٌ- تطبيقيّة)

المقدِّمةُ:

بدايةً لا بدّ لي من الوقوف على ماهيةِ الحبِّ والجمال ومفهومِهما في شتّى ميادين الفكرِ والأدب، سواء كانت لغويّةً أم أدبيّة أم فلسفيّة أم نفسيّة أم مفهموماً عالميّا عامّاً.. لأنّ هذين الموضوعينِ من أكثرِ الموضوعات التي شغلت حيِّزاً كبيراً من الخيالِ والفكر الإنسانيِّ العامّ في كلّ مراحلِ التّطوّرِ الإنسانيِّ منذ بدايةِ فجر التّاريخِ إلى وقتِنا الحاضر؛ وكان لهما آلهةٌ تعبّدت في محاريبِها شعوبُ الحضاراتِ القديمة، كما نرى ذلك عند السّومريّينَ والكنعانيّين والإغريقِ والرّومانِ والعرب وغيرِهم، كالإلهةِ (نمو) و(إنانا) عند السّومريّين، والإلهةِ (منخور سانجا) سيّدةِ الجبل وهي كُبرى الإلهاتِ وكان لها معبدٌ في بابل، والإلهةِ (عشتار) عند الكنعانيّين إلهةِ الحبِّ والجمالِ والخصب، و(أفروديت ) إلهةِ الحبّ والجمالِ عند الإغريقِ و(فينوس) عند الرّومانِ، و(اللّات والعزّى) عند العربِ.

وفي الحضاراتِ الحديثة أصبحت قوّةُ السّطوةِ والمال والتّكنولوجيا المدمّرةِ إلهةَ الحبِّ والجمال في أبهى صورِها، تستعرضُ مفاتنَها في قممِ الدّولِ الصّناعيّةِ العظمى التي تسحقُ بأقدامِها الهمجيّة كلَّ رموز الجمالِ الإنسانيِّ الذي حباه الخالقُ مخلوقاتِه في كونِها الطّبيعيِّ.

كما حلّت في عصرِنا الحديثِ معارضُ الجمال الإيروسيّ مكانَ معابدِ الجمالِ في الحضاراتِ القديمة، وصار التّعبُّدُ عن بعدٍ، وأضحى المالُ وسيلةً من وسائلِ العبادة للوصولِ إلى أفئدةِ آلهاتِ الحبِّ والجمال الذي أُقيمتْ له المحافلُ الدّوليّة، واختُرعت من أجلِه أحدثُ المقاييسِ التّقنيّة؛ لإبرازِ سحر المفاتنِ بطرقٍ استعراضيّة تستنطقُ العميانَ والخرسانَ والصُّمَّ والبُكمَ!

وبعد أن أستجليَ مفاهيمَ الحبِّ والجمال في الفكرِ الإنسانيِّ بشكلٍ واضح، أستطيعُ أن أضعَ مرآةَ فكري في ربوعِ قصائد بعضِ الشعراء وحدائقِ الكتّابِ وبساتينِ المفكِّرين والحكماءِ وما أنتجَتْه قرائحُهم من وحيِ الحبِّ والغرام، وما أبدعتْه سجيَّتُهم من صورِ عتباتِ الجمال المقدَّسةِ بكلِّ معانيها؛ وعندها تكونُ ريشةُ يراعتي قادرةً على التّصويرِ والتّحليل، ورسمِ الملامحِ المتشابهة، وإبرازِ المعالمِ المختلفةِ بين شتّى الأدباءِ والمفكّرينَ باختلافِ الأزمنةِ وتنوُّع الأمكنةِ، وتباينِ البيئاتِ المحيطةِ بهم، وتباعدِ الخلفيّاتِ المرجعيّةِ لكلٍّ منهم!

وقد رأيتُ من المنهجِ المنطقيِّ أن أقسِّمَ دراستي إلى أربعةِ فصولٍ، يتمحورُ فيها الفصلانِ الأوّلُ والثّاني في دراسةٍ نظريّةٍ، بينَما يتمركزُ الفصلانِ الثّالثُ والرّابعُ حول دراسةٍ تطبيقيّةٍ تحليليّةٍ لنماذجَ أدبيّةٍ وفكريّةٍ في الأدبينِ العربيِّ والغربيِّ.

يتناولُ الفصلُ الأوّلُ منها دراسةَ فلسفةِ الحبِّ دراسةً نظريَّةً تقفُ على مفهومِ الحبِّ لغةً واصطلاحاً في علمِ النّفسِ وعند الفلاسفةِ الغربيّين وكذلك عند الأدباءِ والفلاسفةِ العربِ، وبعدَها أقفُ على درجاتِ الحبِّ عند الغربيّين والعربِ، ومن ثمَّ أعرّجُ على أنواعِ الحبِّ في الفكرِ الغربيِّ؛ لأربطَها بما يماثلُها في الفكرِ الإسلاميِّ.

ويتناولُ الفصلُ الثّاني منها- دراسةً نظريّةً أيضاً- فلسفةَ الجمالِ لغةً واصطلاحاً عند المفكّرينَ وأساطينِ الفلسفةِ الغربيّةِ والإسلاميّةِ، كما أقفُ عند أصنافِ الجمالِ، ثمّ أعرّجُ على أهميّةِ وجودِ الجماليَّاتِ الطّبيعيّةِ؛ لأربطَها بما وردَ منها في الفكرِ الإسلاميِّ والغربيِّ، من خلالِ صلةِ الجمالِ بالخيرِ وتحقيقِ المثلِ الأعلى.

أمّا الفصلُ الثّالثُ فسوف يقومُ بدراسةٍ تطبيقيّةٍ تحليليّةٍ لنماذجَ من الأدبِ والفكر العربيِّ والغربيِّ في موضوعِ الحبِّ وأنواعِه، حيثُ أختارُ أجملَ ما تتذوَّقُه قريحتي، مُبرِزاً القيمَ الأدبيّةَ والفنّيةَ والتّعبيريّةَ في كلِّ ما أعرِضُه من نماذجَ مختارةٍ من مختلفِ أنواعِ الفكرِ والأدبِ.

وأمّا الفصلُ الرّابعُ فسوف يتناولُ كذلك دراسةً تطبيقيّةً تحليليّةً لنماذجَ من الأدبِ والفكرِ العربيِّ والغربيِّ في بحثِ الجمالِ وأنواعِه، إذ أقومُ بإيرادِ نماذجَ نثريّةٍ وشعريّةٍ في ميدانَي الفكرِ والأدبِ من عيونِ الأدبينِ العربيِّ والغربيِّ.

الفصلُ الأوَّلُ- فلسفةُ الحُبِّ:

مدخلٌ:

يُمكنُ تعريفُ الحبِّ بشكلٍ عامّ على أنّه حالةٌ تنشأُ نتيجةَ الشّعورِ بالإعجابِ بشخصٍ ما، أو الانجذابِ إلى شيءٍ ما، وقد فسّرَه الكثيرُ من العلماءِ على أنّه كيمياءُ مشتركةٌ بين شخصينِ، وقديماً قالتِ العربُ:"حبُّكَ الشّيءَ يُعمِي ويُصِمُّ"، وذلك لأنّ الحبَّ طاقةٌ إيجابيّةٌ تَعمى عن المثالبِ والنّقائصِ، وتَشِيدُ في عالمِها مدناً من الجمالِ المثاليِّ، وترسمُ في الخيالِ عالماً مثاليّاً يتجاوزُ آفاقَ الزّمانِ والمكانِ في عالمِ الواقع.

وللحبِّ تعريفاتٌ عديدةٌ، إذ يمكنُ لكلِّ شخصٍ منّا أن يعرّفَ الحبَّ تبعاً للمرحلةِ العمريّةِ التي يمرُّ بها، وتبعاً للطّريقةِ التي تعلَّم الحبَّ من خلالِها، ومهما تعدّدتْ تعريفاتُ الحبِّ، فإنّ معظمَها صحيحٌ، فالحبُّ هو انجذابُ الأشخاصِ بعضِهم لبعضٍ، وهو أن يشعرَ المرءُ بانجذابِه وإعجابِه بشخصٍ ما أو بشيٍ ما. ويمكنُنا أن نعرّفَ الحبَّ على أنّه شعورٌ عاطفيٌّ بين الأشخاصِ، وهو ما يعبّرُ عن قمّةِ العطاء وعمقِه من شخصٍ تجاهَ شخصٍ آخرَ، كما إنّ الحبَّ يعبّرُ عن المودّةِ العميقةِ والمشاعرِ الدّافئةِ التي تنتجُ عن تعلُّقِ شخصٍ بآخرَ، كتعلُّقِ الطّفلِ بوالديهِ، أو تعلُّقِ الفردِ بأصدقائِه، كما يمكنُ التّعبيرُ عن الحبِّ بأنّه العلاقةُ الغراميّةُ والعاطفيّةُ، والرّغبةُ الجنسيّةُ بين الأفرادِ، وجاء تعريفُ الحبِّ في معجمِ (ويبستر) بأنّه ظاهرةٌ من الظّواهرِ الإنسانيّةِ رفيعةِ المستوى التي تتأصّلُ في نفوسِ البشرِ، وهي عواطفُ وجدانيّةٌ نابعةٌ من العقلِ.

أولاً- الحبُّ في اللُّغةِ:

وفي اللّغةِ فقد تمّ تعريفُ الحبِّ على أنّه كلُّ معنىً يحملُ في جوهرِه الغرامَ والمحبّة، ولم يُحسَمْ أصلُ أو اشتقاقُ كلمةِ (الحُبّ) لغويّاً. فهناك من يقولُ بأنّ الحبَّ "مأخوذٌ من الحِبّةِ -بكسرِ الحاء- وهي بذورُ الصّحراءِ، فسُمّي الحُبُّ حبّاً؛ لأنّه لبابُ الحياةِ كما الحَبُّ لبابُ النّباتِ". وفي روايةٍ أخرى، يُقالُ بأنّ "الحُبَّ" جاء من كلمةِ "حُبَاب" والحُبابُ هو الذي يعلُو المياهَ عند شدّةِ المطر. بمعنى أنّ غليانَ القلبِ وخفقانَه عند الاضطرامِ والاهتياجِ إلى لقاءِ المحبوبِ يُشبهُ الحُبابَ. والحُبُّ: (اسمٌ) والجمعُ: أَحبابٌ، و حِبَبَةٌ، وحِبابٌ، وهي مصدرُ حَبَّ يحبُّ حُباً، ويُقال: يُكِنُّ لَهُ حُبّاً عَميقاً: مَحَبَّةً، وله أنواعٌ، منها:
حُبُّ الذَّاتِ: تَقْديمُ الذَّاتِ وَتَعْظِيمُها، الأَنانِيَّةُ.

حُبُّ الاِسْتِطْلاعِ: الْمَيْلُ إلى مَعْرِفَةِ الأشْياءِ والاِطِّلاعِ عَلَيْها.

الحُبُّ الإِلَهِيُّ: حالَةٌ مِنَ حالاتِ التَّصَوُّفِ تُحَرِّكُها رَغْبَةٌ عَميقَةٌ في مَعْرِفَةِ الذَّاتِ الإِلَهِيَّةِ.

الحُبُّ العُذْرِيُّ: التَّعَلُّقُ الطَّاهِرُ والعَفيفُ بِالْمَرْأَةِ عِشْقاً وَوَلَهاً.

حُبّاً وَكَرامَةً: مِنَ العِباراتِ الْمُتَداوَلَةِ لِلتَّعْبِيرِ عَنِ التَّرْحيبِ.

حُبّاً لَهُ: بِدافِعٍ مِنَ الْمَحَبَّةِ.

الحُبُّ: الوِدَادُ.

الحُبُّ (عند الفلاسفة): ميْلٌ إِلى الأشخاص أو الأشياءِ العزيزةِ، أو الجذَّابةِ، أَو النّافعةِ.
الحُبُّ: وعاءُ الماءِ كالزِّيرِ والجرَّة.

حُبُّ التَّسلُّط: الرّغبةُ في التّسلُّط.

حُبُّ الظُّهور: التَّباهي، رغبةُ الإنسانِ في الكشفِ عن صفاتِه ومزاياهُ وفي عرضِ ما يَلفتُ الأنظارَ إليه.

عُقدةُ الحُبِّ الصَّادق: الرِّباطُ الذي يدلُّ على استمراريّةِ العهدِ بين المحبِّين.

ثانياً- الحبُّ في علمِ النّفس:

أمّا من وجهةِ نظر علماءِ النّفسِ، فالحبُّ هو كلُّ إحساسٍ جميلٍ يشعرُ به الإنسانُ، ويتركُ أثراً إيجابيّاً معيّناً في أصحابِه، ويمكّنُهم من البقاء على قيدِ الحياة بصورةٍ أفضلَ من السّابقِ، وقد أعطى علمُ النّفسِ العديدَ من الأمثلةِ لتوضيحِ معنى الحبِّ بشكلٍ أفضلَ، كحبِّ الوالدينِ لأطفالِهما والحبُّ بين الزَّوجين..

وقد عرّفَ علماءُ النّفسِ الحُبَّ على أنّه شعورٌ فسيولوجيٌّ يؤثِّرُ على سلوكِ المُحبِّ إيجاباً أو سلْباً، ويسيطرُ على أعضائِه وحواسِّه، أمّا (فرويد) فيقسِّمُ الحُبَّ إلى نوعينِ:
الحبُّ النّرجسيُّ: وهو أن يحبَّ الإنسانُ ذاتَه، ويتعلَّقَ بها، ويبحثُ عمّن يشبهُها ويحقّقُ مصالحَها.

الحبُّ الموضوعيُّ: وهو أن يُحبَّ الإنسانُ شخصاً أو شيئاً ليس له علاقةٌ بذاتِه ولا يكون شعورُه مبنيّاً على مصالحَ شخصيّةٍ؛ فالشَّخصُ هنا من وجهةِ نظرِ (فرويد) يسعى للتّكاملِ مع المحبوبِ.

ثالثاً- الحبُّ عندَ الفلاسفةِ:

يمكنُ تفسيرُ الحبِّ في أغلبِ المعاجمِ الفلسفيّةِ على أنّه نوعٌ من العاطفةِ الجاذبةِ لشخصٍ ما نحو شخصٍ من الجنسِ الآخرِ، وبهذا فهي تحملُ معنىً خاصّاً مصدرُه الشَّخصُ الأوّل. إضافةً لهذا فإنّ الميلَ الجنسيَّ يُعتبرُ نوعاً من اللّذةِ التي تَنشُطُ نتيجةَ الحبِّ، وتكون هذه اللَّذّةُ ماديّةً أو معنويّةً، وبمعنىً آخرَ فالحبُّ فلسفيّاً يعني الميلَ إلى الشّيءِ أو الأمرِ السَّارِّ، بهدفِ إرضاءِ غاياتٍ روحيّةً أو ماديّةً. والحُبُّ كلمةٌ غيرُ مرتبطةٍ بشيءٍ حقيقيٍّ أو محسوسٍ، فهو شيءٌ لا يُمكنُ إدراكُه بالعقلِ أو شرحُه بالمنطقِ، والحُبُّ هو ما يجعلُ الإنسانَ يَظهرُ بشخصيّتِه الحقيقيّةِ. وقد بدأتْ فلسفةُ الحُبِّ عند الإغريقِ، حينما كانوا يَرون أنّ الحُبَّ هو من الدَّعاماتِ الأساسيّةِ للفلسفةِ، وشرعُوا في بناء النّظريّاتِ المُتعدِّدة التي طوّرتِ الحُبَّ من مفهومِه الماديِّ إلى مفهومِه الرّوحيِّ في أسمى سِماتِه، مع النّظرِ إلى الحُبِّ على أنّه صفةٌ أساسيّةٌ وجينيّةٌ تظهر آثارُها في سلوكِ الكائناتِ الحيّة.

يرى (أفلاطون) أنَّ الحُبَّ سلسلةٌ من المشاعرِ والأحاسيسِ التي تسيطرُ عليها الرَّغبةُ الحيوانيّةُ، ووصف الشّخصَ الباحثَ عن الحُبِّ بأنّه نصفٌ يبحثُ عن نصفِه الآخرِ، كما رأى أنّ الحُبَّ ما هو إلّا وسيلةٌ للخلاص؛ فهو الطّريقُ نحو التّحرُّرِ الفكريِّ والعاطفيِّ الذي يقودُ الإنسانَ إلى حُريّتِه.

ويُعدُّ (أفلاطون) من أعظمِ مَن استطاع التّعبيرَ عن موقفِ الإنسان حين يجدُ نفسَه ممزَّقاً بين وجودِه الأرضيِّ وبين تطلُّعِه إلى العالمِ الأعلى، حيثُ الجمالُ والكمالُ والخلود، فهو لا يستمدُّ عبقريَّتَه من ملكتِه العقليّة وحدَها، وإنّما من عاطفةٍ ووجدانٍ وإلهامٍ إلهيٍّ لا ينعمُ بها سوى الصّفوةُ المختارةُ من الفلاسفةِ لتدرُّجِهم في مراتبِ الحبِّ. والحبُّ ليس جميلاً، لكنّه أكثرُ الكائناتِ رغبةً في الجمالِ لأنّه يهدفُ إلى الخلقِ في الجمالِ، أي مشاركةُ الطّبيعةِ الفانيةِ في الخلودِ.

أمّا (أرسطو) فيرى أنّ الحُبَّ علاقةٌ تعبِّر عن جسَدَين بروحٍ واحدةٍ، وهو شيءٌ غيرُ مُنتهٍ، فالحُبّ الذي يَنتهي لا يكونُ حُبّاً حقيقيّاً، كما يرى أنّ الحُبَّ أسطورةٌ من الأساطيرِ التي تعجزُ البشريّة عن إدراكِ ماهيّتِها، ولا يعبّرُ عنها إلّا من صدَّقَها في معناها، والحُبُّ قوّةٌ لا يُمكن إدراكُها أو شرحُها، تُدْخِلُ الإنسانَ في عالمٍ آخر، وتُبدّلُ شخصيّتَه؛ لتُظهرَها على حقيقتِها، ومن ثمّ تُظهِرُ الأنا المتخفّيةَ في الأعماقِ، وتدفعُ المحبَّ إلى إظهارِ ما يُخفِيه، فيتخلّى عن حُبِّ السّيطرةِ والتّملُّك والأنانيّةِ ويُطلقُ العنانَ لمشاعرِه.

وأمّا (سقراط) فيرى أيضاً أنّ الحُبَّ الذي يَنتهِي ليس حبّاً، وهو يُعطي الحُبَّ رِفعتَه ومكانتَه المقدَّسةَ، فالحبُّ عنده هو شوقُ النّفسِ إلى الجمالِ الإلهيّ الذي لا ينضُبُ ولا ينتَهي.

وثمّةَ تفسيراتٌ عديدةٌ في فكرِ الفلاسفةِ تعبِّرُ عن مفهومِ الحُبِّ، تربط الحُبَّ بالطّبيعةِ والحياةِ البشريّةِ بطرقٍ مقنعةٍ، وذلك اعتماداً على الطّبيعةِ البشريّة، والأخلاقِ، والرّغبةِ الجسديّة.

رابعاً- الحُبُّ عندَ الأدباءِ والفلاسفةِ العرب

للحُبِّ في نظر الأدباءِ والفلاسفة العربِ وجهاتُ نظرٍ وآراءٌ عديدةٌ، وله مؤلَّفاتٌ خاصّةٌ متعدِّدة، فقد تناولَ الجاحظُ الحُبَّ في كتابِه (النِّساء)، وفي كتابِه (رسالةُ القِيان)، فيرى أنَّ الحبَّ هو ذلك الشُّعورُ العقلانيُّ البعيدُ عن اللَّهو، وقد طالبَ النَّاسَ بمقاومتِه.

ويرى ابنُ حزمٍ الأندلسيُّ في كتابِه (طوقُ الحمامةِ في الأُلفة والأُلّاف) أنّ الحُبَّ يبدأُ بالهزلِ، وينتهي بالجِدِّ، وهو شيءٌ لا تُدرَكُ معانيهِ ولا يوصَفُ إلّا بالمعاناةِ، كما يقولُ إنّ جميعَ أنواعِ الحُبِّ القائمةِ على المنفعةِ الحسِّيّةِ تزولُ بسرعةٍ، وتنتهي بانتهاءِ عِللِها باستثناءِ العشقِ المتأصِّلِ والمتوغِّلِ في النّفسِ، فلا ينتهي إلّا بالموتِ.

ويرى أبو بكرٍ الرَّازيّ أنّ الإنسانَ يُبتَلى بالعشقِ، لذلك نادى بضرورةِ الابتعادِ عنه؛ إذ وجدَ أنّ العشقَ يقع لمن هو قليلُ الحظِّ ومن يفضِّلُ الرّغباتِ الحسّيّةِ على الرُّوحيّة.

أمّا ابنُ سينا فيرى رأياً مماثلِاً لرأيِ أبي بكرٍ الرّازي في أنّ الحبَّ عِلّةٌ ومرضٌ، وقد تطرّقَ في كتابِه (القانون) إلى العلاماتِ التي تَظهرُ على مَن يُحبُّ، منها: تشتُّتُ الذِّهنِ واختلاطُه، وفسادُ مخيِّلتِه، بالإضافةِ إلى الهذيانِ والحماقةِ، كما قارن بين العشقِ وحالةِ الاكتئابِ عند فراقِ المحبوبِ وهجرانِه؛ ففي الاكتئابِ تتغيّرُ الحالةُ النّفسيّةُ للفردِ من الفرحِ إلى الحزنِ، ومن الضَّحكِ إلى البكاءِ.

وأمّا مُحيي الدّينِ بنُ عربيّ، فقد عبّرَ عن الحبِّ في كتابِه (الفُتوحات المكّيّة)، بقولِه: "إنَّ من علاماتِ الحبِّ عدمَ مقدرةِ المُحبِّ على النّومِ، وإنّ العشقَ يكون لذاتِه، أي أنّ الغايةَ هي العشقُ وما بعدَه غاية".

وقد ضرب أمثلةً في العشقِ، منها: عشقُ قيسِ بن الملوّحِ لليلَى؛ إذ كان يكرِّرُ اسمَها ويُناديها، وإن لبَّتِ النِّداءَ طلب منها الابتعادَ، فهو منشغِلٌ بنداءاتِ الحُبِّ.

ويرى ابنُ عربيّ أنّ الحبَّ درجاتٌ:

أوّلُها الهَوى الذي يعبِّر عن الميلِ العاطفيِّ الذي ينشأُ من نظرةٍ عابرةٍ.

وثانيها الحُبُّ الذي يُعبَّر عنه بالميلِ العاطفيِّ مثيلَ الهوى إلّا أنّه يقومُ على الإخلاصِ، ويختارُ الإنسانُ فيه محبوباً واحداً لا يتجاوزُه إلى غيرِه.

وثالثُها العشقُ الذي يعني المحبَّةَ بإسرافٍ، فتستولي المشاعرُ الجيَّاشةُ على صاحبِها وتسيطرُ عليه، لدرجةِ أنّه لا يشعرُ بأحدٍ إلّا بمحبوبِه الذي يُغنِيه عن الكونِ بأكملِه.

خامساً- درجاتُ الحُبِّ عندَ الغربيّين:

إنَّ من أنواعِ الحبِّ الرّومانسيِّ ما يشتملُ على عدّةِ درجاتٍ أو مستوياتٍ، وهذه الدّرجاتُ هي كالآتي:

1- التّعلُّقُ الماديُّ: يبدأُ الحبُّ الرّومانسيُّ عادةً بتعلُّقِ الإنسانِ بشكلٍ مادّيٍّ بإنسانٍ آخرَ من جنسٍ مختلِفٍ، وينتجُ عن هذا التّعلُّقِ المادّيِّ الشُّعورُ بالانتماءِ والأمانِ والرّاحةِ بين الطّرفينِ، والتّعلُّقُ المادّيُّ هو أيضاً تعلُّقٌ جسديٌّ بين شخصينِ، حين يزدادُ ارتباطُهما ببعضِهما البعضِ، ويجدانِ صعوبةً في الانفصالِ مادّياً عن بعضِهما، كما يقلِّلُ ذلك من الحرّيّةِ الفرديّةِ لكليهِما.

2- الانجذابُ: يعبّرُ الانجذابُ عن وجودِ عاطفةٍ جنسيّةٍ أو رغبةٍ جنسيّةٍ بين الطّرفينِ، وعادةً ما يُحاولُ الأفرادُ في هذه المرحلةِ من الحبِّ السّيطرةَ على بعضِهم ما أمكنَ، ويكونُ الإحساسُ بالرّغبةِ الجنسيّةِ مُكثّفاً أيضاً، ولكنَّ الرّغبةَ الجنسيّةَ أو النّشاطَ الجنسيَّ ليس أساساً كافياً لبناءِ علاقاتٍ ناجحةٍ على المدى البعيدِ.

3- الانسجامُ أو التّوافقُ: في هذه الدّرجةِ من الحبِّ تصبحُ العلاقةُ أكثرَ انسجاماً وثباتاً واستقراراً من الدّرجاتِ السّابقة، وفيها تُبْنى الأسرةُ، وتصبحُ العلاقةُ على مستوىً أعلى من التَّنظيمِ والإدارةِ للعائلةِ النّاشئةِ، وفي حالِ كانتِ العلاقةُ أقلَّ إيجابيّةً، وكان اختيارُ الشّريكينِ لبعضِهما اختياراً تقليديّاً نمطيّاً تُملِيه العاداتُ والتّقاليدُ، فإنّ العلاقةَ تصبحُ مُملّةً وسطحيّةً، وقد تفتقرُ إلى الاستقرارِ المطلوبِ، لذلك يجبُ الحرصُ دائماً على تطويرِها نحو الأفضلِ، وبما يصبُّ في مصلحةِ العائلة.

4- الانجذابُ الحيويُّ: في هذا المستوى ينجذبُ المرءُ إلى الأشخاصِ الّذين يشعرُ بسعادةٍ معهم، والذين يمنحونَه الشُّعورَ بالرِّضا عن نفسِه، الأمرُ الذي يولّدُ الطّاقةَ الحيويّة في داخلِه، ويَشيعُ هذا النَّوعُ من الانجذابِ بين الأصدقاءِ أو أفرادِ الأسرةِ، وكلّما كان الأشخاصُ فيه متفاهمينَ أكثرَ، كانتِ العلاقةُ أكثرَ إيجابيّةً، في حينِ أنّها تصبحُ سلبيّةً عندما يُحاولُ أحدُ الاطرافِ السَّيطرةَ على الباقينَ، أو عندما تبدأُ روحُ المنافسةِ بينهم.

5- المودة: هي شعورٌ دافئٌ نابعٌ من القلبِ تجاهَ الآخرينَ، ويمكنُ القولُ إنّ المودّةَ الحقيقيّة تكون قائمةً على العطاءِ في أغلب الأحيانِ، ومن النّادر أن يغضبَ شخصٌ من شخصٍ يشعرُ بالمودّةِ تجاهَه.

6- الإعجابُ: هو درجةٌ أكثرُ عمقاً من المودّة، إنّه المودّةُ الشّديدةُ بين الأطرافِ، إذ لا يمكنُ الحفاظُ على المودّة الشّديدةِ، إن لم يكنْ هناك إعجابٌ بين الأطرافِ، وهذا الإعجابُ يتولّدُ من احترامِ شخصٍ لآخرَ، أو ينشأُ من وعيِ شخصٍ ما لصفاتِ شخصٍ آخرَ تجعلُه يُعجبُ به، وإنّ الحبَّ القائمَ على الإعجابِ منذُ البدايةِ هو حبٌّ يمكنُه تخطّي مختلفِ الصّعوباتِ.

7- الحبُّ العقلانيُّ: هو الحبُّ القائمُ على الولاءِ والإخلاصِ والعطاءِ الخالي من العواطفِ، ولا يَطلبُ فيه أحدُ الأطرافِ المعاملةَ بالمثلِ، وعلى الرّغمِ من افتقارِ هذا الحبِّ إلى العواطفِ، إلّا أنّه يعبِّرُ عن درجةٍ رفيعةٍ من الوفاءِ والعطاءِ اللّامحدودينِ.

8- التّفاني في الحبِّ: هو درجةٌ مُثلى من الحبِّ العاطفيِّ الذي يقومُ على العطاءِ التّلقائيِّ؛ حين يُعطي أحدُ الأطرافِ الطّرفَ الآخر كلَّ ما يستطيعُ دونَ أن يتوقّعَ أيَّ مقابلٍ منه.

9- العِشقُ: هو الدّرجةُ النَّبيلةُ من درجاتِ الحبِّ الذي يولِّدُ الطّاقةَ الإيجابيّةَ بين العاشقينِ، وفي هذا العشقِ ليس ثمّةَ أدنى درجةٍ من الشُّكوكِ، أو التّوقُّعاتِ، أو الشّكوى، وهو مليءٌ بالمفاجآتِ، والكرمِ، والعطاءِ الذّاتيِّ.

10- الرُّومانسيَّةُ الرُّوحيَّةُ: هي حالةٌ من الحبِّ لا يمكنُ التّعبيرُ عنها، تقومُ على المغامرةِ والمشاعرِ الّتي لا تخضعُ لأيِّ نوعٍ من الشُّروط، كما أنّها حبٌّ خالٍ من الوعيِ والإداركِ، إذ يمتلئُ عقلُ المرءِ وروحُه بالمشاعرِ الجيّاشةِ، والإحساسِ بالنّشوةِ والإشباعِ.

سادساً- درجاتُ الحُبِّ عندَ العربِ:

تعدَّدتْ درجاتُ الحُبِّ عند العربِ، ولكنّني آثرتُ ذكرَ أهمِّها: ‏

1- الهَوى: أوّلُ درجاتِ الحُبِّ، يكثرُ ذكرُه في قصائدِ الحُبِّ القديمةِ والحديثةِ، ويدلُّ على ميلِ المُحبِّ إلى شخصٍ آخرَ.

2- الصّبوةُ: ثانيةُ درجاتِ الحبِّ، وتُعَدُّ أعمقَ من درجةِ الهَوى، إذ يصلُ الأمرُ إلى الغزلِ المتَبادلِ بين الحبيبينِ.

3- الشَّغفُ: من شَغافِ القلبِ وهو غشاؤُه،ويعني عمقَ مشاعرِ الحبِّ، ووصولَها إلى غشاءِ القلبِ.

4- الوَجْدُ: أحدُ مراحلِ الحبِّ المتطوِّرةِ، ويدلُّ على مداومةِ التّفكيرِ في المحبوبِ، وعدمِ القدرةِ على نسيانِه.

5- الكَلَفُ: أحدُ درجاتِ الحبِّ المتطوِّرةِ، يدلُّ على شدّةِ الولعِ، وعمقِ التّفكيرِ بالمحبوبِ.

6- العِشقُ: كلمةٌ من أكثرِ العباراتِ المشهورةِ في الحبِّ، تُعرفُ بالحبِّ العميقِ، ولكنّها إحدى درجاتِه، وتعني الحبَّ الشّديدَ، وتقديمَ التّضحياتِ، وعدمَ المقدرةِ على التّخلّي عن الحبيبِ، وهو حبٌّ مُختلِطٌ بالشّهوة.

7- النّجْوى: إحدى درجاتِ الحبِّ التي تكونُ في حالاتِ البُعدِ والفراقِ، يُخالطُها الحزنُ؛ لعدمِ المقدرةِ على الوصولِ إلى المحبوبِ.

8- الشّوقُ: أحدُ درجاتِ الحبِّ المتطورّةِ عند العربِ، إذ يتمُّ الإحساسُ بالشّوقِ للمحبوبِ بمجرّدِ غيابِه، حتّى وإن كان غيابُه للحظاتٍ بسيطةٍ.

9- الوَصبُ: يُمثِّلُ مشاعرَ الألمِ والوجعِ التي تُصيبُ المحبَّ، ويمكنُ أن تُسبِّبَ له المرضَ.
10- الاستكانةُ: شعورُ المحبِّ بالذُّلِّ والخضوعِ؛ نتيجةَ الحبِّ الشّديدِ، إذ لا يستطيعُ المحبُّ رفضَ أيِّ أمرٍ للمحبوبِ.

11- الوُدُّ: يتمُّ الوصولُ إليهِ بعد مرورِ مدّةٍ من الزّمن، وهو المرحلةُ الأساسيّةُ في الزّواج التي تحقِّقُ التّوازنَ بين الأزواجِ، وتُعبِّرُ هذه الدّرجةُ عن الحبِّ الرّقيقِ الذي يخلُو من المشاعرِ الصّاخبةِ.

سابعاً- أنواعُ الحبِّ في الفكرينِ الغربيِّ والإسلاميِّ:

فقد حدّد الغربيُّون مفهومَ الحُبِّ بالعديدِ من الأشكالِ والأنواعِ، إذ تتميَّزُ أنواعُ الحُبِّ عن بعضِها البعضِ بأشكالٍ مُختلفةٍ من الرَّغباتِ والعواطِفِ التّي تُرافقُ كُلَّ شكلٍ من هذه الأشكالِ، وبوجودِ أنواعٍ مُختلفةٍ من الحُبِّ، فبعضُ أنواعِ هذا الحُبِّ نافعةٌ للشّخصِ وصحّتِه، وبعضُها الآخرُ قد يكون مُضِرّاً له، فالحبُّ في الثّقافةِ الغربيَّةِ يَقومُ على أربعةِ أنواعٍ رئيسةٍ، استمدّها الغربيُّون من الثقّافة الإغريقيّةِ القديمةِ، وهذه الأنواعُ هي:

1- (إيروس) في الإنجليزيّةِ (Eros): يُستخدَم هذا المُصطَلحُ عادةً للإشارةِ إلى الحُبِّ الذي يشكّلُ رغبةً عارمةً في شيءٍ ما، أو ما يعبّرُ عن الرّغبةِ العاطفيّةِ، وعادةً ما يُشارُ إلى هذه الرّغبةِ بأنّها الرّغبةُ الجنسيّةُ.

لكنّ كلمةَ (إيروس) عندَ (أفلاطونَ) و(سقراطَ) تشيرُ إلى الرّغبةِ الّتي تسْعى نحوَ الجمَالِ الحقيقيِّ؛ إذ يرى كلاهُما أنّ الحُبَّ الذي يتولَّدُ ويسعى إلى الجمالِ هو حُبٌّ باقٍ ما بقيَ الإنسانُ.

ويرى (ليديل) أنّ (إيروس) هي نوعٌ من الرّغبةِ العاطفيّةِ التي تتعلّقُ بالرّغبةِ الجنسيّةِ عادةً، بينَما يصفُ (نيغرين) (إيروس) بأنّها كلمةٌ تعبِّرُ عن حُبِّ الرّغبةِ بشيءٍ ما، وهي كلمةٌ تتمركزُ حول الذّاتِ الإنسانيّةِ، أمّا (سوبل) فيَرى أنّ (إيروس) تصفُ الأنانيّةَ، وهي كلمةٌ بعيدةٌ عن الجنسِ، وتعبّرُ عن الاستجابةِ لرغباتِ المحِبِّ.

وفي المفهوم الإسلامي تنقسم الرغبة أو الشهوة إلى نوعين: الأولى شهوةُ الطَّعامِ والشّرابِ حفاظاً على وجودِ الكائنِ الحيِّ، والثّانيةُ شهوةُ الجنسِ حفاظاً على النَّوعِ، ولولا هذه الشَّهوةُ لانقرضَ النَّوعُ البشريُّ، وهذه الشَّهوةُ متغلغلةٌ في أعماقِ الإنسان، وهذا التَّغلغلُ قد أشارَ إليه الحديثُ الشّريفُ: (إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كبير) "الترمذي"

وقد أودعَ اللهُ شهوةَ الجنسِ في الإنسانِ، كما جاء في قوله تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ). [سورة آل عمران، الآية 14 ].

2- (فيليا) في الإنجليزيّةِ (Philia): هو حُبُّ الأصدقاءِ والزُّملاءِ، ويُمكنُ أن يتولَّدَ هذا النَّوعُ مِن الحُبِّ في حال بقاءِ العُشّاقِ مع بعضِهم البعضِ لفتراتٍ طويلةٍ، ويُمكنُ تسميةُ هذا الحُبِّ بِالحُبِّ الأخويِّ، وهو حبٌّ مُفيدٌ للصِّحّةِ، إذ يُساعدُ على تخفيفِ ضغطِ الدَّمِ، كما أنَّ الأشخاصَ الذين يرتبطونَ بعلاقاتِ حُبِّ (فيليا) قد تُصبحُ زياراتُهم الطّبيَّةُ أقلَّ، بالإضافةِ إلى مشاعرِهم الإيجابيّةِ الدّائمةِ. ولم يقتصرْ مفهومُ (فيليا) عند اليونانِ على الولاءِ والتّقديرِ للأصدقاءِ فقط، وإنّما امتدَّ ليشملَ الولاءَ للأسرةِ والمجتمعِ والعملِ أيضاً.

ويرى (أرسطو ) أنّ مصطلحَ (فيليا) يعبّرُ عن الدّافعيّةِ والتَّحْفيزِ، كما تعبِّرُ عن مشاركةِ الأصدقاءِ في أمورِهم وتصرُّفاتِهم، ونبذِ الضّغائنِ والأحقادِ فيما بينَهم، وتبادلِ مشاعرِ الإعجابِ بعضِهم ببعضٍ، فلا يُمكنُ لـ (فيليا) أن تَصدُرَ من العدوانيّينَ، والثّرثارينَ، والظّالمين. وقد رأى (ليديل) أنّ (فيليا) تعبّرُ عن المودّةِ والحميميّةِ تجاهَ الأصدقاءِ، وأفرادِ العائلةِ، والشُّركاءِ في التّجارةِ أيضاً.

وفي منظورِ الإسلامِ وردتْ كلمةُ الحبِّ أو المحبَّةِ للإخوانِ والأصدقاءِ ما يُماثلُ مفهومَ الـ (فيليا) عند الغربيّين، من ذلك قولُه تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾ (سورة مريم: 96).

(قال قُتادةُ: ذُكرَ لنا أنَّ كعباً كان يقولُ: إنَّما تأتي المحبَّةُ من السَّماءِ. قال: إنَّ اللَّهَ تباركَ وتعالى إذا أحبَّ عبداً قذفَ حبَّه في قلوبِ الملائكةِ، وقذفتْه الملائكةُ في قلوبِ النَّاس، وإذا أبغضَ عبداً، فمِثلُ ذلك، لا يملكُه بعضُهم لبعض) [ رواه يحيى بن سلام في تفسيره]. وقال عليُّ بنُ أبي طلحةَ، عن ابنِ عبَّاسٍ في قولِه: "الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا" قال: حُبًّا [رواه الطبري في تفسيره]. وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ، عنه: يُحبُّهم ويُحبِّبُهم، يَعنِي: إِلى خلقِه الْمُؤمنينَ)[ تفسير ابن كثير]. وقال مقاتلٌ: (يقولُ يجعلُ محبَّتَهم في قلوبِ المؤمنينَ فيحبُّونَهم) [تفسير مقاتل بن سليمان]

وفي السُّنّةِ النَّبويّةِ الشَّريفةِ عن أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنه قالَ: قال رسولُ الله: ((لا تدخلونَ الجنَّةَ حتَّى تُؤمِنوا، ولا تُؤمنُوا حتَّى تَحابُّوا، أوَلَا أدلُّكُم على شيءٍ إذا فعلتمُوه تحاببْتُم؟ أفْشُوا السَّلامَ بينَكم)) [رواه مسلم].

3- (أغابي) في الإنجليزية: (Agape): هو حُبُّ الجنسِ البشريِّ بشكلٍ عامّ، إذ يميلُ الإنسانُ إلى التّعاطفِ مع جميعِ البشرِ ومُسامحتِهم وغفرانِ زلّاتِهم وهفواتِهم، وهو حُبٌّ مُفيدٌ للصِّحّةِ إذ أنّه يُقلِّلُ من غَضبِ الأشخاصِ، ويَزيد من الشُّعورِ بالسَّعادةِ والرِّضا. كما أنّ مصطلحَ (أغابي) يشيرُ إلى حبِّ اللهِ للإنسانِ وحبِّ الإنسانِ للهِ، ويمتدُّ ليشملَ حبَّ البشرِ فيمَا بينَهم، ويمكنُ القولُ إنّ لفظةَ (أغابي) تسعى إلى الحبِّ الكاملِ أو الحبِّ المثاليِّ، وفي التقاليدِ اليهوديّةِ والمسيحيّةِ تمَّ التّعبيرُ عنها بحبِّ الإنسانِ لربِّه من كلِّ قلبِه، وبكلِّ روحِه، وبكلِّ ما بوسعِه أن يبذلَه من تفانٍ مُطلقٍ.

أمّا في الدّيانةِ الإسلاميّةِ فقد ارتبطَ مفهومُ الحبِّ الإلهيِّ في تاريخِ الفكرِ العربيِّ الإسلاميِّ بالصُّوفيّةِ، ولكنَّ الحقيقةَ أنّ مفهومَ الحبِّ الإلهيِّ لم يكنْ إبداعاً صوفيّاً من حيثُ المبدأُ، فقد وردَ هذا المفهومُ أوَّلَ ماوردَ في القرآنِ الكريم، حين خاطبَ اللهُ عبادَه المخلِصينَ بقولِه أنّه ” يُحبُّهم ويحبُّونَه ” (سورة المائدة، الآية 54)، وقد وردَ العديدُ من الآياتِ في القرآنِ الكريمِ تؤكّدُ على حبِّ اللهِ للمؤمنينَ، حينَما يشملُ هذا الحبُّ جميعَ مجالاتِ الحياةِ التي يحياها المؤمنُ، وقال تَعالى ” واللهُ يحبُّ الصّابرين ” (سورة آل عمران، الآية 146)، وقولُه تعالى ” واللهُ يُحبُّ المحسنين ” (سورة آل عمران، الآية 134) وقولُه تعالى ” فإنَّ اللهَ يحبُّ المتَّقينَ” (سورة آل عمران، الآية 76) . وهذا بعضُ ما وردَ في القرآنِ الكريمِ ممّا يبيّنُ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ هو الّذي بدأ بمخاطبةِ المسلمينَ ليبيّنَ لهم طبيعةَ العلاقةِ التي يجبُ أن تكونَ بين اللهِ وعبادِه، وهي علاقةٌ تقوم على مبدأ الحبِّ الّذي يمنحُه اللهُ عبادَه، إذا كانوا من الصّابرينَ و المحسنينَ و المتَّقينَ.

4- (ستورج) في الإنجليزيَّةِ: (Storge): هو حُبُّ الوالدينِ لأطفالِهما، ويُوصفُ بأنَّه أكثرُ أنواعِ الحُبِّ طبيعيّةً، كما أنَّه حُبٌّ عاطفيٌّ غيرُ مشروطٍ، فلا يَنظُرُ الآباءُ إلى أولادِهم لِمعرفةِ ما إذا كانوا يستحقُّونَ هذا الحُبَّ أمْ لا، وتستمرُّ الأُمّهاتُ في حُبِّ أطفالِهنَّ بِغضِّ النَّظرِ عن السلوكيّاتِ السّلبيّةِ التي قد يقومُون بها.

وفي المنظورِ الإسلاميِّ، فإنَّ محبَّةَ الولدِ فطرةٌ من عندِ اللهِ، وهو كذلك رحمةٌ وآيةٌ (حتّى إنّ الدَّابةَ لترفعُ حافرَها عن ولدِها خشيةَ أن تُصيبَه) " حديث شريف"، وعن عائشةَ رضيَ اللهُ عنها قالتْ: "جاء أعرابيٌّ إلى النَّبيِّ صلّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: تُقبِّلونَ الصِّبيانَ فما نُقبِّلُهم، فقالَ النّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلّم: «أَو َأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ» (رواه البخاري). قال ابن بطّال: "رحمةُ الولدِ الصَّغيرِ، ومعانقتُه، وتقبيلُه، والرِّفقُ به، من الأعمالِ التي يرضاها اللهُ ويُجازِيْ عليها، ألا ترى قولَه عليهِ السَّلامُ للأقرعِ بنِ حابسَ حين ذُكرَ عند النّبيِّ صلّى اللهُ عليه وسلّم أنَّ له عشرةً من الولدِ ما قبَّل منهم أحدًا: «مَن لا يَرحَمْ لا يُرحَمْ»؟ (رواه البخاري: [5997]).

خاتمةُ الفصلِ الأوَّلِ:

ممّا تقدّمَ نرى أنّ فلسفةَ الحبِّ كانت من أهمِّ المواضيعِ التي شغلتِ الفكرَ الإنسانيَّ منذُ نشأةِ الكونِ، فتعدَّدتْ أنواعُ الحبِّ، واختلفتْ درجاتُه، و احتلَّ حيِّزاً واسعاً في آراءِ المفكِّرينَ والفلاسفةِ والكتّابِ والأدباءِ والشُّعراءِ، وهذا ما رأيناهُ فيما تقدَّم من الدِّراسةِ النَّظريّةِ، وما سوفَ نلمسُه في الدّراسةِ التّطبيقيّةِ التَّحليليّةِ من الفصلِ الثّالثِ من هذه الدِّراسةِ.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى