السبت ٢٥ حزيران (يونيو) ٢٠١١
بقلم سمير صابر الجندي

قصة طويلة...

نادر، لا أعرف إلا اسمه الأول، لكنني أعرف بعضاً من تفاصيل حياته، هو رجل في سن الثورة، مناضل شهم، شامخ بكبريائه، وإرادته وعزيمته التي لا تنثنى، قصير القامة عريض المنكبين، لم يفقد كثيراً من شعره الذي يميل إلى الحمرة، إلا أنه فقد كثيراً من بريق عينيه العسليتين، يتحدث بروح الجماعة، لا يبرح موقعه النضالي، لم يبدل أيّا من قيمه الرفيعة، كل أصحابه أخوة له، تجده عزوة لهم، لكنهم غير متواجدين عندما يستصرخهم...

قُبض عليه بعد مواجهة دامية مع المحتل، وحكم بأكثر من مؤبد، ثم نفي إلى إحدى الدول الشقيقة، لم يطل فيها المكوث، فانتقل إلى بلد صيفها شتاء وشتاؤها قارس، وبردها يقص المسمار، تعرَّف بابنة عمه فتاة جميلة، دمها مزيج بين العربي والفايكنغ، أنجبا ولدا وبنتاً، لكن يد الأعداء أطول من كل المسافات، لاحقته العيون وتربصت به الدوائر والأقدار، لم يتهاون معهم بل أصر على مواجهتهم بصدر عار وإيمان لا يضاهى، وقف لهم بالمرصاد كشف ألاعيبهم ومؤامراتهم الدنيئة، فلم يتحمل متنفذو تلك البلاد، فأغاظهم نادر بثباته وصبره، استخدم كل وسيلة لفضحهم ولكشف القناع عن وجوههم، فزاد غيظهم ليصبح حقدا يتأجج كنار مرجل، أمروه بالسكوت فلم يسكت، أغروه بالمال فلم يضعف، هددوه فزاد عناده، توعدوه فلم يرضخ، صبر وقلق، كما زاد خوفه وحماسته، حشد حوله بعضا من الذين ما زالوا يحملون تلك القيم الإنسانية، ارتفعت بهم معنوياته، أخلصوا له بعد أن خذله الأشقاء، فتحوا أمامه أبوابا كان قد أغلقها الأعداء وأعوانهم، استمر في نضاله حذراً من غدر الغدر، وبطش القهر، إلى أن جاءه مرسال يخبره بشدة مرض أمه، وبأنها على فراش الموت تتمنى رؤيته قبل الوداع، حمل خوفه وقلقه وشوقه إلى أمه، وقفل عائدا لوداعها الأخير، ولم يدرِ أنه يودع ابنته وولده الذي بدأ يحبو حديثا وزوجته الجميلة، وبأنه لن يراهم مرة أخرى...

عاد من رحلة الآلام لينضم إلى عائلته، لكنهم لم يسمحوا بدخوله، فقد كانت فرصتهم الذهبية التي استثمروها بكل براعة، حُرم من عائلته، وحُرم من استقراره، بل حُرم بهذا المنع من حياته، لم يجد بدا من الرجوع إلى عمَّان، تكالبت عليه الهموم والخيبات والكوابيس، تناول من جيب معطفه الجلدي البني مفكرته الصغيرة، وأخذ يقلب صفحاتها بعناية، ويقرأ الأسماء بتمعن، وهو يرسم في رأسه خطة وخطة بديلة وخطة ثانوية، "اليوم بتصل بأبو إبراهيم وأبو الوليد وأبو مهند، وغدا أتصل بعبد الله وعبد الكريم وعبد الرحمن وعلاء الدين، وبعدها بتصل بخليل ورمزي وعيسى وسليم أنا متأكد بأنهم لن يخذلوني!!!"

لأول مرة يكتشف بأن مفكرته عاقراً، الأرقام غير صحيحة في معظمها أو ناقصة رقما هنا ورقما هناك، عندها فقط أدرك حجم المصيبة، حاول الحصول على أرقام أصدقائه الصحيحة، ممن كانت أرقامهم صالحة، أدرك بأنه يغرق في خضم بحر من المجهول ليس له قرار، وبأن رقماً يستطيع إنقاذه من الغرق، ازدحمت الهواجس والوساوس في رأسه الصغير، حتى كاد ينفجر هماً، وصل باتصالاته إلى كل الأندية، نادي الأسير والشهيد والثائر والمعتقل والسعيد والحزين، وإلى كل المحافل والمنتديات، والساحات الأردنية واللبنانية والسورية والمصرية والخليجية، وإلى كل التسميات والألقاب، تراكمت الوعود وراحت مشاعره وأفكاره بين مدٍّ وجزر...

نفدت نقوده القليلة ومع نفادها بدأ صبره يضمحل ويذوب، ترك فندقه المتواضع وسكن هو وهمومه وخيباته وكوابيسه، وأحلامه، وطموحاته، وكمده، وبعضاً من كآبته في قبو تحت بناية من العهد البائد، لامس بؤرة العذاب، عندما لم يجد من يمد له يد العون، تمر عليه الأيام والليالي دون كسرة خبز يسد بها آلام معدته الخاوية إلا من القهر، لكن بعض من كانوا يوما مشاريع شهادة هم وحدهم الذين تقاسموا معه الهم والسجائر وأحيانا كسرات الخبز، اتحدوا في حزنهم وقهرهم مثلما اتحدوا في محبتهم لفلسطين، فما كان في أياديهم حيلة لمساعدة أخيهم نادر، لا مال ولا جاه ولا عزوة، تخلت عنهم الحياة وتركتهم خلفها يجترُّون عذاباتهم، أما نادر فقد زادت همومه قناطيرَ مقنطرة بعد أن عاش معاناته ومعاناتهم...

تساوى في قبوه ليله ونهاره، لم يعد ينتظر فنجان قهوة يرتشفه ساخنا، لا ونيس له معظم الوقت إلا بعض دموع تتسلل بصعوبة عبر كبريائه، كان القبو باردا ورطبا وموحشا كصحراء غاب عنها ضوء القمر فعبثت بظلمتها الشياطين، تواردت إلى مخيلته أفكار تشبه الوساوس والهذيان، أرسل رسائل، وكتب عرائض، تشبث بوعود باهتة، فهو الغريق، وهم على ضفة الميناء بدواليبهم المطاطية، وياقاتهم المنشية، تتقاذفه أمواج البؤس وبرودة تجاهلهم التي زرعت بنفسه غصة لا تحتمل، سرقوا منه الأمل وسلبوه الابتسامة...

يحاول جاهدا أن لا يفكر بأسرته التي تنتظره في الطرف الآخر من الكرة الأرضية، فقد ترك هناك ابتساماته وضحكاته، وخطوات ابنه الأولى، وحُرم من وجه زوجته المشرق كإشراق شمس نيسان الدافئة، ترك خلفه الأمل المزروع في أحرف كلمة (بابا) التي بدأت ابنته النطق بها حديثا، تلك الذكريات تمزقه إرباً تجلده بسياطها فلا يجد في عتمته منفذا لبصيص أمل، يوجعه الحنين كما يؤلمه نكران الوطن...

استند على طاولة تقاعدت من الخدمة منذ زمن بعيد، واضعا رأسه بين كفيه الخشنتين، يحاول وضع حلول جذرية كما اعتاد أن يقول لمحدثيه، فهل يستمر بالبحث عن عمل يوفر له المعيشة في هذه الغربة المتداخلة؟ فأي معيشة يعيشها بعيداً عن أسرته بعد أن أُبعد عن وطنه قسراً؟ وأي حياة يعيشها في ظل معاناة قُذف إليها من قمة الهزيمة؟ قرر البحث عن خيارات منطقية، على كل حال هو لم يجد عملاً مناسباً أو غير مناسب، حتى هذا لم يكن بالأمر السهل، توجه إلى السفارة إلى مقرات الحركة والتنظيم والدوائر الرسمية وغير الرسمية، تكررت الوعود والتسويفات، والابتسامات الصفراء والسوداء والحمراء، وفي بعض الأحيان قوبل بوابل من دموع التماسيح، التي قصفت عظامه فهشمتها تهشيما...

"آه... لقد بلغت الروح التراقي... لم يعد بالإمكان تحمل الذي كان، فقد فقدت كل شيء لكنني أخاف أن أفقد ظلي، فقدت جزءاً كبيراً من حلمي فلا أريد أن أفقد بقية حلمي، يا الله أنا كفيل بأعدائي فنجني من أصدقائي"...

حمل جواز سفره الأخضر، وأخرج قميصا كان قد احتفظ به في حقيبته منذ نفيه من أرض الوطن، وقرر أن يحتفظ بما تبقى من كرامته، فاستقل سيارة قائلاً لسائقها الكهل: " اذهب بي إلى جسر الملك حسين من فضلك" ...


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى