الثلاثاء ١٠ نيسان (أبريل) ٢٠١٢
ظاهرة الفقر والغنی
بقلم صفا اسمعيلي

في آثار جبران خلیل جبران

إعداد
 صفا اسماعیلی طالبة ماجستیر في جامعة آزاد (آبادان)
 جمال نصاری أستاذ في جامعة بیام نور (آبادان)

الملخص

تناولنا في هذا البحث، ظاهرة الفقر والغنی في کتابات جبران خلیل جبران. فجبران شخصیة انسانیة یحِنُّ إلی الطبقة الوسطی وینتقدُ الطبقة الارستقراطیة. ففي هذا الصراع الثنائي القدیم یحاول أن یجسدُ الآلام الفقراء ومعاناتهم.

یری جبران خلیل جبران إن التقالید والاعراف القاسیة والشرائع الدینیة المتطرفة هي من اججَّت نار الفقر في قلب المجتمع الشرقي.وخَضَعَ الإنسان الشرقي إلی سیطرة الاغنیاء. فتشبث جبران بالمنظومة السماویة (کالنبي) والارضیة لیصور معاناة هذا الشعب.

المفردات المفتاحیة: جبران خلیل جبران، الفقر، الغنی، الانسان.

المقدمة

کثرت الدراسات والبحوث حول شخصیة جبران خلیل جبران وآثاره. لکن حاولنا أن ندخل العالم الإنساني لجبران خلیل جبران من خلال نافذة الفقر والغنی في کتاباته.

فهوفي جمیع کتاباته حاول أن یتطرق إلی هذه الظاهرة. ففی «الارواح المتمردة» یتکلم عن الفقر ولغنی من خلال القصص والحکایات علی سبیل المثال شخصیة الشیخ عباس مظهر من مظاهر الغنی والناس یعملون عنده کالرعیة حاملین علی اکفهم التعاسة. أوفي إلاجنحة المتکسرة» یعطي معان أخری للغنی والفقر. هویعتقد بأن الکلام یستطیع أن یغیّر حالة الإنسان من الفقر إلی الغنی وعلی العکس. وفي «دمعة وابتسامة» یصوّر لنا مأساة الفقر من خلال الدموع وفرح الغنی من خلال الابتسامة. وظهور ابتسامات الاغنیاءعلی حساب دموع الفقراء. وأخیراً حاول جبران خلیل جبران أن یعطی لمفهوم الفقر والغنی طابعاً تأملیاً وصوفیاً فتشبث بشخصیتین مهمتین هي «النبي» و«یسوع بن الإنسان».

وفي النهایة لم نرَ دراسة کاملة تطرقت إلی هذه الظاهرة. في آثار جبران خلیل جبران بل حاولنا أن نستشفي الموضوع من خلال کتب التواریخ واعماله الکاملة.

حیاة جبران خلیل جبران

ولد جبران سنة 1883 في بلدة بشرّای في شمالي لبنان من أم صالحة تقیة وأب قلیل الشغف بالدين وبرجال الدین، مولع بشرب الخمر. [1] کان ابوه یُعني بتربیة المواشي. وبدأ جبران تعلیمه الابتدائي في مدرسة القریة وقد أظهر منذ طفولته میلاً ورغبة في فن الرسم [2] وقد سافرت کاملة رحمة والدة جبران سنة 1895 برفقة اولادها إلی بوسطن من أعمال الولایات المتحدة، وهنالک درس جبران فن التصویر علی نفسه وعلی بعض المصورین [3] وإنصرف فرجع إلی بیروت وهوفي الرابعة عشرة، فدخل مدرسة الحکمة، ولبث فیها أربع سنین عایش خلالها ما یعانیه ابناء جلدته من مظالم اجتماعیة وتعدیاتٍ اقطاعیة إلی جانب دراسته للغة والادب العربی [4] ثم قصد باریس سنة 1908 واتصل فیها بمعاهد الرسم والتصویر ومکث هنالک نحوثلاث سنوات زار خلالها رومه وبروکسل ولندن وغیرها من عواصم الحضارة والفن. وفي باریس تتلمد علی «اوغست رودن» الدي قاده إلی معرفة آثار ومولفات «ولیم بلایک» الفنان والشاعر الانکلیزي)1757-1847) فوقع جبران تحت سیطرة تاثیره. وما إن عاد إلی نیویورک حتی اطلع علی بعض کتب نیتشه فأعجب فلسفته وآرائه وأخیلته وراقه مذهب القوة عنده. [5]

في 20 نیسان سنة 1920 ألف ورفاقه میخائیل نعیمه، نسیب عریضه، عبدالمسیح حداد، ولیم کتسفیلس، رشید ایوب، ندرة حداد، الرابطة القلمیة. [6] التي تعنی بالاهتمام بکتابات الادباء والشعراء في المهجر من أجل تعزیز الاحساس بالعروبة في بلاد الغربة، ومن منطلق أهمیة الحفاظ علی الانتاج والابداع الادبی للکتاب العرب اینما کانوا، واتخذوا علی عاتقهم نشر أدبهم العربي بعد أن هاجر عدد من أبناء الوطن العربي خاصة من لبنان إلی الامریکیتین، طلباً للعیش شاهدوا هناک عالماً یختلف کل الاختلاف عن عالمهم في المشرق، عالماً مادیاً بحتاً تحکمت فیه الآلة وساده الانحلال، وعکر صفوا الحیاة فیه هدیر الآلات، وضجیج السکان وفساد هواء المدن... صدمتهم هذه الحیاة فحنّوا إلی قری الشرق الوادعة، وهوائه النقي وروحانیته الخاشعة، وعاداته وتقالیده القائمة علی الحب والبساطة والتسامح. [7]

وفي سنة 1931 قضی علیه داء السل بعد حیاة ملیئة بالکفر والالحاد واندفاع وراء الشهوات الجسدیة. وقد قال مخاطباً نفسه «لقد نحرتَ حبک علی مذبح شهواتک یا جبران! أنت مصاب بداء الکلام یا جبران. ولانک تخجل من کل ما فیک من ضعف بشري تعکف علیه فتستره بحلة من الکلام الجمیل والالوان البهیجة. [8]

الفقر
«من حيث معناه اللغوي يكون بمعنى العوز والحاجة (ج) مفاقر (على غير قياس) والشق والحز والهم والحرص (ج) فقور وفقر الدم نقص به واضطراب في تكوينه يصحبه شحوب وبهر وخفقان» [9]

مفهوم الفقر:
إن الفقر في حقيقة الأمر هوالوجهة الأخرى لصور التمايز الاجتماعية واللامساواة وانعدام العدالة التي هي السبب الأساسي الذي ظل وما زال يهدد الحياة البشرية والحضارات الإنسانية سواء على مستوى الأفراد أوالجماعات والدول والمجتمعات والتمايز الاجتماعي واللامساواة والفقر ليس ظاهرة أبدية متأصلة في الحضارات البشرية تظهر بفعل عوامل بيولوجية يتوارثها الأفراد والمجتمعات وإنما هي نتائج لأنماط تاريخية محددة على العلاقات التي تربط بين البشر. ومن الواضح أن ظهور مفهومي الغنى والفقر في الحياة الاجتماعية قد ارتبط باستئثار البعض بجانب أكبر من الموارد المتاحة على حساب الآخرين أوظهور المجتمعات الطبقية، ففي إطار مثل هذه المجتمعات التي تقوم على التميز واللامساواة تختلف أوضاع أعضاء الطبقات المتميزة عن أوضاع غيرها من الطبقات الأخرى.

ويأخذ هذا التمايز صوراً مختلفة تظهر شكل السيطرة على الموارد المتاحة أوالملكية والثروة أوالأدوار التي تتطلبها عمليات الإنتاج أوالتنظيم الاجتماعي للعمل. ويعني ذلك أن مفهوم الغنى أوالفقر يرتبطان بالتمايزات الاجتماعية ولا يمكن فهم عوامل تشكل أي منها بمعزل عن الآخر.

كما تتسم دراسات الفقر بوجود مساهمات متنوعة في الاقتصاد، متعددة المداخل، فلا يمكن النظر إلى ظاهرة الفقر من زاوية واحدة، ومن هنا يشترك في دراسة الفقر كل هذه الفروع من المعرفة، ولكن تقتصر هذه الدراسات في معظمها على رصد الظاهرة من حيث الحجم والأبعاد أوالخصائص. بينما لا تتعلق في معرفة الأسباب لهذه الظاهرة.وتحتاج دراسة الفقراء إلى رؤية بعيدة المدى للقضاء على مشكلة وسوف نناقش من خلال هذه المداخلة تعريف الفقر وأهم أبعاده وأهم المشكلات وكيفية مواجهتها.

التعريف الأول للفقر:
هوالحرمان الشديد من الحياة الرضية فان يكون المرء فقيرا معناه أن يعاني من الجوع وان لا يجد المأوي والملبس وان يصاب بالمرض فلا يعني به احد وان يكون أميا ولا يلتحق بالمدرسة، فالفقراء يتعرضون أكثر من غيرهم للمعاناة من الأحداث غير المواتية الخارجة عن سيطرتهم وكثير ما يلقون معاملة جائرة من مؤسسات الدولة ومن المجتمع.

التعريف الثاني للفقر:
ويعرف الفقر في قواميس علم الاجتماع بأنه مستوى معيشي منخفض لا يفي بالاحتياجات الصحية والمعنوية والمتصلة بالاحترام الذاتي لفرد أومجموعة من الأفراد. (وينظر على المفهوم نظرة نسبية نظرا لارتباطه بمستوى المعيشة العام في المجتمع وبتوزيع الثروة ونسق المكانة والتوقيعات الاجتماعية)، هذا ويعرف خط الفقر عادة بأنه الحالة التي يكون الفرد فيها عاجزا عن الوفاء بتوفير متطلبات الغذاء، الملبس، والمأوى الضروري لنفسه.

أبعاد الفقر:
نجد أن أهم أبعاد الفقر تندرج تبعا لأسباب أوأبعاد رئيسية، وهي أما بعد ذوطابع تاريخي، أواقتصادي، أواجتماعي، أوسياسي، وتعتبر تلك الأبعاد ذات تأثير قوي على الفرد والمجتمع ككل.

مفهوم الغنى
«فالغنى بالشيء، هوقبوله والاستغناء به عما عداه. والاستغناء عن الشيء هوعدم الحاجة إليه وقد جمعهما النبي (ص)في قوله: وأغنني بفضلك عمن سواك وقال الشاعر: 
غَنِيتُ بلا مالٍ عن الناسِ كلِّهِم وإنَّ الغِنَى العالِي عن الشيءِ لا بِهِوقوله: عن الشيء لابه يريد به الغنى عن المخلوقين، وهومحمودوأما الغنى عن الله تعالى فلا أحد يستغني عنه طرفة عين.والغنى بالله هوأعظم غنى يناله مخلوق، وشأنه عظيم.وأما الغنى في الشيء فهذا لا يكون إلا في الظرف الزماني أوالمكاني تقول غنيت في بلد من البلاد، أوغنيت في زمان من الأزمنة فهذا بيان معنى الغنى بالشيء، والغنى عنه، والغنى.والغناء يكون ضد الفقر والنفع والكفاية يقال هذا الشيء لا غناء فيه» [10]

الغنى المعنوي والعقلاني
تستبطن مُخيلتنا الاجتماعيَّة نوعًا من التَّنافُر والتباعد، قد يصِل أحيانًا حدَّ التَّناقُض والتَّضادِّ، بين عالم الفكر والعلم والثقافة، وبين عالَم المال والأعمال والغِنى والجِدة، بين العلماء ورجال الفكر والأدب، وبين الأغنياء والموسرين وكبار الملاك.

لعلَّ الشَّكوى القديمة التي تناقلتْها الأجيال عن هذه الظاهرة، والَّتي عبَّر عنْها ابن الجوزي في "صيد الخاطر"، مستفهمًا ومستنكرًا، وهويقول: "مَن قال إنَّ العلماء قَدَرُهم الفقر؟" ما زالت تتردَّد أصداؤُها في يوميَّاتنا وحياتنا المعاصِرة.

إنَّ المتتبِّع لتداعيات هذه "القناعة"، وآثارِها على واقعِنا المُعاصر، يُدْرِك دون عناءٍ سوءَ تِلْكم التَّداعيات، وسلبيَّة هذه الآثار على الفرْد والأسرة والمجتمع.

المال قوَّة، وهوعصب الحياة كما يقال؛ بل هو"قِيامٌ" للإنسان بالتَّعبير القُرآني، غير أنَّ العولَمة ما فتِئت تعمِّق وتكبِّر دوْرَه، إلى حدِّ الافتِتان والتقديس و"العبادة"
والغنى المادي يكون بمعنى الثرى ولكن مجازا يكون بمعنى الاستغناء عن الشئ وفي دراستنا هذه نتطرق الى المفهومين ونمعن النظر حولهما لتبيين وتشفيف نظرة جبران الانسانية حول هذه الرؤية.

مفهوم الفقر والغني في أعمال جبران خليل جبران

ما أكرم الحياة
کان جبران خلیل جبران «تاثراً علی العادات والتقالید الاجتماعیه التی رأی فیها عیوباً کثیرة، ومن اهمها استئثار الکثیرین من اغنیاء الارض بالخیرات، واتخاذ الکثیرین من روسائها وأربابها السلطة والزعامة ذریعة الظلم والاستبداد. لذا کان ثائراً علی کل مظاهر الظلم التی سیطرت علی الشعب وعقله وجعلته أسیر العادات والتقالید وجبروت القادة والساسة، وکان متضامناً ومتعاطفاً مع الشعب الضعیف مسلوب الارادة» [11]

ان فكرة جبران خليل جبران حول الفقر والغنى تختزل في رؤيته للحياة فهويرى ان الحياة كريمة جدا لكن الانسان عاجز عن الاخذ والقبول ويقول بأن الانسان حقيبته ضيقة وان الارض مليئة بالكنوز حيث لا يسع للانسان ان يملئ يده من هذه النعم ويتمنى لوتكون عنده الف يد منبسطة لتمتد وتمتلئ ثم تفرغ وتمتلئ ثانية مثلما يقول:

«ما أكرم الحياة وما اسنى هبائها
ما أجود الارض وما ابسط راحتها
ولكن ما اعجزني عن الاخذ والقبول
ما اصغر جرتي امام فيض الحياة
ليت لي الف يد تمتد وتتناول وتمتلئ ثم تفرغ لتتناول وتمتلئ ثانية بدلا من يد مرتعشة مستترة بطيات أثوابي
ليت لي الف يد منبسطة أمام الحياة والارض بدلا من هذه اليد المستحيية القابضة على حفنة من رمال الشاطئ
ليت لي الف كأس تترعها لي الايام والليالي فأشربها وأبقى ظامئا، ثم استزيد الليالي والايام، ثم اشرب وابقى ظامئا
ليت لي الف كأس بدلا من كأس واحدة طافحة بنقيع انانيتي، هذه الكأس التي ما ترشفها مرة الا هجعت نشوان شهرا كاملا» [12]

من ثم يتطرق جبران خليل جبران الى الفقر والجوع ويرسم لوحة جميلة اذ يحبب الجوع والفقر للانسان ويوظف الجوع بصالح الفكرة المتفائلة التي يتمتع بها جبران فيقول:

«ليت لي جوع الف جائع، فاجلس الى الف وليمة تولمها لي الفصول الاربعة، فالتهم ألوانها بشوق ولهفة واظل ساغبا لاغبا.
ليت لي الف حشا طاوية بدلا من هذه الاحشاء التي تبطنت بالكتفاء قبيل ولادتي.» [13]
ويستمر هكذا الى ان يتغنى بمونولوج داخلي ويردد الكلمات

«ما اكرم الحياة وما اجود الارض
ولكن ما اعجزني عن الاخذ والنوال
ما اعماني عما اعطى كل يوم بل كل ساعة» [14]

ومن ثم يوجه اللوم لنفسه اي هومن شغف بذاته ونسي الجمال والنعم الالهية وما تمنحه الطبيعة قائلا:

«ما اشغفني بهذه الذات الصغيرة المحدودة
هذه الذرة التي تحسب نفسها عالما لا حد له ولا قرار
هذه النواة المشغولة بقشرتها عن جمال الغاية والكمال
هذه الغرسة الواهية التي ايقضها الربيع من رقادها ثم رفعها الصيف ووضعها على منكبيه» [15]

من ثم يتسائل جبران:
 "ترى هل أنا وحدي رهين الظلمتين ظلمة الانانية وظلمة الاستكفاء» [16]
ويستطرد:

«اليس بينكم ايها الناس من تمر به مواكب الحياة فلا يلتفت ليشاهد أمجادها بل يظل منحني الرأس يداعب بأصابعه سبحة من حصى» [17]

بعد ذلك يتطرق جبران خليل جبران الى الغنى والى مفهومه الصحيح وينتقد المجتمع الذي يتظاهر بالغناء وينسي من أغناه قائلا بنزق:

«اليس بينكم من أذا شرب غبة من الماء نسي صانع الكأس بل نسي الينابيع والانهار
ومن اذا تناول لقمة من طعام ترفّع عمن طبخها بل عن الحقول والبساتين التي كونت عناصرها
ومن اذا لبس رداءا ناعما توهم ان ذلك الرداء قد حيك بمعجزة لجلده الناعم، وان الانسانية جمعاء لا تلبس اسوى الالياف الخشنة.
ومن اذا توسّد فراشا لينا شعر براحته اولا ثم تمثل العالم كله متقلبا على أشواك والحسك» [18]

بعدما يفرغ جبران من اعطاء معنى للغنی واثبات ان الانسان فقير لله وبعد تسائلاته عن الانانية والكبرياء الموجودة عند الاثرياء والفقراء ينطلق قائلا:

«لا، لست وحدي رهين الظلمتين ظلمة الانانية وظلمة الاستكفاء
لست وحدي فكلنا من جبلة واحدة». [19]

الأرواح المتمردة (1908)
«کتاب ظهر سنة 1908 وإنطوی علی أرواح تمرّدت علی التقالید والشرائع القاسیة التی تحدُّ من حریة الفکر والقلب التي تسمح لحفنة من الآدمیین أن تتحکم في أرزاق الناس وعواطفهم وأعناقهم باسم القانون وباسم الدین وفي الکتاب أربع قصص هي «السیدة وردة الهاني»، «صراخ القبور»، و«مضجع العروس» و«خلیل الکافر». [20]

يصور لنا جبران في الارواح المتمردة طبيعة المجتمعات المنقسمة بين الفقراء والاغنياء ويرسم لنا كيف يصفع الغنى الفقر ليبقى ضعيفا منصاعا الى الابد وهذه الصور يرسمها لنا الرسام جبران هذه المرة ليست عن طريق الحوار الذاتي والمونولوجي بل عن طريق الحکايات والقصص التي تكون قريبة جدا لواقع المجتمعات مثلا انه في قصة "خليل الكافر" يقول عن الشيخ عباس انه يعيش في لبنان كالأمير بين الرعية. وان منزله قائم بين اكواخ الفقراء الحقيرة يشابه الجبار الواقف بين الاقزام.

ويقول جبران ان استسلام الفقراء والمساكين الى الشيخ لم يكن صادرا عن ضعفهم وقوته فقط، بل كان ناتجا عن فقرهم واحتياجه اليه. لأن الحقول التي كانوا يحرثوها والاكواخ التي يسكنوها كانت ملكه وقد ورثها عن ابيه وجده وورثوا الفقر والتعاسة عن آبائهم وجدودهم.

ويشير في النهاية ان هؤلاء المساكين يبقون مثقلين بديون الشيخ مكبلين بحاجتهم اليه خائفين غضبه طالبين رضاه.

ويشير في هذه المجموعة الى كثير من العائلات الفقيرة التي تعيش في الاكواخ كشخصية راحيل التي تعيش مع ابنتها مريم ويصور لنا كيفية دخول خليل الى القرية وكيف استطاع ان يتعاطف مع الفقراء والمساكين ويعلمهم حقوقهم ولا شك ان جبران في هذه القصة المطولة اشار الى الطبقة الفقيرة والطبقة الماكة بشكل رائع اذ بوسع القارئ ان يصنف بين الطبقات وهناک زوايا واضحة تظهر لنا الفقر والغنى بكل الحقائق ويرسم لنا بساطة الناس الفقراء وحياتهم البسيطة اذ ان النساء تذهب لتعزية الشيخ عباس بعد وفاته الغامض. يقول جبران:

«اما الشيخ عباس فقد اصيب بعلة في نفسه شبيهة بالجنون، فكان يسير ذهابا وايابا في رواق منزله كانمر المسجون، وينادي خدامه باعلى صوته فلا يجيبه غير الجدران، ويصرخ مستنجدا برجاله فلا يأتي لمعونته غير زوجته المسكينة التي عانت من خشونة طبائعه ما قاساه الفلاحون من مظالمه واستبداده. ولما جاءت ايام الصوم، اعلنت السماء قدوم الربيع، انقضت ايام الشيخ بانقضاء زوابع الشتاء، فمات بعد نزع موجع مخيف، وذهبت روحه محمولة على بساط اعماله لتقف عارية أمام ذلك العرش الذي نشعر بودوده ولا نراه.

وقد اختلفت الاراء في سبب موته، فكان بعضهم يقول قد اختلّ شعوره فقضى مجنونا،
وبعضهم يقول قد سمم اليأس حياته عندما زالت سطوته فمات منتحرا.أما النساء اللواتي ذهبن لتعزية زوجته فأخبرن رجالهن بأنه مات خائفا مرتاعا.» [21]

أخيرا ان قصة "وردة الهاني" و"صراخ القبور" لا تقل مأساة من قصة خليل الكافر ويصور لنا جبران تمرد الارواح والنفوس بواقعية بعيدا كل البعد عن الخيال والرومانسية ويجعل من القارئ يرتبط مع الاحداث بروحه ونفسه.

فقصة وردة الهافي هي «فتاة اُکرهت علی الاقتران برجلٍ غنی متقدم في السن فما لبثت أن کرهت الزواج یوم التقت بالفتی الذي أثار کوامن نفسها. والقصة شکوی وتظلم، وثورة علی السطة التي تکره علی الزواج اکراهاً، لأن الزواج أرواح قبل أن یکون زواج اجساد». [22] وایضاً قصة «مضجع العروس» تتکلم عن بعد ماساوی یإتي من عامل الفقر والغنی وهيَّ «فتاة غشها رجل غنی ففصلها عن حبیبها حتی یقترن بها، وفي لیلة الزفاف عرفت الحقیقة وقد طعنت حبیبها ونفسها بخنجر کانت تخبئه في ثیابها» [23]

الأجنحة المتكسرة (1912)
کتاب ظهر سنة 1912 وانطوی علی قصة جبران خلیل جبران فی حبه الاول وکیف حالت التقالید وسلطة رجال الدین دون اقتران الحبیبین، فاقترنت الفتاة بابن اخي المطران من غیر حب وکان في ذلک شقاءوها» [24]

يعطى جبران خليل جبران في الاجنحة المتكسرة للفقر والغنى معان اخرى ويقول بان الفقر والغنى يتلخص بالقول والكلام ويعطي لحديث النفوس وحديث الارواح ميزة بوسعها ان تجعل من الفقير غنيا ومن الغني فقيرا قائلا:
«كلمة واحد تخرج من بين شفتي رجل تصيرك غنياً بعد الفقر أوفقيراً بعد الغنى» [25]

ويقول جبران في "بحيرة نار":
«كل ما يفعله الإنسان سراً في ظلمة الليل يظهره الإنسان علناً في نور النهار. الكلمات التي تهمسها شفاهنا في السكينة تصير على غير معرفة منا حديثاً عمومياً. الأعمال التي نحاول اليوم إخفاءها في زاويا المنازل تتجسم غداً، وتنتصب في منعطفات الشوارع.
كذا أعلنت أشباح الدجى مقاصد المطران بولس غالب من اجتماعه بفارس كرامة، وهكذا حملت دقائق الأثير أقواله وأحاديثه إلى أحياء المدينة التي بلغت مسمعي. 
ما طلب المطران بولس غالب مقابلة فارس كرامة في تلك الليلة المقمرة ليفاوضه بشؤون الفقراء والمعوزين أويخابره بأمور الأرامل والأيتام، بل أحضره بمركبته الخصوصية الفخمة ليطلب منه ابنته سلمى عروساً لابن أخيه منصور بك غالب » [26]

نرى هنا بأن جبران لم يقل شيئا غيرالحديث عن الفقراء والمعوزين والايتام لانه يرى الحديث عن هذه الامور هي الاهم من كل شيئ ويحاول جبران ان يقسم النفوس الى غنية وفقيرة قائلا:

«كان فارس كرامة رجلاً غنياً ولم يكن له وريث سوى ابنته سلمى، وقد اختارها المطران زوجة لابن أخيه لا لجمال وجهها ونبالة روحها بل لأنها غنية موسرة تكفل بأموالها الطائلة مستقبل منصور بك، وتساعده بأملاكها الوسيعة على إيجاد مقام رفيع بين الخاصة والأشراف». [27]

ويشير جبران الى نقطة هامة جدا حول اموال الاباء الطائلة التي لا تجلب سوى الشقاء والطاعة وهويرى الثراء لا يجدي نفعا قائلا:
«إن أموال الآباء تكون في أكثر المواطن مجلبة لشقاء البنين. تلك الخزائن الوسيعة التي يملؤها نشاط الوالد وحرص الأم تنقلب حبوساً ضيقة مظلمة لنفوس الورثة. ذلك الإله العظيم الذي يعبده الناس بشكل الدينار ينقلب شيطاناً يعذب النفوس ويميت القلوب. وسلمى كرامة هي كالكثيرات من بنات جنسها اللواتي يذهبن ضحية ثروة الوالد وأماني العريس. فلولم يكن فارس كرامة رجلاً غنياً لكانت سلمى اليوم حية تفرح مثلنا بنور الشمس.» [28]

دمعة وابتسامة (1914)
«کتاب ظهر سنة 1914 وفیه مقالات انطوت علی مواعظ فی المحبه التي تشّد الاکوان بعضها إلی بعض، وفي ألوهیة الإنسان وغیر ذلک من الموضوعات» [29] و«بعد ظهور «الاجنحة المتکسرة» بقلیل طلب إلی جبران صدیقة ینسب عریضة أن یأذن له بجمع مقالاته القدیمة في کتاب «دمعة وابتسامة» فقال:

ذاک عهدٌ من حیاتي قد مضی
بین تشبیب وشکوی ونواح

وأضاف إلی هذا البیت «إنّ الشابّ الذي کتب «دمعة وابتسامة» قد مات ودفن في وادي الاحلام، فلماذا تریدون نبش قبره؟ أفعلوا ماشئتم ولکن لا تنسوا أنّ روح ذلک الشاب قد تقمصّت في جسد رجل یحب العزم والقوة محبته للظرف والجمال یمیل إلی الهدم میله إلی البناء. فهوصدیق الناس وعدوّهم في وقت واحد». [30]

سلط جبران خليل جبران في هذه المجموعة الضوء على مشكلة الفقر والغنى وانه واضح جدا من العنوان ان جبران ما يقصد من الدمعة هي المأساة والابتسامة تكون الفرحة ويصور لنا لوحة حزينة لشخص غني في "الأمس واليوم" ويجعل منه امثولة للاغنياء اذ يتسائل الموسر وهويمشي ببطء نحوقصره متأوها مترددا:

«أهذا هوالمال؟ أهذا الاله الذي صرت كاهنه؟ أهذا ما نبتاع بالحياة ولا يمكننا ان نستبدل به ذرّة من الحياة؟ من يبيعني فكرا جميلا بقنطار من ذهب؟ من يأخذ قبضة من الجواهر بدقيقة محبة؟ من يعطيني عينا ترى الجمال ويأخذ خزائني» [31]

ولا ينتهي جبران هنا من الغني بل يبحث عن الحلول ويجعل الفقير امام الغني ليبدأ الصراع بين الفقر والغنى:
« وقف أمام الغني فقير ومد يده متسولا، فنظر وقد انضمّت شفتاه المرتجفتان وانبسطت سحنته المنقبضة وانبعث من عينيه نور لطيف. كان الأمس الذي رثاه بقرب البحيرة قد مرّ مسلما فاقترب من المستعطي وقبله فبلة المحبة والمساواة وملأ يده ذهبا وقال والرأفة تسيل من كلماته:خذ يا أخي الآن وعد غدا مع أترتبك واسترجعوا أموالكم. فابتسم الفقير ابتسامة الزهرة الذابلة بعيد المطر وراح مسرعا» [32]

هذه الصورة التي يرسمها لنا جبران تدل على انه قريب جدا الى نفوس الفقراء وانه تخلل خلجات ارواحهم البريئة بحيث نجد في مكان آخر ينادي الفقير بخليلي وعندة مقطع في مجموعة دمعة وابتسامة باسم "يا خليلي الفقير" ويقول هنا:
«يا أحبائي الضعفاء شهداء شرائع الانسان، انتم تعساء وتعاستكم نتيجة بغي القوي وجور الحاكم وظلم الغني وانانية عبد الشهوات.
لا تقنطو/ فمن مظالم هذا العالم، من وراء المادة، من وراء الغيوم، من وراء الاثير، من وراء كل شيء، قوة هي كل عدل وكل شفقة وكل حنووكل محبة.

أنتم مثل ازهار نبتت في الظل. سوف تمر نسيمات لطيفة وتحمل بذوركم الى نور الشمس فتحيون هناك حياة جميلة.» [33]

يقوم جبران بعدئذ بمقارنة بين الفقير والغني وهولايزال يوجه كلامه للفقير لا للغني لانه يرى نفسه اقرب للفقير من الغني فيقول:
«خليلي، ان الفقر يظهر شرف النفس، والغنى يبين لؤمها، والحزن يلطف العواطف، والسرور يدملها، لأن الانسان مابح يستخدم المال والسرور توصلا للإزدياد، مثلما يفعل باسم الكتاب شرّا ينزّه عن الكتاب، باسم الانسانية ما تأباه الانسانية.» [34]

من ثم ينتقل جبران من وصف الفقير الى وصف حالة الدوران بين الفقير والغني اذ يعمل الفقير تحت وطأة الشمس في بساتين الاغنياء الاقوياء الذين فرغوا ليلة البارحة من اللهووالقصف والخلاعة في قصة "الكوخ والقصر" يقول:
«جاء الفجر فهب ذلك الفقير من نومه وأكل مع صغاره وزوجته قليلا من الخبز والحليب ثم قبلهم وحمل على كتفه معولا ضخما وذهب الى الحقل ليسقيه من عرق جبينه ويستثمر ويطعم قواه اولئك الاغنياء الاقوياء الذين صرفوا ليلة امس بالقصف والخلاعة.
طلعت الشمس من وراء الجبل وثقلت وطأة الحر على رأس ذلك الحارث وأولئك الاغنياء مابرحوا خاضعين لسنة الكرى الثقيل في صروحهم الشاهقة.
هذه مأساة الانسان المستتبة على مسرح الدهر وقد كثر المتفرجون المستحسنون وقلّ من تأمّل وعقل.» [35]

المجنون(1918)
«کتاب ظهر سنة 1918 وانطوی علی أمثال وتأملات في موضوعات شتی وجبران یشعر فیه بالوحدة ویثور علی المنافقین والضالین [36]. «فتناول التقالید والسطة وکل ما رآه شاذاً وتوهم أنه کذلک، ثم انتقل إلی الناس اجمعین ورأی الفساد فی طرائق حیاتهم، وأسس تصُّرفهم ومقاییس آرائهم، ورأی أنّ کل شئ فیهم عامل من عوامل عبودیتهم، وأنهم یعبدون عن الاجواء الحرة التي تسبح فیها النفوس والاجساد، وتلتقی فیها القلوب بالقلوب، حیث لا حاجة إلی شرائع وطقوس وعادات وحیث لا ظُلم ولا بغض ولا انتقام؛ عن الاجواء الذي تسیطر فیها المحبة الشاملة بقانونها ونظامها وطقوسها، أي بحریتها المطلقه التی هی وحدها القانون والنظام والطقوس» [37]

جبران خليل جبران يصور لنا في كتابه المجنون مهزلة المحاكم والشريعة ويرسم لنا اخلاق الناس والسلطات وكيف هذه الامور دعت كاتبنا العبقري يختار الجنون في هذا العالم الممتلئ بالغرائب والعجائب التي لا يقبلها المنطق ولا العقل ولا الاديان وافضل قصة في هذا الكتاب سلطت الضوء حول غطرسة المحاكم وغباوتها اذ راح ضحيتها الكثير من الابرياء هي قصة "الحرب" وهي افضل تسمية لها اذ اننا نشاهد في الحروب الكثير من الاستغلال والمخادعة والظلم.

يقول جبران في هذه القصة:«ان رجلا دخل على الامير وحياه باحترام ووقار وكانت احدى عينيه مفقورة والدم ينزف منها.
فسأله الامير:
 ماذا دهاك؟
فأجابه الرجل:
 أنا لص ايها الامير وقد ذهبت لأسرق أموال أحد الصيارفة... وفيما انا اتسلق الجدار ظللت سبيلي ودخلت من نافذة جاره الحائك.
فعدوت طالبا الهرب وأنا لا ابصر شيئا لشدة الظلام، فلطم نول الحائك عيني وفقرها. ولذلك انا اتيتك الان ملتمسا ان تنصفني من الحائك.
امر الامير باستدعاء الحائك وبعد احضاره امر ان تقلع عينه.

فقال له الحائك:
 بالصواب حكمت ايها الامير، فان العدالة تقضى بقلع عيني. لكن غير خاف على سموّك انني احتاج في حرفتي الى عينين لكي ارى حاشيتي الشقة التي انسجها. غير ان لي جارا اسكافا له عينان مثلي، لكنه لا يحتاج في مهنته الا لعين واحدة. فاستدعه ان اردت واقلع احدى عينيه للمحافظة على الشريعة.

فارسل الامير في الحال واستدعى الاسكاف، فحضر واقتلعت عينه.
وهكذا تأيدت العدالة.» [38]

ففي هذه القصة رسم لنا جبران مدى طلم المحاكم العالمية التي تظلم باسم الاديان والشرائع وتسمى بالعدالة ويؤكد غباوة المحاكم التي يرسم لها الآخرون طرقها خوفا على انفسهم من الهلاك اذ يعاقب دائما الناس البعيدين عن الاحداث وهذه هي الحرب نفسها اذ تظلم الناس الذين لا يدرون لم يحاربون ولم يسجنون ولماذا في نهاية المطاف تقلع عيونهم أويموتون والحقيقة ان الضحايا دائما آخر من يعلم بمجريات الحرب والاحداث وهذه العقوبات لا تحصل الى على عاتق الفقراء والمساكين والبسطاء من الناس الذين ليس لهم لا ناقة ولا جمل في الاحداث.

العواصف(1920)
«کتاب ظهر سنة 1920 وفیه مقالات عنیفة في مثل «حفار القبور» و«العبودیة» و«یا بني أمي» و«نحن وأنتم» و«الاضراس المسوّسه» والکتاب عاصفة هوجاء جارفة» [39]

ان جبران في كتابه العواصف يشير الى الفقر والغنى بشكل مباشر ويوجه خطابه الى الفقير والغني كالعاصفة خاصة في "العبودية" من كتاب العواصف انه هنا يصنف العبيد والاغنياء والفقراء ولا ينسى قيد انملة في هذا المجال فيقول:
«انما الناس عبيد الحياة وهي العبودية التي تجعل ايامهم مكتنفة بالذل والهوان ولياليهم مغمورة بالدماء والدموع.

ها قد مرّ سبعة آلاف سنة على ولادتي الاولى وللان لم أر غير العبيد المستسلمين والسجناء المكبلين. » [40]

ويدخل جبران بلا مقدمة الى منازل الفقراء والاغنياء ويذكر الاطفال الرضع والصبيان والصبايا والنساء قائلا:
«دخلت منازل الاغنياء الاقوياء وأكواخ الفقراء الضعفاء، ووقفت في المخادع الموشاة بقطع العاج وصفائح الذهب، وفي المآوي المفعمة بأشباح اليأس وأنفاس المنايا فرأيت الاطفال يرضعون العبودية مع اللبن، والصبيان يتلقنون الخضوع مع حروف الهجاء، والصبايا يرتدين الملابس مبطنة بالانقياد والخنوع، والنساء يهجعن على اسرة الطاعة والامتثال.» [41]

ویری في النهایة «أن الناس عبید الحیاة وأنهم من ثم غارقون في الذّل والهوان ویری أن العبودیة مخیمة علی القصور والمعاهد والهیاکل، وأن الحریة الارض شبحَّ هزیل یسیر منفرداًمحدقاً إلی وجه الشمس» [42]

النبي(1923)
«کتاب ظهر سنة 1923، وهوکتاب جبران وهدف حیاته، بل هوالقمة التي اتجهت إلیها جمیع قواه. وهویقع في 28 فصلاً في المحبة والزواج والابناء والعطاء والغذاء والعمل والفرح والترح والمساکن والثیاب والبیع والشراء وما إلی ذلک. وهکذا تناول جبران في کتابه علاقة البشر بعضهم ببعض». [43]

يتطرق جبران خليل جبران في كتاب النبي الى موضوع هام جدا وهوالعطاء والسؤال ياتي على لسان غني يسأل النبي عن العطاء ولا شك ان جبران خليل جبران بدأ بالحديث عن الاغنياء في كتاب النبي قبل ان يتطرق الى الفقراء اي انه اراد ان يعطي صورة واضحة عن المترفين والذين يعطون القليل حبا للشهرة فيقول:
 «قال له رجل غني: هات حدثنا عن العطاء
فأجاب قائلا:
 إنك إذا اعطيت فإنما تعطي القليل من ثروتك
ولكن لا قيمة لما تعطيه ما لم يكن جزءاً من ذاتك لأنه أي شيء هي ثروتك» [44]هنا يشير جبران الى الغنى بمعناه المعنوي وليس المادي وهذه الرؤية لم تجدها في كتاب دمعة وابتسامة وفي الارواح المتمردة ونجد الغنى والفقر في كتاب النبي بشكل مختلف اي بسحنته الروحانية أوالصوفية اذا صح التعبير لانه اشار الى اعطاء شيء من ذات الانسان وليس الثروة التي زائلة.

«ألبست مادة فانية تخزنها في خزائنك وتحافظ عليها جهدك خوفا من أن تحتاج إليها غدا؟
والغد، ماذا يستطيع الغد أن يقدم للكلب البالغ فطنة الذي يطمر العظام في الرمال غير
المطروقة وهو يتبع الحجاج إلى المدينة المقدسة؟
أوليس الخوف هو الحاجة هوالحاجة بعينها؟
أوليس الظمأ الشديد للماء عندما تكون بئر الظامئ ملآنة هو العطش الذي لا تروى غلته؟

من الناس من يعطون قليلاً من الكثير عندهم وهم يعطونه لأجل الشهرة ورغبتهم الخفية في الشهرة الباطلة تضيع الفائدة من عطاياهم
ومنهم من يملكون قليلاً ويعطونه بأسره » [45]

ان ملخص رؤية جبران في كتاب النبي حول العطاء يجب ان يكون من ذات الانسان والشخص الغني هومن استطاع ان يعطي شيئا من ذاته المخلصة لا مما يكنزه من مال وثروة.

وجبران في «النبي» یخطّ طریق الحیاة المُثلی وإذا هي تحرُّر من کلّ شریعة سوی شریعة المحبة الشاملة، واذا هي اعتبار الحیاة طریقاً إلی الموت والموت طریقاً إلی الحیاة بالتناسخ، والله روحاً موزعةً في اجزاء الکون... والعبادة والدّین حیاة وعملاً». [46]

رمل وزبد (1926)
«کتاب ظهر سنة 1926 وفیه مجموعة من الحکم والآراء منثورة في غیر نظام». [47]
يستهل جبران خليل جبران كتابه "رمل وزبد" في حالة من اليأس والابتئاس وهويجدّ في البحث عن الحقيقة:

«على هذه الشطآن اسعى الى الابد.
بين الرمل مسعاي وبين الزبد
سوف يطغى المد على آثار قدميّ فيمحوما وجد
وتطوح الريح بعيدا بعيدا بالزبد
أما البحر وأما الشاطئ، فباقيان الى الابد» [48]

وبامكاننا ان نعتبر ما كتبه جبران في رمد وزبد هوتتمة للنبي في بعض المفاهيم والمواضيع وبما ان دراستنا تكون حول الفقر والغنى اشير الى مفهوم "العطاء" الذي ذكرناه في مجموعة النبي فيقول جبران في كتابه رمل وزبد:

«ليس الجود أن تعطيني ما أنا اشدّ منك حاجة اليه، انما الجود أن تعطيني ما انت أشدّ اليه حاجة مني» [49]
والواقع ان رؤية جبران تتضح بكل وضوح في كتابه رمل وزبد حول الغنى وهويقول بان الغني والشخص الذي يحس بالثراء بكل وجوده لا يستطيع ان يعرف الحياة ويغني بها بل انه لا يعرف الرب ليسأله ويناجيه قائلا:

«أنى لك أن تغني اذا كان فمك مفعما بالطعام؟
أنى ليدك أن ترفع لتسأل البركة اذا كانت مترعة بالذهب» [50]

ويقول عن الغنى والفقر:
«انك محسن حقا حين تتزكى، وعندما تتزكى أدرْ وجهك عمن يتقبل عطاءك حتى لا تبصر حياءه عاريا.
ما الفرق بين أكثر الناس غنى واشدهم إملاقا سوى يوم في سغب وساعة على ظمأ» [51]

يسوع ابن الإنسان (1928)
کتاب ظهر سنة 1928، یسوع جبران یختلف تماماً عن یسوع الانجیل [52] في هذا الکتاب یقول جبران خلیل جبران«یسوع یساور افکاری من زمان... وهواکبر حقیقة في حیاة البشریة» [53]
ان عند جبران رؤية مختلفة تماما في كتابه "يسوع ابن الإنسان" عن كتبه الأخرى انه يحث الناس جميعا للتأمل حول مفهوم النفس وخاصة يركز على المفاهيم الدينية لتشفيفها واعطاءها تفاسير اكثر انسانية وطبيعية وانه في قصة "رجل غنيّ عن التملك" يشير الى هذه النقطة ويتسآئل هل يجب على الغني ان يمد مائدته للأغنياء؟ هل الفقراء يجب عليهم أن يتقربوا الى موائد الملوك بلا استأذان؟ وهذه الاسئلة تثير تسائلات عديدة لدى القارئ لأن جبران هذه المرة يدعوا القارئ الى التأمّل بنفسه ولربما اراد جبران للقارئ ان يصل بنفسه الى الجواب من خلال الرموز والاشارات التي وضعها في هذه القصة مثلا يقول:
«كان يذكر الأغنياء بسوء، وذات يوم سألته قائلا: سيدي: ماذا أنا صانع لتبلغ النفس طمأنينتها؟ فأمرني أن انزل عما املك للفقراء وأكون له رفيقا » [54]

ويتسائل جبران قائلا:
كان لي في بيتي من الأرقّاء والخدم أربعون ومائة، ويعمل بعضهم في بساتيني وكرومي، ويبحر بعضهم بسفني الى الجزر البعيدة.
تُرى ماذا كان يحلّ بأرقّائي وخدمي وزوجاتهم وأولادهم لوكنت القيت بالا لما قال ونزلت عن أملاكي للفقراء؟! [55]

هذا التسائل الذي يثيؤه جبران هوعبارة عن اشكالية يريد تبيينها وتشفيفها لتكون اكثر واضحة ويقول:
لكانوا هم الآخرون سيصبحون من السائلين على أبواب المدينة أوفي رواق الهيكل.
ويؤكد جبران نفسه على ان هذه القضية هي اصبحت لغزا بالنسبة اليه ولا يمكن حلها ببساطة:
واليك ما هومتناقض مبهم، بل يكاد يكون أحجية: أحتم على الموسرين أن يخلعوا على المحتاجين ثرواتهم، أ ينبغي للمحتاجين أن يشربوا كأس الغني ويأكلوا رغيفه من قبل ان يدعوهم الى طعامه؟

وهل لزم على صاحب القصر أن يكون مضيفا لنزلائه من قبل أن يقيم نفسه سيدا على أرضه؟ [56]
في النهایة من اللافت للنظر إن «کتب جبران الدینیة، المعروفة بکتاب النبي ویسوع ابن الانسان، فهي من وحي فلسفة الموحدين، المنتشرة بين بعض طبقات الخاصة من المجتمع الامیرکي. وأعني بها فلسفة التوحید في مفهومها العقلي «Unitarianism» وفي مفهومها العلمي والعملي معاً» [57]

الخاتمة
في الختام ، النتيجة التي يمكن ان نستشفّها من هذه الدراسة هي ان رؤیة جبران خليل جبران تتغيّر بالنسبة للمفاهيم من زمان الى آخر وان الفقروالغنی الذي رأيناه في بداية كتاباته غير الفقر والغنی الذي نجده في كتاباته الأخيرة، وهذه الدراسة هي تفتح ابوابا للقارئ ليتبيّن له مدى الاختلافات الموجودة عند جبران خليل جبران في صياغة الفكرة وتبلورها.

والشيء الجميل ان جبران لا يضع نفسه في اشكالية وازدواجية في اعطاء صور واضحة عن الفقر والغنى بل هويرسم اللوحة من خلال مشاهداته للحياة اليومية انه لا يبتعد عن واقعه الراهن بل يصوره دائما بريشته السحرية وانه يتأثر بالمعاناة ويجعلها تعبر من خلجات قلبه ومن روحه النقية من ثم يصبّها على الورق وهذا الامر جعل من جبران ان يكون جبران لأنه لا يبتعد عن وقائع المجتمع المريرة ولا يستنكف اذا كتب عن الفقراء والتعساء وهذا ما يميّزه عن الكتاب الآخرين الذين يبتعدون عن الحقيقة راسمين للحياة لوحات لا تمت بصلة مع الواقع المعاش.

ان الاختلاف الذي نجده عند جبران في آثاره يدل على انواع الفقر والغنى في المجتمعات وان هذا الاختلاف هوموجود في حياتنا اليومية لهذا نرى الفقر في “ الاجنحة المتكسّرة ” ليس كما نراه في “ دمعة وابتسامة ” والغنى الموجود في النبي ليس هوالغنی الموجود في كتابه “ المجنون ” وهذا الاختلاف سوف يعطي لجبران التفوّق في رسم خريطة الفقر والغنى على ارض الواقع.

فهرس المصادر

  1. جبران خلیل ،جبران : الأجنحة المتکسرة،دارصادر، الطبعة الرابعة، ج الثالث، 1997 م.
  2. ـــــــــــــــــــــــــــــــــ: الأرواح المتمردة، دار صادر، الطبعة الرابعة،ج الثانی، 1997 م.
  3. ـــــــــــــــــــــــــــــــــ: دمعة وابتسامة، دار صادر،الطبعة الرابعة، ج الرابع، 1997 م.
  4. ـــــــــــــــــــــــــــــــــ: رمل وزبد، اشراف میخائیل نعیمه، دار الشروق، الطبعة السادسة، ج العاشر، 1997 م.
  5. ـــــــــــــــــــــــــــــــــ:العواصف، دار العربي للبستاني، القاهرة، 1997.
  6. ـــــــــــــــــــــــــــــــــ: المجنون، ترجمة: انطونیوس بشیر،القاهرة،1999.
  7. ـــــــــــــــــــــــــــــــــ: النبی، الترجمة: انطونیوس بشیر، دار صادر، الطبعة الرابعة، ج التاسع، 1997 م.
  8. ـــــــــــــــــــــــــــــــــ: یسوع ابن الإنسان، ترجمة: ثروت عکاشة، دار الشروق، الطبعة السادسة، 1999 م.
  9. دیب، ودیع: الشعر العربي في المهجر الامیرکي، دارالعلم للملایین، الطبعة الثانیة، بیروت، 1993.
  10. شکیب انصاری، محمود: تطور الادب العربي المعاصر، انتشارات دانشگاه شهید جمران، اهواز، 1384.
  11. الفاخوری، حنا: تاریخ الادب العربي (الادب الحدیث)، منشورات ذوی القربی، قم، 1422
  12. ـــــــــــــــــــــ: تاریخ الادب العربي، مکتبة البولسیة، بیروت، 1987.
  13. القوال، انطوان: جبران خلیل جبران نصوص خارج المجموعة، دارالجیل، بیروت، 1994.
  14. محمودابوعید، بنان: جبران خلیل جبران أدیب المهجر الاکبر، دارالاسراء والوضاح، الاردن،2005.
  15. النجار، محمدعلی; وآخرون: معجم الوسیط، مکتبة الشروق الدولیة، الطبعة الرابعة، مصر،2005.

[1الفاخوری 1987، ص1094

[2انصاری 1384، ص225

[3الفاخوری 1987،ص1094

[4انصاری 1384، ص225

[5الفاخوری 1987، ص1094

[6الفاخوری197، ص1095

[7محمود ابوعید 2005، ص8

[8الفاخوری 1987، ص1095

[9معجم الوسیط، ماده « ف ق ر»

[10معجم الوسیط ماده « غ ن ی»

[11محمدابوعید 2005، صص7-6

[12القوّال1994، ص 35

[13المصدر نفسه، ص 36

[14المصدر نفسه، ص 36

[15المصدر نفسه، ص 37

[16المصدر نفسه، ص 37

[17المصدر نفسه، ص 37

[18المصدر نفسه، ص 38

[19المصدر نفسه، ص 38

[20الفاخوری، 1422، 228

[21خلیل جبران، 1997،ج الثانی، ص 86

[22الفاخوری، 1422،228

[23الفاخوری، 1422، 228

[24الفاخوری، 1422، 228

[25خلیل جبران، 1997،ج الثالث، ص 29

[26المصدر نفسه، ص 36

[27المصدر نفسه، ص 36

[28المصدر نفسه، ص 38

[29الفاخوری، 1422،228

[30الفاخوری، 1422، صص223-222

[31خلیل جبران، 1997،ج الرابع،ص 35

[32المصدر نفسه، ص 36

[33المصدر نفسه، ص 49

[34المصدر نفسه، ص 78

[35المصدر نفسه، ص 53

[36الفاخوری، 1422، ص229

[37الفاخوری، 1422، ص235

[38خلیل جبران، 1999،ص 30

[39الفاخوری، 1422،ص229

[40خلیل جبران،1997، ص 12

[41المصدر نفسه، ص 13

[42الفاخوری،1422،ص231

[43الفاخوری، 1422، ص229

[44خلیل جبران، 1997،ج التاسع، ص 18

[45المصدر نفسه، ص 18

[46الفاخوری،1422، ص236

[47الفاخوری، 1422، ص229

[48خلیل جبران، 1999، ص 11

[49المصدر نفسه، ص 30

[50المصدر نفسه، ص 25

[51المصدر نفسه، ص 31

[52الفاخوری، 1422،ص229

[53الفاخوری، 1422، ص224

[54خلیل جبران،1999، ص 175

[55المصدر نفسه، ص 175

[56المصدر نفسه، ص 175

[57دیب، 1993، ص175


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى