الأحد ٣ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
بقلم بيانكا ماضية

قبلة على جبين الحرية

في بلدة تبعد كثيراً عن مكان عمله الذي رحل عنه اتقاء رؤية ذاك الرجل الذي اقتحم عليه عمره، قبع الكاتب في منزل رابض على ربوة تتمسرح فيها أشجار السرو والزعفران والحور، كان يستيقظ كل صباح على عبق فنجان قهوة لم ينس فضاءات تقاسيمه حين كان الصباح يحلّق في غرفة كانت تجتمع فيها أسرار الكون، وتجمع رجلاً وامرأة من هذا الوجود .

جالساً أمام مرآة نفسه يرتشف من اسوداد ذاك الفنجان، وبين يديه ورقةٌ يدوّن فيها كلاماً خطر على باله في تلك اللحظة ...

كان يرسم كلاماً، تفاصيله جنة من خيال، كان يكتب :

أنا هنا أسطو على أفكاري، فتجتاحني الألحان همساً من عبق زمنٍ لم أقبض على رائحته التي كانت تملأ الدنيا ...
أنا هنا أقلّب صفحاتي لاهثاً وراء نجمةٍ أضاءت نصفَ العمر، وولت تاركةً نصفَه الآخر لمحضِ خيال ...
هناك في ذاكَ المكانِ المقدسِ الذي خلعتُ على بابه كلَ أوزاري، كان موعدي مع لونِ أنوثتِها، فلمَ سرقني الزمانُ من وهج الحياة ...
أنا هنا ... فلماذا تلفني الألحانُ ... وأعود إلى ذاكَ المكانِ ثم أغيب ؟؟!!

* *

في شارع ما من شوارع تلك البلدة كان هناك رجل يفتش عن منزل الكاتب الذي يقع على مشارف الحياة، إلى أن وجده أخيراً .. قرع الباب، ففتح الكاتب له، استأذنه بالدخول، فرحب به ترحيباً شديداً وفي عينيه دهشةٌ واستغرابٌ من عثوره عليه بعد أن غاب طويلاً عن الأعين ....

قال : جئتُ أدعوكَ لحضور خطوبتي، فقد وجدتُها مثلما كنتَ تراها، إنسانةً عظيمةً وطيبةً إلى أبعد حدود الطيبةِ والأخلاقِ العالية، وعلى الرغم من أنك صدمتني في البداية لئلا أقترب منها ووجدتُ منك دفاعاً مستميتاً ظننتُه أمراً آخر، إلا أنك خرجتَ بسريرة بيضاء ونية تحسد عليها، خرجتَ بطعم الزرقة في السماء، خفِراً كابتسامة عذبة ربّتها الشفاه.

* *

كانت زهورها تتمايل نحوه أنى اتجه، وأمداؤها تتطلع إلى البعيد الكامن في صدره، ومشاعر الصداقة تحفر في النفس عميقاً كيلا يحتل مكانها أمر آخر ... كانت نظراتها إليه كرسائل جنود الحرب المتطلعة إلى الأمان والطمأنينة، فيفهم مغزاها، ويدرك كم دروب قطعت يحوم حولها أزيز النفس، لتصل إلى عينيه.

كانا يجدان في الغرفة التي تضمهما وشاحاً من ألق يلقي بنوره على كتفيهما، وشاحاً لايراه إلا من أدرك جزيئات لحمته، وكانا على همس دائم بتفاصيل الحياة والعمل والأحلام ...

الأيام التي تمضي مسرعة في فضاء أيامهما، تجعلهما على تماس دائم بأحلام الصبا التي تترع من أنفاسهما وهجَها، وكان حين يسري إلى فكره طيفُ هواها يشيح بوجهه عنه لئلا يلفحه بالعليل المنعش، ويبتعد مخافة من نفسه عليها، ولكنه كان يجدها في كل أنفاس حياته.

هما زميلان في العمل، وطاولتها تقابل طاولته، ولكن بينهما هضابُ المجتمع وأهوالُه ..

كان يكلمها وفي ذهنه أمور لايستطيع القفز فوقها، أو نسيانها، أو تجاهلها، أمور تخص عقيدة كل واحد منهما، إلا أن المشاعر والعواطف لم تستطع استيعاب هذه الحدود والحواجز، قفزت إليهما على حين غرة وغفلة، قفزت لتحط في قلب كل منهما، ولم يجد الهوى إلى نفسيهما إلا طريقاً، بعد أن كانت هناك حدود يقف عندها فيتسمر في مكانه؛ لئلا يصاب بخيبة وانكسار، واستطاع ذاك الهوى أن يثور على كل العادات والتقاليد لينفذ في أعماقهما؛ فمن عاداته أن يخترق كل الحواجز والسدود ... ويجعل نهره يصب في الجهة التي يريد... يعبر بيوت الأحلام والأرواح مثل نسمة صيفية تبحث عن شجرة لبلاب لتهزها .

ذات يوم دخل غرفة العمل ليرى رسالة كان شكلها يومئ إلى أن مفرداتها كتبت بخط يدها، أمسك الورقة البيضاء بيدين باردتين ليفتحها ، وما إن رأى لون حبرها حتى أدرك أنها منها، قرأ :عزيزي برغم أن الأمور تتجه إلى منحى آخر إلا أنني لم أجد إنساناً بطيبتك وأخلاقك..

* *

وقف من البعيد يسترق النظر إلى الأجواء البهيجة التي جمعتها بخطيبها في حفل الخطوبة، وقف لا ليأسى على ماض بينهما، وإنما ليهديها باقة جمعها لها من رحيق مشاعر خلّفتْها الصداقة في ذاكرة سنوات، يتضوع عطرها من زهرة الوفاء التي لم يذبل عودها يوماً ...

اقترب منها غيرَ مدركةٍ حضورَه الماثلَ في ذاك الحفل، اقترب ليسلم عليها، ليمسك يدها بيده، في لحظة أخيرة تبوح بعمق الوجدان والروح الإنسانية ..

قادر هو على أن يبتلع أسئلته وهمومه الحالكة في بحر نظرة، وأن يقي المحيطين به خلجات الروح في داخله ..

اقترب منها، وما إن رأته حتى بكت واصطبغ الوجه الذي مارآه قط حزيناً، بندى الدموع، ومد يده إليها مصافحاً، واقترب منها أكثر فأكثر ليطبع قبلة على جبينها، ويمضي تاركاً في نفسها أحاسيس كانت تجعلها كل يوم على شفا سماء زرقاء صافية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى