الخميس ٣٠ آذار (مارس) ٢٠١٧
بقلم حسين سرمك حسن

قارب الموت والظمأ العظيم

تحليل طبي نفسي ونقد أدبي لقصص مجموعة "أوان الرحيل" للدكتور علي القاسمي (1)

تقديم الناشر

يلتقي، على صفحات هذا الكتاب، اثنان من أبرز مفكري العراق المعاصر، لا كما يلتقي قطاران عابران في محطة صغيرة، بل كما يلتقي مجريان منحدران بشدة من سلستي جبال متقابلة في حضن واد عميق، فيشكلان بحيرة خلابة المنظر تتدافع في جنباتها المياه وتضطرب في أرجائها الأمواج، فتجذب الناظر إلى مزيد من التحديق والتلذذ والتأمل والتفكير.

يلتقي، على صفحات هذا الكتاب، مفكّران، كلاهما ذو تخصص دقيق وفي الوقت نفسه ذو صولات مشهودة في الإبداع، فلكل منهما أكثر من أربعين كتاباً في تخصصه وفي السرد والنقد والترجمة، ويحمل كلاهما في أعماقه وفي جيناته إرث سومر وبابل وسواد العراق. الأول هو الدكتور علي القاسمي المعجمي والمصطلحي، الشهير في هذا التخصص وفي كتابة القصة القصيرة التي نشر منها ست مجموعات متباينة في موضوعاتها ومتفردة في أسلوبها. والثاني هو الدكتور حسين سرمك حسن الطبيب الشهير في تخصصه الدقيق، الطب النفسي، وفي النقد النفسي للأدب الحديث.

نشر الأول، القاسمي، مجموعته القصصية " أوان الرحيل" التي صدرت في طبعات متعددة في القاهرة والدار البيضاء وبيروت، والتي تدور قصصها حول الموت في مختلف أشكاله ومتباين تجلياته: موت إنسان، موت حيوان، موت مدينة، موت حضارة، إلخ. فاستقبلها النقّاد كما لم تُستقبَل مجموعة قصصية قبلها، بحيث إنه في خلال بضعة أعوام صدر عنها كتاب كامل وعشرات الدراسات النقدية والأدبية وتُرجِمت قصصها إلى الإنكليزية ولغات أخرى. فاطلع عليها الثاني، سرمك حسن، فخصها بكتاب كامل، نضعه بكل فخر بين أيدي القراء.

لا يقتصر هذا الكتاب على النقد الأدبي لنصوص هذه المجموعة الرائعة فقط، وإنما يقدّم كذلك تشريحاً طبياً نفسياً، بمبضع نطاسيٍّ متمرِّسٍ، ليس لشخص بطل كل قصة، كما هو المعتاد، فحسب، بل لجميع شخوص القصص، وللساردين فيها، وللمؤلّف نفسه أيضاً. وهنا يحصل احتكاك الفكر بالفكر، واختلاف الرأي والتوجه. وحالة الاختلاف والاحتكاك وما يتبعهما من مناقشات وأخذ ورد وسؤال وجواب وتعليقات (كما في هذا الكتاب)، هي التي تؤدي إلى بروز حركة فكرية في المجتمع، إذ إن الإبداع وحده لا يكفي لتوليدها.

الإهــــــــــــــــــــــــــــــــداء

إلى روح المبدع الراحل القاص "عبد الملك نوري"

تقديراً لدوره الفذّ في تحديث فن القصّة القصيرة في العراق

المحــــــــــــتويات

تقديم الناشر

الإهـــــــــــــــــداء

المحتويات:

تمهيد

(1) علاج ضيق الصدور.. زيارة القبور

(2) معجزة طعام.. وانهيار حضارة

(3) كومة ضمير

(4) موتٌ طبيعي.. موت مصنّع

(5) حشرجات روح

(6) حياة ساعة

(7) الهروب إلى الموت

(8) الإنسان حيوان شرّير

(9) قارب الخلود

(10) ظمأ الوجود العظيم

(11) ذئب الانبعاث

(12) مقاومة شعريّة

(13) عبادة الخوف

(14) غروب مُمِيت

(15) حين يكون الموتُ أهون من الولادة

(16) حين تداوي الطفولةُ الكتابةَ الجريحة

خاتمة

حوار مع القاص الدكتور علي القاسمي

الهوامش

سيرة موجزة للقاص علي القاسمي

سيرة موجزة للناقد حسين سرمك حسن

(( إلى أين أوجه وجهي؟
وها أن ( المثكِل ) قد تمكن من لبي وجوارحي
أجل.. في مضجعي يقيم الموت
وحيثما أضع قدمي يربض الموت))

(جلجامش)

تمهيد

(إنّ منْ يقرأ هذه القَصَص لكي يستخلص منها جوانب من سيرتي، سيُصاب بخيبة أمل، ومن يقرأها بوصفها من نسج الخيال، سيفوته الشيء الكثير من الحقيقة، لأنّ الفنّ عموماً، والأدب على وجه الخصوص، ينطلق من أرض الواقع ليحلّق في سماوات الخيال) علي القاسمي

وصف القاص الروائي الدكتور "علي القاسمي" مجموعته القصصية الرابعة التي تحمل عنوان "أوان الرحيل"، بأنّها مجموعة تدور حول موضوعة الموت، وذلك في تقديمه لأعماله القصصية الكاملة (1)، وستكون لنا مع هذه الإشارة وقفات طويلة مُقبلة. وقد ضمّت هذه المجموعة ستة عشر نصّاً قصصيّاً (إثنان منها "ما يشبه النص القصصي" حسب وصفه)، وهذه النصوص هي:

1)ما يُشبه المقدّمة، ما يُشبه القصّة: البحث عن قبر الشاعر عبد الوهاب البياتي

2)جزيرة الرشاقة

3)الكومة

4) الحمامة

5)الكلب ليبر يموت

6) الساعة

7)المشاكسة

8)النجدة

9)القارب

10) الظمأ

11) الغزالة

12) المدينة الشبح

13) الخوف

14) الرحيل

15) النهاية

16) ما يُشبه الخاتمة، ما يُشبه القصّة: هل تداوي الكتابةُ الطفولة الجريحة؟

ومَن يتأمل عناوين قصص القاسمي سيلاحظ أنها عناوين تتكوّن من كلمة واحدة، أو كلمتين في أغلب الأحوال، ومن ثلاث كلمات في حالات قليلة جدا. فمن مجموع (77) سبع وسبعين قصّة قصيرة ضمّتها أعماله القصصية الكاملة هذه، هناك (36) ست وثلاثون قصة يتكوّن عنوانها من كلمة واحدة، و (35) خمس وثلاثون قصة تتكوّن عناوينها من كلمتين اثنتين. ويعكس هذا ميل القاص إلى التكثيف والتركيز حيث يمثل العنوان خلاصة مضمون موضوعة النصّ المركزيّة من ناحية، كما يمثل هذا التوجّه – العناية بالعنوان وتكثيفه – الميل إلى التمسك بقاعدة أنّ العنوان هو "ثريا النصّ" كما تشير بعض مدارس الحداثة النقدية على الرغم من عدم اتفاقي الكلّي مع هذه الأطروحة من ناحية أخرى.

وقد انعكس ميل القاص العام إلى التكثيف والتركيز على "طول" قصصه، حيث جاء العديد من القصص بثلاث صفحات من القطع الكبير الذي أخرجت به هذه الأعمال القصصية (أي أقل من ألف كلمة تقريباً). ولكن - كمعدل - كانت النصوص تتراوح بين 1200 و 2000 كلمة، وهو – من وجهة نظري الشخصية – طول أنموذجي لجنس القصة القصيرة يتيح للمتلقي التركيز والإلمام بوقائع القصّة وملاحقته من دون تشتّت. وكلّما طال النص القصصي القصير، تورّط كاتبه في استعارة سمة مركزية من سمات الفن الروائي، قد لا تلائم الحدث المركزي لقصّته وطبيعة بنائها، فتصيبها بالترهل. ولهذا جاءت نصوص علي القاسمي رشيقة، وبلا استطالات، وقد "فصّل" شكلها على مضمونها كما يُقال، كما تتبختر عارضة الأزياء الممشوقة بثيابها الملتصقة بجسدها الأهيف. وأعتقد شخصيّاً أنّ القصة القصيرة كلّما قصرت، صار مطلوباً من الكاتب درجة أعلى من القدرة على ربط الحوادث وضغطها في حيّز مكاني أصغر ومسافة زمنيّة أقل. فالقصة القصيرة كما وصفها "يوسف الشاروني" في كتابه "القصة القصيرة نظرياً وتطبيقياً":

"هي فن الفرد المأزوم، ولذلك كانت أقرب الأشكال الأدبية بعد الشعر إلى المراهقة قراءة أو كتابة. وتكون أقرب إلى أدب الاعتراف".

وهذه "المُراهقة" تعكس تخلخل القصة القصيرة في الزمان والمكان، هذا التخلخل الذي لا يتيح للكاتب " إتساعاً " كافياً في التعبير عن رؤياه وأزمات شخصياته. وإذا كانت قصيدة النثر في الفن الشعري هي فن التكثيف، فإن القصة القصيرة في الفن السردي تقابلها في هذا المضمار، آخذين بالإعتبار أسبقيّة الأخيرة التاريخية. لكن استنتاجنا هذا عن سمة أسلوبية لدى القاص القاسمي تتعلّق بـ "قصر" نصوصه المناسب لموضوعاته ومحمولات أفكاره، لا يعني أن نصوصاً أخرى لديه تجاوزت الـ (5000) خمسة آلاف كلمة، غير محكومة بالفكرة والحُبكة وسبل حلّها وغيرها من العوامل الفنّية والفكرية.

وفي الحقيقة، فإنّ محاولة تحديد طول النصّ الذي يُعدّ قصّة قصيرة هو مسألة إشكاليّة في الفن السردي. فقد أشار "إدغار ألن بو" في إحدى مقالاته عام 1846 إلى أنّ القصّة القصيرة هي التي تُقرأ في جلسة واحدة. ومن الواضح أنّ مراجعة هذا المقياس الآن هي إشكاليّة بدورها أيضاً، لأنّ من المفروغ منه القول أنّ طول "جلسة واحدة" في زمننا الحالي هو أقصر مما كان في زمن إدغار ألن بو بالتأكيد. ولهذا مالت التعريفات الأخرى للقصة القصيرة إلى اعتبار الحدّ الأقصى من الكلمات التي تتكوّن منها بين 1000 و 4000 كلمة. ولكن في عصرنا الراهن، يميل أغلب النقّاد إلى اعتبار القصّة القصيرة عملاً سرديّاً لا يقل عن 1000 كلمة ولا يزيد على 000,20 كلمة. وما قلّ عن الألف كلمة يُشار إليه عادةً الآن بمصطلح "القصة القصيرة جداً" أو "قصّة الومضة" (2).

وسأحاول في هذا الجزء من مشروعي النقدي عن المنجز السردي للقاص والروائي "علي القاسمي" أن أقوم بتحليل القصص الست عشرة، قصّة قصّة، وفق منهجي النقدي الذي سرتُ عليه منذ عقود، وهو المنهج التحليلنفسي اللغوي الشامل الذي سوف تتضح ملامحه كلّما توغّلنا في تحليل النصوص التي بين أيدينا، منطلقاً من حقيقة أنّ النصّ الفنّي يختمر وينضج في أعماق مَشغَل لاشعور المّبدع، على الرغم من أنّ مادته في أغلب الأحوال تُؤخذ من "طينة" الواقع الخارجي الذي يحيط به. لكن هذه المادّة "جامدة" غُفل وفطريّة، ولكي تصبح فنّاً، يجب معالجتها بأنامل المبدع المحكومة حركتها بإمكانيات تجاربه المُختزنة في لاوعيه، وتُشذَّب تحت رقابة الشعور بمخزونه المعرفي وخلفياته الثقافية، لتتمظهر – أخيراً - عبر "اللغة"، ليس على طريقة "هيدجر" الذي جعل العقل سجيناً للغة، ليعقبه "فوكو" بأطروحة أكثر تطرّفاً حين جعل العقل سجيناً للمفردة، ولكن على أساس الإيمان بأنّ اللغة مطيّة العقل ؛ مطيّة اللاشعور تحديداً. وحين أقول أنّ المادّة الواقعيّة – وحتى المُتخيّلة – يتم تشكيلها في لاشعور المُبدع، فإنّني أقصد أنّها تخرج مُلتحمة الشكل بالمضمون، وليس على مرحلتين أو من قسمين، النص مثل "موجة البحر"، من رابع المستحيلات أن تفصل "شكلها" عن "محتواها" المائي.

وسيلاحظ السيّد القارىء أنّني كثير التركيز على موقف القاسمي المشرّف من علاقة الأدب بهموم الإنسان العربي تحديداً، هذه الصلة التي عملتْ الكثير من موجات الحداثة الغربيّة وما بعدها على تحطيمها، انطلاقاً من الفسلفة المادّية الغربية التسوويّة المتحكّمة بحركة الحياة في المجتمع الغربي، والتي صارت تنظر إلى الإنسان كمكوّن من مكوّنات الطبيعة يمكن حسابه وحوصلته، حاله حال أي مكوّن آلي أو نباتي أو حيواني، وليس كـ "انقطاع" و "ثغرة" مُلغزة في هذا البناء، "ثغرة" هي مصدر كلّ إبداع. "هناك" صاروا يتحدّثون عن الروح الحيواني ونحن بحاجة مصيرية إلى الحديث عن الروح الإنساني. وقبل مدّة قرأتُ مقطعاً مُلتهباً من رواية لكاتبة بريطانية تتحدّث عن اتصال حسّي عارم ظهر أخيرا أنّه بين امرأة و "دبّ"!! وهذا الأمر ليس ظاهرة يسيرة، بل في غاية الخطورة، لأنّه يعبّر عن صراع ثقافتين تحاول واحدة منهما، معروفة بطوفانها الكاسح، القضاء على الأخرى، وليس الصراع الخلّاق الضروري للحياة ضدّها.

ومن المؤكّد أنّ ما يُغني عن الكثير من الشروحات التمهيدية هو العمل النقدي التطبيقي المُحكم، الذي يحلّل النصوص، ويحيط بها في كلّ دقائقها، ويكشف أهميّة أدقّ تفاصيلها أمام بصر وبصيرة القارىء. وهذا ما سوف نجتهد فيه، وللمجتهد المُخطىء حسنة كما تُقرّر ذلك الفسلفة العربيّة الإسلامية المُشجّعة على المبادرة الجسور وعلى روح التعرّض والإبداع.

والله من وراء القصد


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى