الخميس ٦ آب (أغسطس) ٢٠٠٩
بقلم علي شنينات

قراءة في مجموعة عمار الجنيدي أرواح مستباحة

عن دار الكندي للنشر والتوزيع صدرت المجموعة القصصية (ارواح مستباحة) للشاعر والقاص عمار الجنيدي بدعم من وزارة الثقافة الاردنية. وقد صدر للكاتب قبل دلك مجموعتان قصصيتان هما: (الموناليزا تلبس الحجاب، خيانات مشروعة ) من نوع القصص القصيرة جدا، إلا ان عمار الجنيدي في مجموعته الاخيرة (ارواح مستباحة)خرج عن نسق المجموعتين السابقتين الى نسق القصة القصيرة.

ولو حاولنا جاهدين التمييز بين هذين النوعين من السرد لاختلط علينا الامر، والسبب في ذلك هو التداخل بينهما من حيث الخصائص والعناصر لكل منهما. فالقصة القصيرة كما يعرفها الاستاذ فؤاد قنديل( نص أدبي نثري يصور موقفا أو شعورا إنسانيا تصويرا مكثفا له مغزى) ويعرفها آرسكين كالدويل بأنها (حكاية خيالية لها معنى، ممتعة بحيث تجذب انتباه القارئ، وعميقة بحيث تعبر عن الطبيعة البشرية). لقد اشتملت هذه التعاريف على خصائص وعناصر القصة القصيرة من حيث ان القصة القصيرة تتحدث عن موقف او شعور بعينه ولا تتعداه، كما انه من اهم عناصر القصة هو التكثيف والايجاز والاقتصاد اللغوي، وأحيانا ما يكون ايحاءا شعريا ينطوي على صور شعرية تنقل المتلقي الى فضاءات اخرى أكثر جمالا في المتخيل من النص، كما ان النهايات المفتوحة للقصة القصيرة تترك مجالا آخر للتأويل حسب حالة المتلقي النفسية ويتفاعل معها كما يراها هو وليس كما يراها الكاتب في احيان كثيرة. في القصة القصيرة أيضا ليس هناك صراع خارجي في الغالب ولكنه صراع داخلي عادة ما يحدث في نفس الشخصية الواحدة في القصة بين الخير والشر او بين المتخيل الجميل وبين الواقع المر أو لنقل بين الاشياء وضدها في النفس البشرية بشكل عام. وترتكز القصة القصيرة عادة على المنولوج الداخلي والسرد الوصفي لحركة الاشياء والشخوص داخلها مبتعدة عن الديالوج او الحوار بين الشخوص ما أمكن.

اما القصة القصيرة جدا فيرى الباحث والقاص فاروق مواسي انه يجدر بها ان تعبر عن احاسيس عفوية واعية مقاربة للحياة، ويرى ان من ابرز خصائصها الاقتصاد في الوصف، والاستغناء عن عنصري الزمان والمكان، وان ابرز عناصرها هو المفارقة. أما الناقد المغربي الدكتور جميل حمداوي يرى ان اهم خصائص القصة القصيرة جدا هو التكثيف والقصر والايجاز والحذف والاضمار والايحاء والمفارقة واستخدام التوتر الدرامي وتراكب الجمل والادهاش والشاعرية.

وتجدر الاشارة هنا ان هذا النوع من السرد لم ياخذ دوره من النقد والتمحيص كونه فنا حديثا ظهر في العقود الاخيرة من القرن العشرين وكان نتاجا للعولمة والثورة الصناعية والاتصالات كما يرى القاص السوري اسد دوارة.

ان هذه التعاريف الآنفة الذكر لكلا النوعين القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا، يدلان على ان ليس هناك فرقا واضحا بينهما يميز واحدا عن الآخر من حيث المضمون والشكل، ربما ان الفرق الواضح بينهما هو الحجم فقط.

* * *

في مجموعة عمار الجنيدي(ارواح مستباحة)قصص قصيرة- وقد كان له مجموعتان سابقتان من نوع القصص القصيرة جدا- شدني هذا التنويع في اسلوب السرد وهذا الانتقال المقصود حتما من القصة القصيرة جدا الى القصة القصيرة، ولعله في مجموعته التي بين يدي (ارواح مستباحة) بنى اسلوبه بطريقة تقترب كثيرا الى اسلوب بناء القصة القصيرة جدا من حيث مضمون النص وشكل البناء. ففي قراءة نقدية له عن كتابات عمار الجنيدي القصيرة جدا يقول الناقد الدكتور راشد عيسى(الطابع الفني العام في كتابته يتمركز في النص القصير شعرا او قصة، وهو نص قائم بالدرجة الاولى على اقتصاد لغوي ذكي، وعلى دلالات مكثفة ومفتوحة على تأويلاتها)ويضيف (أما جوهر الرؤى فهي مواقف توظف طاقة السخرية الجادة باسلوب غرائبي يمجد الفانتازيا والعجائبي وانماط الاحتجاج على صيرورات اجتماعية ووجدانية ذات علاقة عمودية بروح الكاتب).

فمن حيث الشكل هناك اقتصاد لغوي وتكثيف عميق يمنح القاريء فرصة التأويل والتخيل ليتقمص الحالة كما تبتغي النفس والحالة الوجدانية في لحظة القراءة والوصول الى اللذة التي يتحد بها كاتب النص والقاريء في آن. علاقة الكاتب والقاريء في النص علاقة تكاملية تبدأ بأدوات الكاتب الفنية وتنتهي بفرح القاريء او حزنه او ما يعتمل في نفسه من تراكمات نفسية بحيث يستطيع الكاتب ان يختزل ما يمكن ان يتخيله القاريء، ويستطيع القاريء ان يتخيل ما يحس به الكاتب. مثلا في احدى القصص ترك الكاتب عمار الجنيدي للقاريء اختيار عنوان للقصة وهو اسلوب لإشراك المتلقي في النص، وهو تفاعل يمجد النص ويمنحه طاقة التعبير المنشودة.

من حيث المضمون يقدم عمار الجنيدي رؤاه وتحليلاته للواقع المعاش بطريقة ساخرة تعلن تمرده على السائد من سقوط وانكسار وخيانات، محتجا على ما يحدث من هزائم سياسية واجتماعية. والسخرية أداة يوظفها الكاتب بطريقة تدفع القاريء لتقبل فكرة النقد وبالتالي تحرير وعي المجتمعات، وهذه هي غاية النص الادبي في كل مراحل تطوره: ملامسة الواقع وتعريته أولاً ثم الحفر في الذاكرة الجمعية للوقوف على الاخطاء والشوائب من باب الاصلاح والتقويم، وفي الغالب فإن النص الادبي لا يضع حلولا مباشرة بل إنه نقطة التحول من حالة الغفلة الى حالة الانتباه.

* * *

في مجموعته(ارواح مستباحة)قصص قصيرة يبدأ عمار الجنيدي اهداءه الذي يؤشر الى مضامين ملحة في واقع يسوده الوجع الانساني بكل تفصيلاته فردية او جماعية، إنه استهلال ذكي لإدخال القاريء الى جو النص منذ اللمحة الاولى بيد ان اسم المجموعة(ارواح مستباحة)مصطلح فني يجمع بين العام والخاص ويترك عند المتلقي دهشة السؤال والفضول العارم للإنتقال الى متعة الآتي.

يبدأ الكاتب القص غالبا بكلمة او مشهد يشيران الى ما قبلهما ويختزلان احداثاً يستطيع القاريء ان يتوقعها كما في قصة(الخائن)حيث تبدأ القصة بالمشهد التالي: (إزدحام الغرفة بالمراجعين والملفات التي تتكوم على طاولة مكتبه أعاقت وصوله الى الهاتف الذي تواصل رنينه بشكل مزعج). قبل هذا المشهد هناك مشاهد يستطيع القاريء ان يتوقعهااو يتخيلها، وكما في قصة (نشوة الدراق)و(اللعنة). هذا الاختزال الذي يجعل القاريء يتفاعل مع جو النص منذ بدايته. القاريء يبني فكرته في النص ضمن إطار عام يقدمه الكاتب بأدواته الفنية ويمنحه مفاتيحاً يلتقطها ويبني عليها في المتوقع من النص أو المتخيَّل.

يرتكز القاص عمار الجنيدي في قصص المجموعة على المكان كحاضن للنص القصصي وعنصراً مهماً في البناء السردي، ويشير الكاتب الى أمكنة واقعية عاش بها القاريء او ألِفها وارتبط بها ارتباطاً نفسياً مثل(حي التركمان)، (حي القلعة)، (عجلون). هذه الامكنة تضفي على النص صفة الواقعية وكأنه يتحدث عن قصص واقعية تحدث في المجتمع الاردني. هذا الارتباط الحسّي بين الكاتب والمكان من جهة وبين القاريء والمكان من جهة أخرى بنى علاقة حميمية بين المتلقي والنص، يجعل القاريء يستوعب النص من خلال سايكولوجية المعرفة بالمكان. أيضاً تتحرك الشخصيات ضمن أمكنة مغلقة ترتبط بالقاريء أرتباطاً حسّياً مثل (الغرفتين الأرضيتين)، (مكتب المديرة)، (الغرفة المنزوية). يقول غالب هلسا في تقديمه لكتاب جماليات المكان لغاستون باشلار (المكان في الصورة الفنية هو المكان الاليف، وذلك هو البيت الذي ولدنا فيه، إنه المكان الذي مارسنا فيه أحلام اليقضة وتشكل فيه خيالنا، فالمكانية في الادب هي الصورة الفنية التي تذكرنا أو تبعث فينا ذكريات بيت الطفولة، ومكانية الادب العظيم تدور حول هذا المحور). فالمكان الواقعي في النص الادبي هو وشيجة التقارب والألفة بين القاريء والنص وتعايش ملموس للأحداث وتسلسلها واستجابة سريعة لتقمص الشخصيات التي تتحرك في مكان له دلالاته الحسية والنفسية في ذاكرة المتلقي.

يعمد عمار الجنيدي الى استخدام النهايات المفتوحة للتأويل والمفارقة والإدهاش ويترك للقاريء فرصة لفك حبكة القص المبنية –في الغالب- على صورة شعرية تنقل المتلقي الى متعة التخيل والارتقاء بالذائقة الى مدارك سامية من الإنفعال مع اللغة الشعرية التي يتقنها الكاتب إذا ما عرفنا أن عمار الجنيدي بالاضافة الى انه قاص فهو شاعر متمرس، فقد صدر له ثلاث مجموعات شعرية هي: (وهج الانتظار الاخير، رايات على سفح الشفق، رماح في خاصرة الوجع). في إحدى قصص المجموعة (ضحية)يكرّس الكاتب الإنزياح الدلالي أو ما وراء النص في القصة كمشهد واحد متفرّد يطرح تساؤلات متعددة داخل النص وخارجه، تحتاج من القاريء الى نفس طويل لجمع خيوط الحبكة وفك رموزها. يتحدث السارد عن فتىً فقير يمسح زجاج السيارات على إشارة ضوئية، ويشاهد منظراً بشعاً يتمثل في عملية دهس لرجل من قبل سيارة مسرعة، ورغم بشاعة المنظر يتقدم الطفل شاقاً طريقه نحو الجثة، فيجثو عليها ويبكي ثم يغادر متجها الى الاشارة ليمارس عمله المعتاد وكأن شيئاً لم يكن. هذا هو المشهد الوحيد في القصة، ويبدو مشهداً عادياً يترك تساؤلاً: من هو الضحية؟ الرجل الذي مات نتيجة الاهمال والسرعة أم الطفل الذي يعمل في الشوارع نتيجة الفقر؟ . لكن هناك سؤالاً وجوديا أكبرً ومعانٍ سامية تبدو وراء النص أرادها الكاتب عندما وضع بداية القصة الفقرة التالية: (لحظات صمت كئيبة خيّمت على الوجوه، تبحث عن شيء اسمه الشعور، لكنها لم تجد غير القلق. . . وعندما ينحبس المطر، يتنبه الصمت ويلفّ مدارات الوجوم)، وفي نهاية القصة إستخدم صورة شعرية قفلة للقصة: (تكاثفت الغيمات في الافق، فتهاطل المطر غزيراً، وظلّ القلق يلفّ مدارات الذهول). وهنا يتسع السؤال، هل هو قلق نفسي وبحث عن الذات وتشخيص لحالة فردية بعينها؟ أم هو قلق إنساني عام يؤشر الى كارثية الحالة في تردّي القيم النبيلة واضمحلال المعاني السامية؟ . التشاؤمية هنا عالية الوتيرة لأن القلق استمر رغم هطول المطر. هذه الاسئلة الكبيرة إختزلها الكاتب حين وضع الصورتين المتقابلتين، انحباس المطر في بداية تشكيل المشهد وهطول المطر في نهايته وجعل صفة القلق عاملا مشتركا بينهما، إنه استطراد للخوف وتعميم له ايضاً في المترادفتين مدارات الوجوم ومدارات الذهول.

واقعية النص الأدبي تفرض على الكاتب استخدام لغة سهلة خالية من التعقيد مبتعداً عن المفردة الفضفاضة التي لا تخدم النص بقدر ما تؤدي الى النفور واتساع الفجوة بين القاريء والنص، وفي بعض الحوارات استخدم عمار الجنيدي اللغة المحكية التي يتداولها الناس في الشارع والبيت والأمكنة العامة. هذا الخط اللغويّ الذي استخدمه في كل قصص المجموعة تقريباً، يمنح المشهد طاقة بصريّة عالية بالنسبة للمتلقي، ويدلّ على أن الكاتب أراد ألّا يخاطب النخبة فقط، بل أراد أن يوسّع خطابه ما أمكن.

* * *

حملت المجموعة مضامين تميزت بجرأة الطرح الكاشف لكثير من الدمامل والآفات التي تصيب المجتمع، كالفقر والزنا والجشع وتدني المستوى الثقافي. وقد شكّل الكاتب شخصياته المسحوقة التي تقع تحت ضغط واقع اجتماعي واقتصادي وسياسي، وطرح ثيمة الانتحار كمعادل طبيعي لما يحدث في الواقع الذي يراه كما يرد على لسان أحد الشخصيات الذي قرر الانتحار في قصة(رصاصة واحدة تكفي): (ان هذا الواقع المخزي الذي أراه في كل جزء من حياتي، يهبط عزيمتي ويكرس أسباب الذل والإحباط في نفسي، ويدفعني لاتخاذ موقف اتجاه هذا العبث). أيضاً يقدم عمار الجنيدي نموذج المرأة الغير سوية بطريقة جادة أحياناً وبطريقة ساخرة أحياناً أخرى، فهي الأم التي تركت إبنها المريض استجابة لرغبات زوجها الجشع في قصة (الخروج من حي التركمان). وهي المرأة التي تخون زوجها مع صديقه في قصة(الخائن). وهي الفتاة الجميلة التي يكتشفها العاشق انها تعمل في مكان للدعارة في قصة (نشوة الدرّاق).

في قصة (اللعنة)يرمز الكاتب الى قضايا سياسية ظاهرة ومستوحاة من الواقع السياسي العربي المتردي اتجاه ما يحدث من احتلال اسرائيلي للاراضي العربية، واستمرارها في بناء المستوطنات، وموضوع التطبيع مع اسرائيل. هذه المواضيع يطرحها بطريقة دراماتيكية مستمداً فكرة النص من قصة أهل الكهف التي وردت في القرآن الكريم.

* * *

إن عمار الجنيدي يقدم عملا متميزاً في القصة القصيرة (أرواح مستباحة) من حيث الشكل والمضمون، كما كان متميزاً في القصة القصيرة جداً رغم أنه عمد الى التقارب بينهما خاصة في الشكل ملتزما بنكهته الخاصةفي السرد التي تميز عمله القصصي عن غيره. وقد قدم رؤاه الخاصة وتحليلاته للواقع بكل إرهاصاته، والملاحظ في المجموعة بشكل جلي هو القسوة في طرح الجانب السلبي للمرأة فقط، المرأة التي وصلت الى مستوى عالي من الثقافة والشراكة الحقيقية مع الرجل في البناء، هي أيضا تستطيع اتخاذ المواقف النبيلة وتقدم ما يقدم الرجل على حدٍ سواء. ولكن بالطبع هي رؤية الكاتب التي تعتمد على تحليلات تتشابك مع مزاجه الفني في لحظة ولادة النص وانتقائية الطرح التي تتقاطع مع نفسية الكاتب في ذات اللحظة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى