الاثنين ٥ أيار (مايو) ٢٠٠٨
بقلم تركي بني خالد

فيروسات التعليم العالي

الفساد ظاهرة تكاد فيروساته تصيب كل شيء، فلا توجد مؤسسة غير قابلة للإصابة به، والمعاناة من آثاره المدمرة. وفي بلدان العالم الثالث يقولون إن لديهم جامعات ومعاهد تعليم عليا، وأنها لا يأتها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.

لكن من الممكن جداً أن تكون هناك علامات أو درجات تمنح لطلبة لا يستحقونها، وربما هناك من يدفع المال مقابل ما يشبه شراء الشهادات الجامعية بأساليب غاية في الذكاء والفطنة. ومن الممكن أن تدخل فيروسات التعليم العالي إلى أنظمة القبول والتسجيل، فتتسبب في إلغاء حقوق البعض ومنح البعض الآخر حقوقاً ليست لهم بالأصل.

كيف تتم عملية القبول في الجامعات ومؤسسات التعليم العالي في البلدان النامية؟ وهل يخسر بعض الطلبة حقوقهم لأنها ذهبت إلى أشخاص آخرين تمكنوا من الحصول على مقاعد جامعية بوسائلهم الخاصة؟ كيف يحصل الطلبة على علاماتهم في المساقات التي يدرسونها؟ وهل حقاً هناك سوق تجاري لبيع الشهادات الجامعية؟ هل غدا الفساد ظاهرة عالمية لا ينجو من شرورها أحد؟

حين يصيب الفساد مؤسسات التعليم العالي، يخسر المجتمع بكامله وتضعف ثقة الناس بأهم المؤسسات التي يفترض أنها تغذي المجتمع بالمواطن الصالح. من المسؤول يا ترى عن تردي سوية التعليم العالي في البلدان النامية؟ يتزايد الحديث عن الجودة بينما تزداد الجودة انحداراً كل يوم. كيف وصل أولئك النفر من غير المؤهلين إلى عضوية هيئات التدريس في الجامعات؟ وكيف تمكن البعض من عديمي الوزن أن ينخروا في جسم المجتمع من خلال قيامهم بنشر القيم المشوهة؟ ترى ما مدى وعي المجتمعات النامية بحقيقة الفساد التربوي؟ هل يمكن إدراك مظاهر الفساد في التعليم العالي أم أن فيروساته محصنة وصعبة الاكتشاف؟

الفساد عملية معقدة بكل تأكيد، وقد يساء فهم المقصود بهذه الظاهرة، وقد ينتج عن عدم الفهم بعض الظلم. إن أهم أعراض الفساد هو إساءة استخدام الوظيفة أو السلطة لغايات شخصية أو مادية من نوع ما، فالوظيفة العامة في المؤسسات العامة، ومنها مؤسسات التعليم العالي، تمنح القائمين عليها سلطات ونفوذ من المفروض أن تستخدم لتحقيق النفع العام ولتطبيق القوانين والتعليمات التي يفترض أنها وجدت أصلاً لخدمة الصالح العام، وليس لخدمة مصالح فردية محددة.

أتمنى لو أن هناك دراسة واحدة محايدة وعلمية تتناول مدى ثقة الناس بأنظمة وممارسات التعليم العالي؟ وأتمنى لو يطلب من الناس الإدلاء بآرائهم حول مدى رضاهم أو عدم رضاهم عن مستوى التعليم العالي في بلدانهم. فهل ما زالت الجامعات تتمتع بالاحترام التقليدي الملازم لها؟ وهل فقدت معناها في ظل العولمة وتفشي التخاصية وقوانين السوق؟

لماذا يفضل بعض أصحاب العمل الخريجين الحاصلين على شهادات من جامعات معينة؟ ولماذا يشترط البعض الآخر أن يكون المرشح من جامعات بعينها من دول بعينها؟ ماذا بالنسبة لخريجي الجامعات المحلية أو الإقليمية؟ أليس من المفروض أن تكون الشهادة هي الشهادة، والجودة هي الجودة، والكفاية هي الكفاية؟

لنتصور حجم الأذى الذي يلحق بالمجتمع إذا كنا بتنا لا نثق بأحد من خريجي الجامعات؟ تخيلوا بنايات تنهار بسبب خلل فني في التصميم أو التنفيذ أو الإشراف لأحد المهندسين؟ وتخيلوا الأخطاء الطبية المقصودة وغير المقصودة التي قد تصيب أي أحد منا يتنازل عن جسمه وروحه وعقله في لحظة ما ويترك للهيئة الطبية القرار الذي يفترض أن يكون مناسباً؟ وتخيلوا الأذى الذي قد يلحق بنا جميعاً إذا وصل أحدهم أو إحداهن بالواسطة أو المحسوبية إلى وظيفة عمومية أو خاصة بدأ بنشر فيروساته في جسم المؤسسة التي يعمل بها؟

تخيلوا الطالب الفقير والمحتاج الذي يحرم من التعليم العالي لأن المقاعد محجوزة لغيره من أصحاب الحظوة. وتخيلوا الطالب عديم الذكاء الذي يدفعه والداه لقضاء ثلاث سنوات في جامعة ربحية لينال شهادة جامعية منقوصة، تؤهله لمواصلة الدراسة للحصول على درجة جامعية عليا قد تقوده إلى وظيفة كبرى بحجة أنه دكتور.

إن فسد التعليم العالي، فليس من فائدة من آلاف الخريجين الذين يتم ضخهم سنوياً إلى سوق العمل في جميع مجالات الحياة. إن المجتمع بأكمله هو الخاسر الأكبر. إن الفساد يقضي على طموح أولئك الراغبين في أداء عمل جيد يؤمنون به وتعبوا من أجل الحصول عليه. إن الفساد يدمر الإحساس بالدافعية لدى أولئك الشباب المتحمسين لخدمة أوطانهم بشرف ومسؤولية.

إن من حصل على علاماته بالغش أو الرشوة أو الواسطة أو التزوير في أي تخصص، ستسول له نفسه مراراً وتكراراً ممارسة هذه الأخلاقيات الرديئة حتى عندما يحتل كرسياً في موقع عام في وظيفة عامة.

لا قيمة للحوافز في ظل الفساد الإداري، لأن المكافآت ستؤول إلى غير مستحقيها، ولا قيمة للعقوبات والمساءلة في أجواء الفساد، لأن المحاسبة لن تكون إلا للبسطاء الذين لا حماية لهم.

ولا قيمة للنمو المهني في مؤسسات تترنح بسبب أوجاع الفساد، فالفرص الوظيفية والبعثات والدورات والعلاوات ستذهب إلى س أو ص، وبطرق ذكية وأحياناً مؤسسية لكنها تحرم المستحق وتكافئ غير المؤهل.

لن يكون هناك معنى للعمل والمثابرة والإخلاص في مؤسسات تعاني من الفساد، اذهب إلى أي مكان واسأل الناس، سيقول لك الجميع إنك إذا أردت أن تصل فليس لك إلا الواسطة، وإن من لا وساطة له، لا مستقبل له ولا وظيفة. إذا كان الناس يؤمنون بهذا الشكل، فإن مستقبل المجتمع في خطر لأن الناس لن يقيموا وزناً للعدالة لأن ثقتهم تتزعزع بالمؤسسية والأنظمة وسيادة القوانين.

إن الفساد إذا أصاب التعليم العالي، ستدخل فيروساته في كل مكان.

كيف تتم عملية انتقاء أساتذة الجامعات؟ كيف تتم عملية إرسال الموفدين في بعثات؟ وكيف تتم عملية الترقيات إلى رتب علمية ذات تسميات براقة ومحترمة. كيف تتم عملية الاعتماد الأكاديمي؟ من يقوم بها؟ من يضمن جودة أدائها؟ كيف تتم عمليات الشراء والعطاءات؟ وكيف تحدث المديونية بسرعة هائلة للجامعات؟ وكيف تتم مناقشة ميزانية الجامعات؟

ما دور المجالس؟ هل هي شكلية أم حقيقية؟ كيف تتم صناعة القرار؟ هل لأفراد الجمهور من الناس العاديين وسيلة لمعرفة التفاصيل؟ هل تنشر الميزانيات في الصحف؟ هل هناك مشاركة في القرار؟

كيف تحدث الامتحانات الجامعية؟ وما مدى حدوث الغش في هذا المجال؟ وكيف تصحح الأوراق؟ وكيف تتم مراجعة العلامات؟ وكيف يتدخل ذوي النفوذ في التأثير على أعضاء هيئة التدريس من أجل منح درجات تفضيلية لأسباب اجتماعية أو طبقية أو إقليمية أو طائفية أو غير ذلك؟

هل هناك تدريس خصوصي لطلبة الجامعات؟ وهل هناك تدريس موازي للتدريس الرسمي؟ من يكتب رسائل الماجستير والدكتوراه؟ ومن المستفيد من وراء ذلك؟ كيف تناقش هذه الأطروحات؟ كيف يتم تشكيل لجان المناقشة وتعيين المشرفين؟

إن الفساد في التعليم العالي تدمير للموارد البشرية التي هي من أهم الكنوز لدى المجتمعات؟ إن الإنسان هو الثروة الأساس، والتلاعب في إعداده ورعايته يؤدي إلى أوخم النتائج. كما أن في الفساد ضياع للمواهب التي يتمتع بها الجادون من الشباب الطموح النافع.

من مؤسسات التعليم العالي يتخرج ما يفترض أنهم القادة. وإذا حصل الفساد، فإن القيادة الاجتماعية والإدارية في خطر داهم. إن الفساد تدمير لتكافؤ الفرص وإيصال من لا يستحق إلى وظائف قيادية بحجة أنهم من ذوي الشهادات والعلامات والتقادير وغير ذلك.
إن الأستاذ الجامعي هو الرقم واحد والطرف الأصعب في معادلة التعليم العالي، وإن الطالب الجامعي هو الهدف من كل نظام التعليم العالي، ودون الطرفين- الطالب والأستاذ- لا قيمة لشيء. ولأن الطالب الجامعي ومن ورائه ذويه في حاجة إلى العلامات والشهادات فهم أصحاب مصلحة مباشرة. وبقي أن نضمن أن الأستاذ الجامعي يتمتع بدخل جيد وراتب ممتاز مثله في ذلك مثل القاضي الممتاز الذي لا يراد له أن يقع في المحظور وتراوده نفسه في قبول رشوة أو الرضوخ إلى مساومة أو تهديد.

إن العلامات الجامعية تعادل بنقاط وساعات معتمدة، مثلها مثل الأموال التي توضع في البنوك وهي بذلك في منتهى الحساسية؛ لأن منح علامات بدون وجه حق يساوي منح امتيازات مالية لأشخاص لا يستحقونها.

إن الأستاذ الجامعي الذي لا يكاد يجد ما يصلح به حاله، ولا يكاد يتمتع بالاحترام الاجتماعي كما كان الأمر سابقاً، ولا يجد ما يسد به حاجاته الأساسية، عرضة للوقوع في الخطأ، وبالتالي ستكون الدروس الخصوصية، وستأتي الهدايا، وستقبل العطايا، وستقام الولائم الخاصة على شرفه، إيحاء له بأن الابن المحروس والابنة المحروسة ستتخرج هذا العام وأنها إذا رفعت درجاتها، ستنال بعثة أو وظيفة أو غير ذلك.

هل هناك حالات من طلبة ينجحون دون أن يحضروا الامتحان؟ هل هناك تعديل على علامات الطلبة حتى بعد أن تصدر قوائم رسمية بذلك؟ هل هناك بحوث تؤدى نيابة عن الطلبة مقابل المال؟ هل هناك تعيينات دون مقابلات وامتحانات؟ هل هناك لجان شكلية تصدر عنها قرارات مسبقة؟ هل هناك أشياء لا نعرفها من مظاهر الفساد؟ هل هناك بيروقراطية وتأخير في المعاملات واتخاذ القرارات؟

هل هناك قرارات بأسلوب التمرير؟ هل هناك معايير أداء معلنة للجميع؟ هل هناك مراجعة ذاتية وخارجية دورية؟ هل هناك ممتحن خارجي لكل تخصص له الحق في إبداء الملاحظات على النتائج؟ هل هناك ضوابط للإنفاق الجامعي؟ هل هناك برلمانات جامعية تمثل شرائح المجتمع الجامعي حق تمثيل وتشارك في صناعة القرار؟

هل هناك صلاحيات محكومة بالمعايير والتعليمات؟ وهل هناك لا مركزية في الوظائف الجامعية؟ وهل هناك تفرد أو تغول أو استفراد بالقرار الجامعي؟ هل هناك شفافية؟ من يضمنها؟

إن مجرد الكلام والتصريحات حول سوية التعليم العالي لا يفيد، وإن وضع الرؤوس في الرمال والتعامي عن الحقائق لا ينفع، فالفيروسات لا ينفع معها الكلام ولا تستجيب للتهويش. اسألوا الأطباء كيف يتعاملون مع الفيروسات وسائر أنواع الأحياء الدقيقة الضارة للحياة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى