السبت ٣٠ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٦
تقديم كتابيْن:
بقلم فرج الحوار

في (الوصف بين النظرية والنّصّ السّرديّ) و(بحوث في السّرد العربيّ)

لمحمّد نجيب العمامي

لن أتبسّط في عرض مصنّفي الباحث محمّد نجيب العمامي: "بحوث في السّرد العربيّ" و"في الوصف بين النّظرية والنّصّ السّرديّ" أوّلا لأنّ ذلك يتطلّب من الوقت والتّحليل ما لا يتّسع له المقام وثانيا وهذا هو، في نظرنا، أهمّ السّببين لأنّ وظيفة التّقديم تكمن في الإشارة إلى مواطن الطّرافة والجدّة في كتاب مّا يما يثير في المتقبّل الرّغبة في قراءته لا في تلخيص الأثر واستصفاء زبدته بكيفيّة يتهيّأ معها للمتقبّل أنّ قراءة الأثر المذكور باتت أمرا لا طائل منه.

ونحن نستهلّ حديثنا بملاحظتين عامّتين نشير من خلالهما إلى الوشائج القائمة بين المصنّفين على مستويي المنهج والمضمون. أولى الملاحظتين أنّ البحثين المنجزين يتنزّلان في حقل الدّراسات السّرديّة وهو من مجالات البحث التي لم تستقرّ بعد رغم وجود جهاز نظريّ ومفهوميّ على جانب كبير من الأهمّيّة أفاد منه الأستاذ محمّد نجيب العمامي بطريقة ذكيّة دون الوقوع في مطبّات التّرديد والتّطبيق الحرفيّ وهما من ضمن الكبائر التي يُؤاخذ بها عادة المشتغلون بالسّرديات.

أمّا الملاحظة الثّانية فمفادها أنّ المصنّف الثّاني الموسوم بـ "في الوصف بين النّظريّة والنّصّ السّرديّ" هو في ما نرى تطوير لمقال في نفس الموضوع تصدّر الكتاب الأوّل وهو بعنوان "الوصف في رواية "ترابها زعفران" لإدوار الخرّاط". وملاحظتنا هذه نروم التّأكيد من خلالها على وجود مشروع بحث لدى الأستاذ محمّد نجيب العمامي يتمحور حول موضوعين اثنين: الوصف والحوار في النّصّ السّرديّ. وقد تبسّط الباحث في شرح دواعي اهتمامه بهذين المبحثين بالذّات بما يجعل من مشروع بحثه العامّ مطلبا نظريّا وإجرائيّا ملحّا في ظلّ غياب الاهتمام بما يُعتقد أنّه من المظاهر الهامشيّة للنّصّ السّرديّ.

الأغراض والمنهج

والقارئ لكتابي الأستاذ محمّد نجيب العمامي تستوقفه بدايةً المدوّنة السّرديّة المعتمدة بما اتّسمت به من تنوّع وشمولية. وذلك بانفتاحها على السّرد العربيّ القديم ممثّلا في إحدى مقامات الهمذاني وبالمكانة التي أولتها للنّصوص التّونسيّة إذ تواترت في تضاعيف الأبحاث، إلى جانب أسماء الكتّاب المشارقة من أمثال نجيب محفوظ وإدوار الخرّاط وإلياس خوري والطّيّب صالح وحنّا مينه وتوفيق يوسف عوّاد، أسماء كتّاب تونسيّين كثيرين نذكر منهم علي الدّوعاجي ومحمّد الباردي وصلاح الدّين بوجاه وبوراوي عجينة ومحمّد آيت ميهوب وكمال الزّغباني والمنجي بن خليفة وغيرهم.

وتنوّع المدوّنة ليس أمرا عارضا وإنّما هو، في ما نرى، وليد توجّه منهجيّ صارم يمكن تلمّس آثاره بوضوح على الأصعدة الثّلاثة التّالية:

في مستوى الأغراض يتمثّل طموح الباحث في تناول شتّى الظّواهر السّرديّة مع التّركيز على ظاهرتي الوصف والحوار باعتبار أنّهما ممّا أهمله الخطاب النّقديّ والعربيّ منه على وجه الخصوص. وبهذا الاعتبار فإنّ عمل الأستاذ العمامي هو من الأعمال الرّائدة. وإلى جانب هذين المبحثين الهامّين خصّ الأستاذ العمامي باهتمامه أغراضا أخرى نذكر منها: القيمة والتّعدّد والشّكل السّرديّ. وسنعود إليها في ما سيلي من هذه الكلمة.

أمّا في مستوى المنهج فقد أوضح الباحث في مقدّمتي مصنّفيه وخاتمة الثّاني منهما أنّه اختار لأبحاثه المنهج البنيويّ. ولكنّ ذلك لا يعني أنّه انغلق على ما سواه من المناهج إذ نراه يطبّق المنهج التّداوليّ في تناوله لمقامة الهمذاني. وذلك لقصور المستويين التّركيبيّ والدّلاليّ عن الإيفاء بحاجة السّامع /القارئ على حدّ تعبيره. والملاحظ إجمالا أنّ الخيارات المنهجيّة التي ألمحنا إليها اعتُمِدت لا لاعتقاد راسخ في قيمتها هي بالذّات وإنّما لكونها تفي بالحاجة في موطن مّا. ومعنى ذلك أنّ الباحث لا يتعامل مع مناهجَ تصرّفَ المؤمن مع عقيدته. فينتج عن تبنّيه لإحداها إقصاؤه ضرورة لما سواها. ولا بدّ من الإشارة في هذا الصّدد إلى أنّ هذا الموقف المنهجيّ يتّفق مع انفتاح الخطاب النّقديّ الحديث على مناهجَ كثيرةٍ تتآلف في إطاره بقصد معالجة الأثر المدروس من شتّى زواياه.

ولعلّ تنوّعَ المدوّنة السّرديّة المعتمَدة هو ما أتاح للباحث أن يتوقّف عند شتّى المدارس والاتّجاهات الفنّيّة الغربيّة منها والعربيّة على حدّ السّواء. وذلك ليس فقط لغرض الإحاطة بالظّاهرة السّرديّة وإنّما لاقتناع لدى الباحث أنّ الخيار الفنّيّ للمؤلَّف- أكان معلنا أم مضمرا- هو من ضمن المحدّدات التي تقرّر شكله وأسلوبه. وعلى هذا الأساس فإنّنا نرى الأستاذ محمّد نجيب العمامي عن التّجريب في مقابلة الواقعيّة محدّدا سماتِ كلّ منهما بما يجلو الفوارق بينهما. ورأيناه من ناحية أخرى يولي ظاهرة "توظيف التّراث" في النّصّ السّرديّ وظاهرةَ "الشّكل" في السّرد التّونسيّ عناية خاصّة باعتبارهما من السّمات البارزة للنّصّ السّرديّ العربيّ عموما. وينتهي الباحث من كلّ ذلك إلى نتيجة مزدوجة تتمثّل في التّمييز بين الواقعيّة بوصفها ضربا من الكتابة التّقليديّة وما أسماه بالكتابة الحداثيّة ممثّلا لها بكتابات إدوار الخرّاط وبعض الرّوائيّين التّونسيّين من أمثال هشام القروي وفرج الحوار وصلاح الدّين بوجاه.

ونحن نلاحظ بهذا الخصوص أنّ الباحث رغم محاولاته بلورة مفاهيم جديدة كمفهوم الكتابة الحداثيّة لم يقطع تماما مع الجهاز المفهوميّ التّقليديّ وظلّ إلى حدّ مّا حبيس ثنائيّة الشّكل والمضمون أو الشّكل والمعنى. وهي مقولة تتعارض في رأينا مع مفهومي الكتابة والنّصّ. فإن جاز الفصل بين الشّكل والمضمون- على ما ذهب إليه الباحث- فهل بقي من معنى لمفهوم الكتابة الحداثيّة القائم أساسا على انتفاء هذه الثّنائيّة؟ أما كان أجدى بالباحث أن يتحدّث- تساوقا مع مفهوم الكتابة الحداثيّة- عن مغامرة الكتابة لا عن مغامرة الشّكل فحسب ؟ وكيف يجب أن تفهم ملاحظته عن ضرورة "إعادة الاعتبار إلى مسألة المعنى التي غيّبها الاهتمام المفرط بالأشكال في بعض النّصوص العربيّة المعاصرة" ؟ أليست هذه الملاحظة وأمثالها من "الينبغيّات" التي تجاوزها الخطاب النّقديّ الحديث؟ أليس الاهتمام المفرط بالشّكل على ما بيّنه الأستاذ العمامي نفسه في حديثه عن السّرد التّونسيّ وفي أطروحته عن الرّاوي آليّة من آليات توليد المعنى في الكتابات الحداثيّة؟

مبرّرات البحث

وتكتسب ملاحظتنا الأخيرة قيمة مركزيّة إذا ما تدبّرنا ما قاله الأستاذ العمامي عن الدّوافع التي حدت به إلى القيام بهذه الأبحاث بالذّات كما بسطها في مقدّمتي مصنّفيْه على وجه التّحديد. ونستشفّ منها بوضوح أنّ مشروع الباحث يقوم على مبدأيْن متكامليْن ويصبو إلى نتيجة مهمّة تتمثّل في الخروج عن تقاليد التّرديد والاجترار والتّطبيق الآليّ للمقولات النّقديّة الغربيّة أي بلورة خطاب نقديّ جديد في مجال مخصوص من السّرديات (الوصف والحوار أساسا) مع التّعريف بالمنجزات النّظريّة والإجرائيّة التي تمّت في هذا المجال. ونحن نرى بوضوح أنّ الباحث أضاف إلى المقصد التّعليميّ مقصدا علميّا يتمثّل في بلورة النّظريّات الغربيّة بكيفيّة تتيح استيعابها من قبل القارئ والنّاقد العربيّيْن. وهو ينادي، في هذا الإطار، بضرورة تحيين المنجزات النّظريّة الغربيّة. وذلك بمقابلتها بالنّصوص العربيّة حتّى تتّضح محدوديّتها. والباحث يصدر هنا عن موقف إيديولوجيّ غير معلَن مناهض للمركزيّة الغربيّة ومؤكِّد للخصوصيّة العربيّة ومبدإ الخصوصيّة بشكل عامّ.

والباحث يقرّ، من ناحية أخرى، أنّ طموحه في مستويي التّنظير والتّطبيق -وهما لديه مرتبطان ارتباطا عضويّا- يتمثّل في فتح مجال التّحليل السّرديّ على آفاق بكر. وهذا ما يفسّر تركيزه على ظاهرتي الوصف والحوار وإن بدرجات متفاوتة. وهو يرى بهذا الخصوص أنّ صياغة نظريّة في الوصف والحوار السّرديّيْن العربيّيْن يجب أن تنبثق من المدوّنة السّرديّة العربيّة بالأساس أسوة بما تمّ في حقل السّرديات الغربيّة. وفي هذا الإطار يُفصح الباحث عن موقف متحفّظ من ترجمة الدّراسات الغربيّة لما ينجم عن ذلك من خلط وبلبلة في مستوى المفاهيم. والأستاذ العمامي يبلور هنا مبدأ منهجيّا وإبستمولوجيّا مهمّا لا يخصّ، في الحقيقة، الأبحاث المنجزة بالعربيّة وإنّما يتعدّاها إلى ما يتمّ باللّغات الأجنبيّة نفسها. فإن جاز الحديث عن تبعيّة فكريّة في حقل الدّراسات العربيّة فإنّ هذه التّبعيّة تكون أعمق وأوضح في غيرها خاصّة أنّها مقطوعة الصّلة تماما- إلاّ في ما ندر- بالواقع المحلّي.

مزايا البحث

ويهمّنا أن ننوّه بصورة خاصّة- في خاتمة هذه الكلمة المبتسرة- بالتّوثيق الجيّد لمراجع البحث النّظريّة وخاصّة ما تعلّق منه بالمراجع الغربيّة (41 مرجعا في ما يتعلّق بموضوع الوصف) والتّعليق عليها بإسهاب أحيانا ممّا يجعل من الهوامش في المصنّفيْن وفي كتاب "في الوصف..." بصورة خاصّة كتابا موازيا لا تكتمل الفائدة إلاّ بتدبّره. ولا يخفى أنّ هذا التّوجّه يتّفق تماما مع المقصد التّعريفيّ التّعليميّ الذي أفصح عنه الباحث في مقدّمة "بحوث في السّرد العربيّ". وتنضاف إلى التّعريف بالمراجع الغربيّة وتقريبها من القارئ العربيّ محاولات متواترة في ترجمة بعض المفاهيم والتّعليق عليها بكيفيّة تيسّر استعمالها. ولقد لمسنا من الباحث جرأة في مناقشة بعض هذه المفاهيم والوقوف في وجه كبار المنظّرين من أمثال جيرار جينات ومناقشتهم مناقشة النّدّ للنّدّ كما هو الشّأن مثلا في هامش ص 86 من "بحوث في السّرد العربيّ".

والمتفحّص للنّتائج المعلَنة في خاتمة كتاب "في الوصف..." يتبيّن بدون ما عناء أنّ الباحث لم يكتف بتطبيق نظريّة غربيّة على نصوص عربيّة وإنّما تمثّلت طريقته في اختبار هذه الأجهزة النّظريّة للوقوف خاصّة على النّواقص فيها. وهي نابعة بصورة أساسيّة من كونها إفرازا طبيعيّا للواقع الغربيّ ولمجاله الإبداعيّ. وهي بالتّالي أجهزة نسبيّة بالضّرورة. والأستاذ محمّد نجيب العمامي يقطع بذلك الصّلة بالذّهنيّة الأصوليّة التي تتعامل مع النّظريّات الغربيّة باعتبارها مسلّمات لا مجال لمناقشتها.

وقد سبق وأشرنا إلى أنّ الباحث بلور بعض النّتائج لعلّ أهمّها هو مصطلحُ الكتابة وإن كان الأستاذ العمامي لم يستعمله مجرّدا وإنّما مضافا إلى الحداثة ومصطلحُ المغامرة مقرونا بالشّكل بصورة أساسيّة. وهو ما اختلفنا فيه معه لأسباب أفضنا فيها القول. بقي أن نشير إلى أنّ هذه النّتائج كان يتعيّن أن تنتظم في نظريّة متكاملة للظّاهرة السّرديّة حتّى لا تظلّ من قبيل الملاحظات العامّة التي لا رابط بينها كما هو الشّأن مثلا مع ظاهرتي التّعدّد والقيمة. ولعلّ غياب هذا الخيط النّاظم بصورة خاصّة في المصنّف الأوّل هو الذي يفسّر التّعارض بين المنزع الحداثيّ ممثّلا في مقولة الكتابة الحداثيّة وبين المنزع التّقليديّ القائل بثنائيّة الشّكل والمضمون.

ونحن نرى أنّ بلورة هذه النّظريّة المتكاملة أمر على غاية من الأهمية حتّى يتسنّى للباحث أن يحسم في بعض الظواهر الّتي عالجها بصفتها أنماطا تعبيريّة مستقلّة بذاتها و نعني بذلك ظاهرتي المغامرة الشكليّة و توظيف التّراث و ﺇن نظر ﺇليهما على أنّهما من مظاهر التّجريب و هو مفهوم نعتقد أنّه مازال بحاجة ﺇلى كثير من التّدبّر النّظريّ خاصّة أنّه كثيرا ما يُقدّم على أنّه من أثر الرّواية الجديدة الغربيّة في الرّوائيّين التّجديديّين العرب. و ما نأخذه على الباحث بهذا الخصوص هو تناقض هذه المقولة مع مبدﺇ الخصوصيّة الذي أقرّه و الّذي أكّد بموجبه عدم التّطابق الكامل بين المقولات النّقديّة الغربيّة و المدوّنة السّرديّة العربيّة. فكيف يمكن ﺇذن ﺇقرار مبدﺇ الخصوصيّة و نفيه في الآن نفسه؟ ألا يعيدنا ذلك بصورة غير مباشرة ﺇلى السّجال القديم الجديد عن علاقة الرّواية العربيّة بالرّواية الغربيّة وهو سجال لا يختلف في جوهره عن ذاك الّذي يروم توضيح علاقة النّقد العربي بالنّقد الغربي؟ أليس مأزق التّقليد و التّبعيّة واحدا أتعلّق الأمر باﻹبداع أم بنقد اﻹبداع؟

لمحمّد نجيب العمامي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى