الأربعاء ١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٤
بقلم سليمان نزال

قبعة حمراء..

على عجلٍ, تناولتُ فطوري..و أغلقتُ تلفاز الأنباء الحزينة,و أسرعتُ إلى موقف الباصات القربية من منزلي.. كي أصلَ باكراً معهدَ الشعر و القصة, و أكون أول شخص يلقي تحية الصباح على إنغريد.

الثلجُ ينهمرُ فوق رأسي..ستأتي الحافلة بعد قليل, أشعرُ بالبرد, فما كان عليَّ أن أتركَ رأسي مكشوفة عرضة للريح و الأفكار العاصفة و النظرات المستطلعة..

تأخرَ الباصُ على غير عادته, كما أنني نسيتُ إرتداء قبعتي الزرقاء على غير عادتي.. و أخذتُ أتذكرُ تاريخي مع القبعات منذ أن كانت خاكية و مموهة و بسيطة إلى أن حولها الثلج و الرحيل و الأسى إلى ملونة و إفرنجية..
و أمام لسعات البرد.. قررتُ أن أؤجلَ حديثَ النهرِ و المخيم و البساتين.. و أفكر في مشكلة الباص الذي سيؤخرني عن دخول الفصل و إستعراض مواهبي الخيالية في ساحة المبالغات شبه خالية من الفرسان..

إمرأة , أراها في نفس الموعد كل يوم, تنتظر الحافلة مثلي تتوقف فجأة عن إرسال إبتساماتها الصباحية..يبدو أنها إكتشفت حيلتي و أنني أكبر مما هي تتوقع..برأس أصلع..

و لعلي خيبت أملها..تنظرُ إلي كأنها تعاتبني, كأنها تقول في لهجة معاتبة:" لماذا خدعتني كل هذه المدة و جعلتني أفكر بك كصديق محتمل لرغباتي"

هاي هي تكتشف أن صداقتنا المفترضة ينقصها بعض الشَعْر..

أتجاهلُ المرأة.. و أنظر ُ إلى عجوز تبوسُ كلبها في منتصف الشارع..

الساعة الثامنة و النصف.. لم يحضر الباص..أسئلةٌ تخرج من جيوبي حائرة..تصطدم بالشجر القريب من موقف الحافلات, الريح عاتية.. قد تنقل أسئلتي إلى أمكنة أكثر أماناً.
تداهمني فكرة قصيدة.. أسعلُ ثم أتناول القلمَ بسرعة و أدونها.. أكملها فيما بعد و أقرأها لإنغريد في الصف..فهي الوحيدة من بين خمس زميلات التي تتعاطف مع جرحي..

..أتذكرُ أستاذَ مادة الأدب" يسبار" و إبتسمُ حين أتذكرُ زوجته الطويلة جداً..يسبار أصلع أيضا , لكنه لا يرتدي قبعة مثلي. بل أنه ينتقدني و يعتبر إرتداء القبعة من علامات الإنسحاب الذاتي من ثقة في النفس مفترضة..يا لحظي كيف نسيتها.. سأعود إلى البيت و أحضرها..سأقول ليسبار:-" تأخرت بسبب نسيان قبعتي, أنت تعرف ذلك" و سيرد هامساً :-" و أنا حضرت قبلك بقليل لأني تأخرت بسبب الطقس السيء و طول السرير.."
يؤثر الثلج المنهمر بكثافة على إتجاه قراري.. فيدفعه إلى التراحع.. أشعرُ بالدوران..

المرأة التي إكشفت صلعتي , تنظر إليّ.. ثم تنظرُ في ساعتها و تطلقُ زفرةَ إحتجاج على تأخر الباص..

لم يأت الباص بعد..لكني لا أشاهد المرأة.. ما زلتُ أنتظرً قدوم الباص..لعله مرَّ و لم أنتبه.. و كنتُ منشغلاً بينابيعي..شردتُ بعيداً..

يأتي الباص أخيراً..الساعة التاسعة تماماً.. تأخرتُ عن الفصل, و عن عيون إنغريد و حديقتها الخضراء.. أصعدُ الباص بقفزة.. ينظرُ لي أحد الرجال بإستهجان..أجدُ مقعدا ًخالياً بجوار فتاة جميلة و صغيرة ,أجلسُ.. أمواجٌ من الذهبِ البضِ تجلسُ على بعد لمسةٍ من كفي..أشعرُ بالتحسن..

الرجلُ الأبيض الذي زجرني بنظرة لا تخلو من عنصرية..يتظاهر بقراءة جريدة..

أُخرجُ ورقة من محفظتي..أنظرُ إلى عينيها و أكتبُ بحروفٍ عربيةٍ بارزةٍ..ترمقني بهلالين زرقاوين " ماذا تكتب..شعر .قصة؟ "

 " عن عينيك أكتبُ في كلِّ الأنواع و الأجناس الأدبية وغير الأدبية" تضحك.. و تنعتني بالجرأة..أنعتها بالجمال و الجاذبية.. تعلو ضحكتها..بينما تغزوها نظرات غاضبة لخمسة رجال و أربع نساء, ثم يتركز الغزو على كامل كياني..فلا أتنازل..

أتوقفُ عن الحديث..أنظرُ من الزجاج..أسافرُ في حلم.. يغمرني رذاذ التهيؤات.. أركضُ معها على رمل البحر..آخذها إلى جذوري و مدن أحلامي.. تهزُّ رأسها و تبتسم..

تنزلُ الفتاةُ الجميلةُ من الباص قبلي..تقول لي قبل مغادرتها:" على فكرة صلعتك جميلة مثل صلعة والدي الذي أحب"

أصمتُ و أتوارى في مجاهل الشرود النرجسي .." لو أنها معي في الفصل..أستبدلها بإنغريد.. أو أحتفظ بالإثنتين معاً..و هذا أفضل"

يأتي مفتش الباص.. يسألني عن التذكرة.
 آسف نسيت قبعتي في البيت
 ماذا تقول؟ أريد التذكرة..
 نسيت.
سأسجلُ ضدكَ مخالفة..
 سجِّلْ..

توقفَ الباص.. نزلتُ, ذهبتُ راكضاً إلى المعهد..وصلتُ لاهثاً..دخلتُ الصف.. ألقيتُ تحيةَ الصباح على إنغريد و المعلم و بقية الزميلات و الزملاء.. و بدأتُ في كتابة التمرين الصباحي..

نظرتْ إليَّ إنغريد..ثم قالت:

 هل تراكَ تأخرتَ هذا اليوم , لأنكَ إشتريتَ هذه القبعة الحمراء التي ترتديها؟ هذا تناسبكَ أكثر من الزرقاء التي كنت ترتديها بالأمس.

و ضعتُ يدي على رأسي..إكتشفتُ أنني أرتدي قبعة..حمراء كما قالت إنغريد .

و بدأ الدرس.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى