الثلاثاء ٢٧ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٧
بقلم حبيب فارس

قراءة أوّليّة في قصص (شقائق الأسيل)

للأديبة راوية بربارة

إننا ندرك بأن ما يتعين علينا دراسته هو ليس الجملة بل العبارة التي لم يعد هناك إمكانيّة لرؤيتها غير فعل
 ج. ل. أوستن – (جاورسكي،ص.53)

لا تدّعي هذه المقالة أنها دراسة نقديّة لكتاب الأديبة راوية بربارة " شقائق الأسيل ". فهي مجرّد محاولة فضوليّة للقراءة في بعض نصوصه ، في محاولة للإجابة على بعض التساؤلات التي تقترحها هذه النصوص على القارىء ، لجهة فهم خلفيّات ومفاهيم الأديبة ، خصوصيّة بيئتها ، علاقة الأديبة بهذه البيئة ، معرفة ما تيسّر من التأثير والتفاعل المتبادلين بين الأديبة ومحيطها وبالتالي إبداء بعض الملاحظات حول ماهيّة النوع الأدبي الذي تقدمه لنا الأديبة . ولأن هذا الفضول نابع ، أساساً ، من رغبة ذاتيّة جامحة للتّعرّف والتواصل مع النتاج الأدبي لتلك البيئة المحدّدة ، لن يكون من حقّ هذه المقالة إدّعاء الحدّ الأقصى من الموضوعيّة ، بوصفه أهمّ شروط الدّراسة النقديّة ، كما لن يكون مطلوباً منها التقيّد ، كلّياً ، بالأدوات الفنيّة السائدة التي تفترضها مثل هكذا دراسة. من هنا تنبغي المسارعة إلى القول ، بأن هذه المقالة ، قد تبدو في بعض مفاصلها ، منحازة لصالح خصوصيّة أدوات الأديبة الفنّية ، كجزء من الإنحياز لصالح ما من شأن قضايا شعبها أن تفرزه من أدوات استثنائيّة للتعبير عن خصوصيّة هذه القضايا ، التي لا تشبه نضيراتها في العالم ، والتي لا يخفي كاتب هذه المقالة عدم حياده تجاهها .

ثمرة تعدديّة – حضاريّة قسريّة

إنّ المفصل الرّئيسي الذي ستحاول هذه المقالة التركيز عليه ، يتمثّل في الإضاءة على بعض مميّزات نتاج أديبتنا ، من زاوية كونها ثمرة ما يجوز تسميته ب "التعدّدية – الحضاريّة " القسريّة ، التي لم يكن لأحد قطبيها الرّئيسيين ، المتمثّل ب عرب 48 ، خياراته في قبول أو رّفض "الشراكة" مع القطب الآخر، في حين كان لا بدّ عليه ، من التفاعل مع القطب المهيمن ، تأثراً وتأثيراً . عليه حقّ من البداية ، اقتراح محاولة رؤية نتائج هذه التأثيرات الثقافيّة ، على مجمل الإطارالفكري – السياسي – الإقتصادي – الإجتماعي – الثقافي، الذي ترعرعت في ظلّه أديبتنا ونتاجها ، بصفته الإستقلاليّة النسبيّة عن باقي الأطر المعاصرة ، بما فيها تلك التي يبدو أنها تشبهه أو تتماهى معه ، عالميّاً ، لكنها تختلف عنه جوهرياً ، حتى العربية الأخرى منها ، والفلسطينيّة اللاّ " ثمانيأربعينية " تحديداً .

في هذا السياق " التعددي – الثقافي " غير المسبوق سيكون هناك بروز حتميّ ل" تعدّديات " داخل ال" التّعدّدية " الواحدة ، بل وداخل كلّ قطب من قطبيها الأساسيين ، كإفراز طبيعي لانعكاس التجاذبات والتناقضات والصراعات "المخلوطة" الناجمة عن هذه الوصفة " التعدّدية " ل" طبخة" ما ، تتراوح بين " طبخة البحص" و " شوربة العدس"! ، في سياق ما يسمّى ب" اللغة الإجتماعيّة " الخاصّة بالأديبة ، والتي يؤكد جون ج. غامبيرز على تعدديتها في اللّغة الواحدة وبحسب خصوصيات الخلفيات الثقافيّة – الإجتماعيّة للتجمع البشري الواحد (جاورسكي ، ص.78).

قصص قصيرة حديثة

وفي مقدّمة الإستنتاجات التي تتكوّن في ذهن قارىء قصص " شقائق الأسيل" هو ثلاث انطباعات مترابط ومتداخل بعضها بالآخر تتلخّص ب :
 أولاً : أنّ نتاج الأديبة ينتمي ، إلى ما يمكن تسميته أدب المواطنين الأصليين " انديجينوز أو أبوريجينيز " ، الذي من أبرز سماته العامّة الإرتباط بالأرض ، صيانة الذاكرة والتقاليد الأصليّة والتعبيرعن تأثيرات الشرخ الأفقي والعامودي داخل مكوّنات المجتمع الرّاهن بشقيه الأصلي والوافد. ذلك إلى جانب احتفاظه بخصوصيّاته المتميّزة ، والتي تعكس ظروف المواطنين الأصليين في مجتمع متعدد الثقافات والحضارات، والتي هي في حالة الأديبة بربارة ، ظروف المجتمع الفلسطيني ، وتحديداً المجتمع " الثمانيأربعيني ". وقد رسمت الأديبة ، في قصّة " أحلام لؤلؤيّة ونعاس " ، على لسان بطلها، صورة الوجع " الثمانيأربعينيّ " بكلّ تجلّياته التي منه لوحتها المؤثرة التالية :
" لو أنني بقيت طفلاً .. لرأيت الحياة بمنظار وردي جميل .. مجموعة ألعاب واهتمام ورعاية .. لم يُكمل حلمه لأن صور الأطفال المنكوبين حرباً، المنبوذين .. المشرّدين وطناً .. الجائعين طعاماً وحبّاً وطفولة .. المستغلين، الباكين خوفاً وقهراً .. تراءت له، فألقت الغصّة في قلبه والدمعة في عينه .. وجعلته يصلّي لرجولة تقيه مصاعب الضعف !" (بربارة، ر. ص.54-58).

 ثانياً : انتماء النوع الأدبي ، لنصوص "شقائق الأسيل" ، دون أدنى شك ، إلى أدب القصة الصغيرة الحديثة كما حددها " هاريَت بومان " :
" القصة القصيره الحديثة هي عمل فني ، قصير نسبيا ، له بناء متقن، اهتمام بالزمان والمكان ، تأثير عاطفي ووعي في الاسلوب. أما العناصر التقليدية للقصص القصيره ، مثل المقدمة ، صعود وتيرة الحدث ، الذروة ، هبوط وتيرة الحدث والخاتمه ، هي عادة ما لا يتقيد به الكتّاب الحداثيون. فأعمالهم هي أكثر مرونة لجهة الهيكلية ، أكثر اتساعاً لجهة المضمون والموضوع ، واكثر تعبيراً من حيث الأسلوب ".(بومان،ج.هـ.).

ثالثاً : انتماء قصّة راوية بربارة القصيرة إلى حقبة متقدّمة من تاريخ القصّة القصيرة "العربثمانيأربعينية" التي شهدت نقلة نوعية ، بعد حرب حزيران 1967 ، والتي يعتبر " الدكتور محمد خليل " بأنه بات يغلب عليها :
" سمات التعقيد والتركيب التي تدخل حدّ الإغراب أو اللآّمعقول ، لأسباب منها : اختلاف الظروف التي
أفرزت هذه القصّة ، فإنها أصبحت ظروفاً متقلبة ، ومعقدة ، لا بل مركبة ، فاقت كل منطق أو معقول ،
ناهيك باستجابة القصّة لمواجهة المشكلات المركبة الناجمة عن الحداثة العصريّة وتجلياتها . فكان على
الكاتب أن يكتب من وحي هذا الواقع ، موظفاً خيالاً مجنحاً "( النقد الأدبي داخل فلسطين 48 ،ص.295).

انتماء للفكر الإنساني

من الناحية الفكريّة الخالصة ، تقترح كتابات بربارة ، دون أي مجال للتأويل ، انتمائها للفكر الإنسانيّ الرّافض لكلّ أنواع الإضطهاد ، الإستغلال والتمييز ، بما في ذلك التمييزالعنصري والتمييز ضدّ المرأة ، والداعي إلى المساواة وتكافؤ الفرص بين الإنسان وأخيه الإنسان ، بكل مضامين هذه المساواة . ولا يكاد يخلو نص من نصوصها من تجلّيات هذه المواقف المبدئيّة . إنّ صرخات بربارة الإنسانيّة تسمع بجلاء من خلال النّص الأخير بعنوان " حصار قانا " حيث تعلن :

" تعبت جيادي تركض وراء مجهول هذا العالم فلا تلحق إلاّ بالسّراب ، تنهل من واحة وهمية وتتابع رحلتها بحثاً عن أوتدة غرسها إفلاطون ، مبشراً بمساحة إنسانيّة تمحو حدود المفاهيم المخمّرة المخزّنة في براميل الاعتبارات والادّعاءات " (بربارة، ر. ص.169).

وما إن يكاد يتملّكنا الإحساس بأن الأديبة تعلن استسلامها ، حتى تباغتنا في نفس النصّ بإصرارها على مواصلة الكفاح معلنة :
" ولملمت حجارتي تأهباً للمعركة القادمة ..." مبشّرة ب" طيب المخزون النبيذي المعتق ، عندما يشعشع بالتراب وتنبثق منه الأنوار"، وصولاً إلى حدّ التحريض باستنفار " المخزون الخلّي المعتّق ، عندما يصهر في بوتقة الألم والأمل " (بربارة، ر. ص. 169 – 170).

وكأننا بالأديبة قد تعمّدت جعل هذا النّص خاتمة كتابها ، لتبقي باب معركتها مفتوحاً على مصراعيه ، باعثة الأمل في نفوس قرّائها ومستحثة صبرهم وهممهم لمواصلة الكفاح من أجل عالم إنسانيّ جديد كان قد سبق لإفلاطون أن بشّر به . وهنا تؤكد بربارة ما تطرحه " منى ميخائي " :
" إنّ تصوير المرأة في الأدب العربي يعتبر الباروميتر الذي يمكننا من خلاله قياس موقع ودور المرأة العربية في المجتمع . وقد يجادل البعض أن الأدب والحياة الحقيقيّة هما أمران مختلفان ، بمعنى أن الكتابة العربية تقول لنا شيئاً عن الأدب وليس بالضرورة عن الظروف السائدة في المجتمعات العربيّة . ومع ذلك فإنه لا يجوز التقليل من أهمّيّة قيمة الأدب لفهم الواقع وبالتالي قدرته على إحداث التغيير، التجديد والتّحول في النسيج الأساسي لهذه المجتمعات" (ميخائي،م.) .

تغليب التناقضات الرّئيسيّة على الثانويّة

وقصص الأديبة راوية بربارة ، عادة ما تُغلّب التناقضات الرّئيسية على الثانويّة ، إذ هي تنتقد بشدّة بعض جوانب مجتمعها العربيّ الذكوري دون أن تشهر سيف العداء للرّجل ، مرجعة جذورها وأسبابها إلى العوامل التأريخيّة الموضوعيّة ، وجلّ ما تطلبه باسم المرأة هو إعادة النّظر في القيم الذكورية السائدة والعمل على تغييرها بما ينصف المرأة ويحقق المساواة بين نصفيّ مجتمعها ، دون أن يكون ذلك على حساب قيمه التراثيّة الإيجابيّة . إنها تبكي أوجاع المرأة إلى حدّ كراهية الأخيرة لنفسها بسبب الظلم اللآحق بها ، بغية تحسيس الرّجل والمجتمع عامّة ، بهذه الأوجاع والعمل على إحداث التغييرات المطلوبة . فهي مثلاً تعلن نفورها باسم بنات جنسها :
" من هذين النافرين تحت القميص ، شدتهما بثوب ضيّق ، ألصقتهما بالرئتين خنقتهما وسترت جريمتها بقميص فضفاض.. " (بربارة، ر. ص.118) .

ولا تطمح بربارة إلى أكثر من تحرّر المرأة من قيودها ، كما يتجلّى هذا الموقف في أروع صوره عندما دخل الزوج :
"... فوجدها قد قطعت كل قلائد الياسمين الذابلة ، بعثرتها في فراغ البيت ... داستها بالقدمين وانطلقت خارج أسوار معتقداته ، لا تلوي على شيء ... لا تبحث عن ياسمين ولا تستطيع أن تشمّ إلاّ عبق الحياة !! " (بربارة، ر . ص. 116).

وهي لم تقدم على هذا القطع مع الرّجل إلاّ بعد يأسها من عدم قدرته على التّخلّص من آفة الشكّ بخيانة زوجته التي بذلت كلّ ما بوسعها لتخليصه منها وكسب ثقته بغير الأدلّة الدامغة . حيث أن البطلة حاولت عبثاًً ، بلسان الأديبة وبأسلوب إيحائي فذ ، تخليص الزّوج من هذه "القاذورة بالماء وبالصابون وبالدموع ..." (بربارة، ر. ص.115)، قبل رفض "قلادة الإعتراف بالأبوّة "و "قلادة البراءة" الزّائفة التي جاءت متأخرة ، علماً بأنها لا تنمّ إلاّ عن مزيد من التحقير للمرأة .

مواقف طبقية – وطنية – قومية - تقدّمية

إلى ذلك ، تعكس نصوص " شقائق الأسيل " القصصيّة بوضوح ، مواقف الأديبة الطبقيّة ، الوطنيّة ، القوميّة والرّافضة لكلّ القيم الإجتماعيّة المتخلّفة ، بما فيها رفضها للجرائم التاريخيّة التي لحقت بحق الشعب العربي الفلسطيني ، في الداخل والشتات ، السياسات العدوانيّة والتّوسعيّة لدولة إسرائيل والتخاذل العربي الرّسمي ، بالإضافة إلى الدعوة لسلام عادل قائم على إحقاق الحقوق الوطنيّة والقوميّة المشروعة لأصحابه داخل وخارج حدود 48 والمساواة داخل هذه الحدود .

وفي هذا السياق ، من الطبيعي أن يبرز، إلى حدّ الطّغيان ، في كتابات الأديبة ، كإمرأة ، تعيش مآسي وهموم شعبها، والمرأة بنوع خاص ، الإلتزام بالدفاع عن حقوق المرأة ، دون الذهاب إلى حد الوقوع في " الفخ " النّسوي التعصّبي ضد الرجل أو حصر قضية المرأة بالصّراع معه ، كما هو الحال مع بعض المذاهب " النسويّة " الغربيّة التي بدأ تصاعدها الدراماتيكي ، في النّصف الثاني من القرن الماضي ، وصولاّ إلى ذروة تطرّفها في السبعينيات والثمانيات من نهاية القرن ، فبدء تراجع نفوذها وانحسارها وصولاً إلى أيامنا الرّاهنة ، والتي للأسف الشديد ، تجد حتى الآن صداها وبعض مظاهرها وانعكاساتها الخطيرة والمثيرة للجدل ، على بعض شرائح الحركة النسويّة العربيّة ، كدليل آخر على وقوع بعض اتجاهات الحركة الفكرية العربية عامّة ، أحياناً ، في " أفخاخ الإستنساخ " الميكانيكي للظواهر الفكريّة النّاشئة في الغرب ، حتى بعد زمن من تراجعها في بلاد المنشأ ، تماماً ك " الذاهب للحج والناس عائدون "! .

حسّ طبقي واضح

إنّ أكثر ما يفصح عن حسّ راوية بربارة الطبقي ، هو مضمون نصّها "حتى يبرعم الأخضر" . في هذا النّص تربط الأديبة بحبكة " ماكرة " بين القضايا الطبقيّة – الوطنيّة – الإجتماعيّة ، تاركة القارىء أمام خيار أوحد في تحديد المسؤوليّة عن مأساة الشعب العربي الفلسطيني ، وبخاصّة جماهيره الكادحة ، داخل وخارج الخط الأخضر، الذي هو مغتصب الديار ومشتت الأهل ومغذي المفاهيم والتقاليد المتخلّفة ، دون أن تغفل ما تكتنزه هذه التقاليد من إيجابيات ، أهمّها روح التعاضد والتضامن بين أبناء الشعب الواحد "... في ضيعة إذا سَعَلتَ في مدخلها ... تمنّت لك البيوت في أطرافها الصّحة والعافية ..." (بربارة، ر . ص. 100 – 106 ) .

في هذا النّص الذي يكاد يختصر مفاهيم ورؤى الأديبة التقدّميّة ، تخبرنا راوية بربارة عن "سالم" :
" ... المتخبط بين وطنين ، وطن يوفر له العمل والحب ويتركه هارباً لاجئاَ ، ووطن يوفر له الإنتماء ويتركه عارياً الا من كرامته..." ، عن مأساة أولئك العمال الذين استبدلوا عبارة " تصبح على خير" ب " تصبح على عمل " و " تصبح على أمل " ، عن الغرفة المزدحمة " بالتصاريح العاطلة عن العمل " وعن تمرّس أصحاب الأرض بالإحتيال على القانون " الأبله " الذي لا يعرف " أن للبيوت أسرارها...".

وفي النّص نفسه ، تصبّ بربارة جام غضبها على المعنيين ، دولاّ وقادة ، عن مصير الشعب العربي الفلسطيني ، باسم بطلها العامل الشريد الذي :
" ينهشه رؤساء يجتمعون ، يبثون ويؤجلون القرا ر، دول تتضامن وأغذية تتلف عند حاجز وتختفي ، مؤتمرات تعقد .. ومؤتمرات تؤجل ، ولا تؤمن تصريحاً أو عملاً أو وطناً ولو مؤقتاً ..".

أبعاد قوميّة وأمميّة

ولا تتوقف الأديبة عند هذا الحد من الإحتجاج ضدّ اللاعبين الأساسيين ، في التعاطي مع الشأن الفلسطيني ، إذ لا تنسى أن تفتح الستارة على بعض الجوانب والأبعاد القوميّة والأمميّة الأخرى لمأساة الشعب الفلسطيني ، مثلما نقرأ في نصها بعنوان " جرعة بكاء " :
" جرعة خامسة .. والدواراللذيذ يشدّك نحو بلاد الغرب ، فتهاجر مع كلّ ’موسم هجرة إلى الشّمال‘ .. تقتحم ’الحي اللاتيني‘ بسمرة بشرتك .. تجني أوسمة الشّرف وتعود لتزيّن بها شرقك المشتاق لبطولاتك .. فتطفىء لهيب آبار النفط التي تحرق العالم .. تطرد السّفن الغازية موانىء عروبتك .. وتؤمم كرامتك المهزومة ، فتطعم جياع الفقر والحرب" (بربارة ، ر . ص. 25- 30).

وكما في العديد من نصوصها ، تختتم الأديبة نصّها أعلاه ، ببكاء مأساة شعبها ، على طريقتها الخاصّة ، بكاء لا يهدف إلى استدرار العطف ، بل إلى استنفار مقدّرات هذا الشعب ، أو البكاء من أجل الحياة :
" تنتابك نوبات .. وبين كلّ جرعة مخفّفة .. وعدمٍ .. تبكي .. تبكي كما فعلت أوّل مرّة حين تعرّفت عليها .. حين انتشلوك من الظلام ورفعوك من أقدامك وضربوك كي تتعرّف على الحياة .. فبكيت وحييتَ . والآن ، كلما صفعك المنعُ .. وظمئتَ .. تبكي .. تبكي .. تبكي لعلّك تحيا ..!".

ويضيء الأستاذ محمد قاسم صفوري في دراسته بعنوان "’شقائق الأسيل‘ بين عبق الماضي ونكهة الحداثة" ، على جانب آخر من الموقف القومي – الإنساني للكاتبة ، المتمثّل في :
" قصّة ’قانا أولى المعجزات‘ التي توضح كيف أجهزت مجزرة قانا على أحلام طفل صغير وغيبت عنه فرحته بعيد ميلاده السادس يوم غيّبت اخته زينب عن الحياة وتركتها بين الأنقاض" (صفوري ، م . ق.).

علاقة راسخة بأرض الأجداد وتراثهم

تؤكد نصوص الأديبة ، تكراراً، علاقتها الرّاسخة بأرض الأجداد وتراثهم ، حيث نقرأ في قصة " لغة الأجساد الصغيرة " الحوار التالي :
" صاح الأولاد وهم ينظرون عبر نوافذ السيارة:- أبي ، هل جئت بنا للإستجمام في قرية عربية؟
 لا ، إنه مدخل القرية التعاونيّة السياحيّة.
– هل زرعوا التين والصبّار وكروم العنب مثلنا !!
– لم يزرعوا شيئاً ، إنّها جذور أوتادنا المغروسة في المنطقة "(بربارة، ر. ص . 85 – 92).

ولقد أكد الأستاذ صفوري على تواصل الأديبة مع شعبها وقضاياه ، حيث كتب :
" ويثير القارىء تواصل بربارة مع شعبها ومعايشة قضاياه وهي تكشف النقاب مرة بل مرات عديدة عن ممارسات السلطة الحاكمة ضد الإنسان العربي في هذه البلاد حتى غدت قبور أجداده وآبائه مهددة بالمصادرة ولتتحول فيما بعد إلى قبور أولياء ومزارات الشعب اليهودي مثلما يتمثل لنا ذلك في قصة ’هذا قبري به دمت حياً‘ ، حيث يفاجأ سائق سيارة عربي بمجموعة من الرجال اليهود ، مرتدي السواد وهم يجتمعون حول قبر والده ثم يطلبون منه الاّ يدنس القبر لأنه قبر الراب، فيصدهم عنه وينقش عليه ’هذا قبري به دمت حياً‘"- ص. 153(صفوري ، م . ق.).

بعض مظاهر الإنسلاب والانفصام

إلى ذلك لا تخفي مضامين قصص بربارة ، رؤاها ورؤياها لواقع المرأة العربيّة وبعض مظاهر الإنسلاب والإنفصام في الشخصيّة العربيّة " الثمانيأربعينيّة " ، التي تولّدت على خلفيّة ذلك التعايش القسري مع القطب الحضاري – الثقافي الآخر، المهيمن على مجمل جوانب الحياة ، بما فيها الهيمنة المطلقة على السلطة والقانون السائدين . فراوية بربارة كغيرها من بنات وأبناء جلدتها ، بحكم وقوعها منذ ولادتها تحت تأثير قيم وثقافة ونمط حياة القطب الآخر، هي مضطرّة ، قسراً وحاجة ، لتعلّم وإتقان اللغة العبريّة ، الدراسة وفق المناهج الدّراسيّة ، التعامل مع المؤسسات الرّسميّة والخاصّة ، التقيد بالأنظمة والقوانين المفصّلة على قياس القطب المهيمن وبالتالي هي محكومة بالتعايش مع مجموع التقاليد والعادات غير المتكافئة للشريك الأقوى ، في المدرسة والجامعة والدائرة الحكوميّة والسوق والشارع ومكاني العمل والسكن ... كلّ ذلك يضعها ، منذ الولادة ، في دائرة التّلقي والتأثر الإيجابيين والسّلبيين ، مع القليل من قدرة الإعطاء والتأثير.

وما من شكّ بأن جملة من المفاهيم والقيم التراثيّة النابعة والمتأثرة بالخلفيّات الجيو – أثنيّة للقطب المهيمن ، خاصّة تلك المتقدّمة على مفاهيمنا وقيمنا العربيّة ، وبالأخصّ ما يرتبط منها بعلاقة الرّجل والمرأة ، ستجد وقعها وتسرّبها إلى نفس المتلقيّة ومن خلالها إلى كتاباتها .

ففي قصة " شرخ في انعكاسات المرايا " ، تحدثنا عن تلك الفتاة التي رفضت أنوثتها والتي لجأت إلى الطبّ لتغير جنسها وكيف " أفاق ..ت .. وذهبت ’التاء‘ دون رجعة وخرجت من باطن الجسد والمشاعر دنيا جديدة..." ، ثمّ تنهي القصة بهروب الفتى الذي كان أنثى راكضاً :
" للمرآة ، يختلي بها ، يرى انعكاساتها المشروخة عالمين متداخلين متباعدين .. يبعد جسده نحو اليمين تارة ونحو اليسار تارة أخرى كي يرى انعكاسه الحقيقي بعيداً عن الشّرخ الطويل المخترق للمرآة ، يختال فتتراقص أمامه انعكاسات عديدة وكأن المرآة تحوّلت إلى مرايا .. وتتراءى له صورة ’منى‘ الصغيرة تتقدم نحوه لتشاركه عالمه الثالث .. (بربارة، ر . ص . 118– 122) .

وفي قصّة " الشرايين الممزّقة " تنقلنا الأديبة إلى عالم تلك المرأة التي لجأت إلى علم الإستنساخ لحلّ صراعها " الدائم بين بين ..." ، لتختتم قصّتها ب :
" وهنا .. على الأريكة .. نسخة أصليّة تتحشرج وتُحْتَضر .. لأنّ روحها في نسخة ، ذاتها في أخرى .. وجسدها مبعثرٌ هناك .. ولا دمّ يتدفّقُ في شرايين ممزّقة ..!! (بربارة، ر. ص .93 -98).

وفي قصّة "خمر قانا" تبحث الكاتبة عن ذلك التّوحّد المنشود بصوتها المتقمّص صوت بطلتها :
" لا أتمكن من فتح جبهتين في معركة واحدة فكلها جبهات ذاتيّة ، تتوحد فيها الأنا و"هي" ، ويتوحد فيها الأنا و"هو" .. إذاً .. "وجدتها" .. لأغمس خبزي بنبيذه ، علنا نصير عقلاً واحداً ، بعد أن صرنا جسداً واحداً " (بربارة، ر. ص . 168 -171).

فهل أرادت لنا الأديبة أن نقرأ في هذه النصوص بعض مظاهر الإنسلاب التي تخالج نفس المرأة ، أم أنها أرادت أن تعكس مظاهر الإنسلاب والإنشطار التي يعاني منها مجتمعها العربيّ ، أم مجتمعها بقطبيه ؟ الأرجح أنّها أرادت أن تصوّر حالة الإنسلاب العامّة ، الممتدّة على اتّساع الأقانيم الثلاثة ، شاملة المجتمع بقطبيه ، بما في ذلك المرأة " الثمانيأربعينيّة " .

جمع بين الأصالة والحداثة

لقد نسجت راوية بربارة قماش قصصها على نول عربيّ أصيل، بنته على طريقتها ، من موروث أدبي يمتد على امتداد الثقافة والحضارة العربيّتين ، بما فيه موروث عمرو بن كلثوم في العصر الجاهلي ، مرورا ببشار بن برد وأبي نواس وصولاً إلى جبران خليل جبران ، ألبير أديب ، عبد الوهاب البياتي ، غالي شكري ، أدونيس ، كمال أبو أديب ، صلاح عبد الصبور ، أمل دنقل ، محمود درويش ، سميح القاسم وغيرهم من رواد الأدب العربي الحداثيين . هذا النول الذي استطاعت مكننته من خلال نسمات عالميّة ، أتتها مباشرة أو من خلال المحدّثين العرب ، حاملة بصمات بودلير ، رامبو ، مالارييه ، اليوت ، نيرودا ، لوركا ، ناظم حكمت ، فتشنكو ، كامو ، بياجيه وغيرهم .

ومن أقمشتها الحريرية الشفافة ، استطاعت بربارة أن تفصّل ثياب نصوصها بما يجمع بين التراث العربي ، ومن ضمنه المخزون الثقافي " الثمانيأربعيني " ، وبين التراث العالمي النازع نحو التجديد الذي يصون ويدفع عجلة الموروث العربي نحو التقدّم . ولكي يكتمل بناء نصوصها ، ويرقى إلى طموحاتها في تقديم نوع أدبي مميّز وخاص بها ، عمدت إبرة بربارة إلى تطريز أثواب نصوصها بخيوط متينة ، متانة ارتباط "العربثمانيأربعيني" بأرضه ، وملوّنة بأقواس قزح هذا الوطن الصغير، بدءاً ببنفسجيّ نبيذ الجليل وأحمر شقائق نعمانه ، مروراً بأصفر أزهار صبّاره وأخضر زعتره ، انتهاء بأزرق بحر حيفا وبياض أزهار ليمونها . فما أبدع وأبلغ تلك اللوحات الفنّيّة التي رسمتها أديبتنا ، على سبيل المثال ، في قصّة "رهبة الرّوح" ! بما فيها اللوحة التالية :

تستنشق الأرواح الهائمة روائح الزيت والزعتر ، فتحنّ لعجين يتخمّر بنسمات الصَّبا .. ويُخبزُ بجمرات الصِّبا .. تداعب روح "شام" عباءة أمّه تفوح منها النار وفرقعاتُ الحطب ، فيتذوّق خبزاً يحيي فيه طفولته ، يأكلُ نهماً علّه يطفىء جوع روحٍ .. يختبىء بين ثناياها ، يبحث عن دفءٍ سكن في حضنه .. قبل أن يفتح عينيه على حقائق أنزلت صقيع العالم في جنباته وتركت ثلوج الهموم تعتلي قمماً ما زالت في ريعان شبابها .. يعزّ عليه أن ينسلّ مرة أخرى من العباءة الحنون .. فعندما هجرها ذات ليلة .. لم ير فجراً بعدها .. لكن روحه تأبى أن تستكين .. تهزّ ثنايا العباءة والجسد المترنّح داخلها شوقاً وحنيناً لفلذة أضاعها .. وتخرجُ .. تقطف بضع ورقات زعتريّة تمزجه بزيت عصرته المحبّة .. وتنتشي ..

(بربارة، ر. ص. 65 – 66).

لكنّ الأهمّ في قصص أديبتنا ، هو ذلك المخزون المعرفي النظريّ والمكتسب من خلال تجربة واضحة الغنى ، تطال العديد من حقول المعارف الإنسانيّة ، الممتدّة من تقنيات الطبخ لدى ربّة المنزل إلى العلوم الإجتماعيّة وصولاً للسيكولوجيّة ، التي جعلتها مسيطرة سيطرة تامّة على علاقة أحداث قصصها وأبطالها بالواقع والإمساك بخيوط الصراعات الدائرة في ربوع قصصها وحركية الحوار والسرد . كما نقرأ في قصة "كليوبترا" :
" ... جالت عيناه فوق الرفوف حتى توقفت نظرته المبتسمة ، تلك التي تعرف كنهها ، فقابلته بابتسامة عابثة ، استفزّت ملا محه المتعالية فتقلّصت حدود ابتسامته وسمعته يسألها :
 ألا يُعجبك ؟
 أأعجبَكَ هذا النتوء الجسدي الصغير الذي يصدر خريراً ويطلق ماء ؟ أم هذا الوجه الطفولي اللاّمبالي ؟ وكأنّ ’فرويد‘ هو الذي صمّمه مجسداً مرحلة "الأنا" ، أتدري ما ينقصه ؟ لو كنت مكان المصمم لجعلته الأول في مجموعة متنامية جسدياً ونتوئيّاً ، لكنها تحمل نفس هذا الرأس .
لم يجبها ولم يعلّق" (بربارة، ر. ص.164).

بصمة تجديديّة خاصّة

وإذا كانت أهمّية القصة القصيرة بحسب د.أ. خليل أبو ذياب :
" تكمن فى أنها شكل أدبى فنى قادر على طرح أعقد الرؤى وأخصب القضايا والقراءات ذاتية وغيرية ونفسية واجتماعية، وبصورة دقيقة واعية من خلال علاقة الحدث بالواقع وما ينجم عنه من صراع وما تمتاز به من تركيز وتكثيف فى استخدام الدلالات اللغوية المناسبة لطبيعة الحدث وأحوال الشخصية وخصائص القص وحركية الحوار والسرد ومظاهر الخيال والحقيقة وغير ذلك من القضايا التى تتوغل هذا الفن الأدبى المتميز" ( أ.د.أبو ذياب، خ.).

فإن من أهمّ عناصر التجديد في قصة راوية بربارة هو ، من جهة ، مزاوجتها الفذّة بين الكناية العربيّة والرّمزية الغربيّة ، وفي صلبهما تقنيّة الإيحاء، فتوظيف الإستخدامات اللّغويّة وشحنها بخصب وعمق شاعريين موسيقيين لافتين " شاب سرق من القمح انعكاس الشمس على سنابله " (بربارة، ر . ص.75) ، ومن جهة أخرى ، إطلاق قدراتها الخياليّة الفائقة ، تاركة للقارىء هامشاً رحباً لمشاركتها في الكتابة والتحليل واستنتاج الدروس والعبر، جاعلة من ذلك رديفاً ومتمماً ، بل وفي بعض الأحيان ، عنصرتقليل من شأن الحبكة وحوار شخصياتها ، ملقية ببداعة تلاوينها اللغويّة على الحدث نفسه وعلى مكنونات صراعات وانفعالات شخصياتها الداخلية وبينها وبين الحدث ، راسمة ، بسرديّة فريدة ، ما يشبه اللوحات الفنّيّة التشكيليّة التي تتداخل وتتحاور وتتصارع خطوتها وألوانها لتنقل الحبكة والحوار إلى داخل القارىء المأخوذ بفعل مشاركته وجاذبية صورها التشويقة بحماس وشغف نحو نهاية النّص ، مهما وهنت حبكته وذروته بمفهومهما التقليدي :

" قناطر تشرئبّ أعناقها نحو السماء، تتنازل جوانبها لتسرق السّمع .. عتمة تقتحمها أضواء القناديل المعلّقة في الزوايا والشّموع التي تتوسط الطاولات المستديرة .." (بربارة، ر. ص.71).

وبذلك تكون الأديبة قد استنبطت ، رمزاً ، صياغة حبكاتها داخل الحدث ، وليس خارجه ، وحواراتها داخل شخصياتها وبينها وبين الحدث ، من خلال قوة اللفظة وعمق وجمالية المفردة والجملة الشعرية وقدرة جدليّة فائقة على الربط بين تناقضات الواقع والحدث والبطل .

كل ذلك يؤكد استنتاجات بروفسور جورج قنازع صاحب مقدّمة كتاب "شقائق الأسيل" (قنازع ، ج.) بتوليد الكاتبة :
" ... أسلوباً يتميز باللامألوف ، ولتصبح القصّة أشبه بمكعب تقرأ سطحه وتقودك كلماته إلى أعماقه فترى كيق يختلط الحاضر بالماضي والواقع بالخيال ، وترى بين هذا وذاك سحر أسلوب هذه الكاتبة التي تجيد اختيار الكلمة وتنتقي العبارة التي لا تتوقعها ".
وبأن الكاتبة :
"... عالجت في هذه المجموعة مواضيع متعددة ؛ دخلت في أعماق المرأة لتكشف أحلامها المبنية على الرمال أحياناً ، كما دخلت في أعماق الرجل لتكشف عن مواضع ضعفه وصلفه أحياناً . وهي مع ذلك لم تنس واقع الحياة التي تحياها في وطننا الصغيربآلامه وآماله لتقول لنا إن الأمل يبقى في عيون الصغار" (بربارة، ر. ص.3 – 4).

لا مجال للتشكيك بقصّة راوية بربارة القصيرة

إن قراءة متأنّية وموضوعيّة لقصص راوية ، تشيرإلى ما يشبه اللّغة الخاصّة بها :
" وذات عريّ لمح تحت كتف ابنته شيئاً " (بربارة، ر . ص. 115) "... مجرد رقم في تصريح يطلّ من جيب قميصه ... تصبح على عمل ... تصبح على أمل..." (بربارة، ر. ص.101) .

فهي لم تمزج بين التراث والتاريخ والأسطورة ، بل و بين الواقع والخيال ، دون أن تنسى تلاوين المجاز والتشبيه والإستعارة والسخرية وحتى المبالغة " ولم يغر من الوحش كلما رأى أليفين منها لا يروعهما الذعر" (بربارة، ر. ص.21).

وحول تشكيك بعض المتأثرين بالخصائص التقليديّة للقصة القصيرة ، بانتماء نصوص راوية بربارة إلى هذا النوع الأدبي ، يجيب " ادغار ألن بو" :
" إن رواد القصة القصيرة في عصرنا الراهن قد حددوا الخصائص الرسميّة لهذا النوع الأدبي : بأن تكون القصّة القصيرة ، قادرة على ان تقرأ في جلسة واحدة وذلك لاعطاء فكرة وحدة الانطباع عن طريق التركيز على حادثة منعزلة واحدة في حياة الشخصية الواحدة ، أو على علاقة واحدة لشخصيّة واحدة مع الأخرى ، خلق جو يعيش فيه الأبطال ، يتنفّسون ، يتحرّكون ، بما يؤدي بدوره إلى خلق حالة من الإنفعال . إن وحدة الإنطباع السائد هي أهم سمات القصّة القصيرة المعاصرة . فهي تبني مناخاً عاطفيّاً مكثّفاً تتركز فيه كل عناصر القصة لتخلق الذروة وأخيراً الهبوط فالخاتمة " (بومان،هـ.ج.).

إن قصص راوية بربارة ، بمجملها تحتوي على الخصائص المحددة أعلاه . هذا ما يعيد الكرة إلى ملعب الذين لا يريدون " الإعتراف " بإبداع بربارة في فنّ القصّة القصيرة ، بما يلقي عليهم مهمّة قراءة نصوصها في سياقها وليس بمعزل عن هذا السياق كما يؤكد د. محمد خليل :
" إنّ كل قراءة للنص الأدبي ، تظل قاصرة ما لم تلتفت إلى حقيقته الأدبية وإلى جوانب متعددة أخرى !! ، لا بمعزل عنه ، (Context) ضمن السياق (Text) على سبيل المثال لا الحصر: ضرورة قراءة النص
ولن يتمكن قارئ من تحديد هوية نص ما ، ولا الوظيفة الدلالية أو الجمالية للغة إلا من خلال السياق"
(نقد على نقد ، ص.102).

قصور الدّعوة للفصل بين القصّة والشعر

إنّ أي محاكمة للنّوع الأدبي المميّز الذي انتهجته راوية بربارة ، شكلاً ومضموناً ، لا تأخذ بالحسبان المؤثرات والإعتبارات المدرجة أعلاه ، ستكون حكماً اعتباطية وقاصرة عن فهمه . إذ سيكون من العبث إجراء محاكمة للشكل منفصلة عن المضمون (والعكس صحيح) . إنّه من خلال قراءة متأنّية لنصوص كتاب "شقائق الأسيل" ، لا بدّ للقارىء النبيه أن يتوصلّ إلى استنتاج " د. أحمد يوسف " :
" عندما وصّف القصة القصيرة بأنها أقرب الفنون إلى الشعرلاعتمادها على تصوير لمحة دالّة في الزمان والمكان ، ومن شأن هذا التركيز في البناء والتكثيف في الدلالة، وهما سمتان جوهريتان في العمل الشعري ، ومن هنا لا ننتظرمن كاتب القصة القصيرة أن يقدم الشخصيّة بأبعادها المعروفة في الفن الدرامي ، بل ننتظر منه دائماً أن يقدمها متفاعلة مع زمانها ومكانها ، صانعة حدثاً يحمل طابع الدلالة الشعرية ، وهو طابع قابل لتعدد المستويات ، ومن ثم التأويلات ، وبالطبع لا تجسّد ذلك كله إلاّ من خلال لغة تعتمد الصورة وسيلتها الأولى والأخير" (د. أبو ذياب ،خ.).

هذا تحديداً ما صنعته الأديبة القاصّة راوية بربارة في قصصها . وهذا بالذات ما يعزّز الإعتقاد بأنه من أشد عمليات العسف التي مورست وتمارس على أديبتنا ، تلك التي تضعها أمام خيار كتابة القصّة " أو" الشعر! هذا "التّخيير" الذي يفتعل الحدود غير المنطقيّة بين هذين النوعين الأدبيين ، ناهيك عن أنّه يناقض توصيف " د. أحمد يوسف " أعلاه ، فإنّه يعبّر عن قصور في فهم خلفيات ظاهرة تمدّد الشعر ليشمل مجمل فروع وأنواع الثقافة العربيّة
" الثمانيأربعينيّة " ، بما في ذلك كتابة المقالة الصحفيّة والدّراسة التأريخيّة ، كأحد أهمّ الأدوات الفنّية لعكس مشاعر الظلم الناجمة عن ظروف قهرهذه الشريحة من أبناء الشعب العربي الفلسطيني ، و" الإحتيال " المشروع
على القوانين والإجراءات غير المشروعة لطمس معالم الهوية والثقافة الوطنيتين لهذا الشعب المغلوب على أمره .
إنّ هذا " التّخيير" يشبه التخيير بين تناول وجبة طعام بلا ملح لا طعم لها دونه ، أو تناول الملح بمفرده دون الطعام !

يبقى من الضروري الإعتراف بخصوصيّة أدب "عربثمانيأربعيني" تتمّ بلورته في ظلّ مناخ فكري – سياسي – اقتصادي – اجتماعي ، مرتبط بمحيطه العربي بمقدار ما هو منفصل عنه . وآن لنا وقف الضغوطات اللاعقلانيّة على أدبائنا ، خاصة الشبّان منهم ، كي يتشبّهوا بغيرهم ، والتي لا تقلّ شبهاً عن مطالبة شاعر سوداني أو قاصّة مغربيّة ، تعلّم اللّغة العبريّة قبل بدء الكتابة ! .

دخول من باب قضيّة المرأة إلى القضايا الأشمل

من جهة أخرى يخطىء من يختصر أدب راوية بربارة بمصطلح "الأدب النسوي" أو تقزيمه بوصمه " أدب نسيوي تعصبي " ، وهذا الخطأ لا يقلّ شأناً عن خطأ التقليل من شأن وأهمّية هذا النوع الأدبي ، فقط لأنه قد لا يشبه غيره أو لأنّه خرج عن مألوف الأدوات الفنّيّة الكلاسيكيّة واختار أدواته الخاصّة به ، والتي هي جزء من خصوصيّة البيئة التي أنتجته . فلو طغت قضيّة المرأة في نصوص " شقائق الأسيل " وغيرها من نصوص بربارة ، على غيرها من القضايا ، فإنّ قراءة متأنّية وموضوعيّة لكتابات أديبتنا ، تجعلنا نجزم بأنّ هذا التركيز على قضايا المرأة ، ما هو إلاّ محاولة من الأديبة للولوج إلى القضايا والهموم "الأكبر" والأوسع ، من باب قضايا المرأة ، لاعتبارات عديدة أهمّها أنّ الكاتبة نفسها هي إمرأة ، ولأنّها ، موضوعياً ، ضحيّة من ضحايا التمييز ضد المرأة ، حقّ لها ، أيضاً ، أن تترك بصمتها الخاصّة في تناول القضايا الأخرى ، من زاوية قضيّة المرأة ، بوصفها جزء لا يتجزّأ من القضايا الأخرى ، إن لم تكن ، من أهمّها ، في العديد من مفاصلها ، بما يضفي أهمّيّة مضاعفة على هذه القضايا مجتمعة . إذ قد يتسنّى لذائق كلّ المرارات ، والمرارة الخاصّة بالمرأة تحديداً ، توصيف وتشخيص هذه المرارات ، واقتراح الحلول " المُحَلّية " لها أكثر من ذائق بعضها فقط .

وبحسب منى ميخائي :

إنّ الأدب ، كما قيل لنا ، هو تخريب لانه يسبر غور أعمق طبقات الروح والخيال من غير أن يكون مسؤولاً تجاه الحكومات . إنّ الكتاب العرب ، رجالا ونساء ، ابطالا وبطلات ، هم في بحث مستمر عن حقيقة أنفسهم فى محاولة لفهم واقعهم ، والأهم ، إعادة تعريف معنى حياتهم . والمراه العربية ، في الواقع والخيال ، كانت عاملاً من العوامل الديناميكية التغييرية . وما يكمن وراء ’نسويّتها‘ ليس مجرد تأكيد أمل جديد لنفسها ، وانما أمل في عالم جديد للرجال والنساء على حد السواء" (ميخائي ،م.).

في هذا السياق فإن المحاكمة الموضوعيّة والبنّاءة ، يجب أن تنظر إلى هيمنة قضايا المرأة على نصوص راوية بربارة ، لا من باب التقوقع أو التّزمت ، بل من باب التّخصّص وحسب .

(( مهما فعلت ، هناك دائماً من سيقول لك أنك مخطئاً . هناك دائماً الصعوبات التي تجعلك تعتقد بأن نقادك هم على حق . كي ترسم مسار عملك ومتابعته حتى النهاية أمر يتطلّب الشّجاعة )) .
 رالف والدو امرسون -

مراجع

 أ - د. أبو ذياب ، خ. فنّ القصة القصيرة وإشكالية البناء
Www.merbad.net/vb/showthread.php?t=2440

 امرسون ، ر . دبليو ،
there_is_always/14528.html إقتباسات من رالف والدو امرسون ،

 بربارة ، ر. (2007) ، شقائق الأسيل ، دار بيسان - كل شيء ، القاهرة

 بومان هـ.ج. (87) ، القصة القصيرة في أمريكا اللاتينية: تقليد ثقافي
Www.yale.edu/ynhti/curriculum/units/1987/1/87.01.08.x.html

 جاورسكي ، أ. و كاوبلاند ، ن.(2006). قارئ المحادثة، روتليدج ، نيويورك.

 د. خليل ، م. (2007) ، النقد الادبي داخل فلسطين 48 ، دار الهدى للطباعة والنشركريم ، كفر قرع .

 د. خليل ، م. (2007) ، نقد على نقد ، دار الهدى للطباعة والنشركريم ، كفر قرع .

 صفوري ، م ، ق. (2007) ، "شقائق الأسيل" بين عبق الماضي ونكهة الحداثة ، الجبهة الديمقراطية للسلام
www.aljabha.org والمساواة ،

 ميخائي ، م . دور المراه في الأدب العربي www.library.cornell.edu/colldev/mideast/litera1.htm

للأديبة راوية بربارة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى