الأربعاء ٢٠ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٤
بقلم إدريس ولد القابلة

قضايا مغربية - القسم الثاني ـ المسلسل الديموقراطي ببلادنا...من أين....وإلى أين ؟

ـ التغيير، مطلب كان حاضرا بامتياز

الديمقراطية آتية لا محالة وإرادة الشعب لابد من أن تحترم.
هناك عدة تساؤلات شغلت الرأي العام ولاسيما الرأي الشعبي.
كيف يمكن النظر إلى ما يسمى بتطور المسلسل الديمقراطي ببلادنا؟ وهل الديمقراطية بدأت تمارس فعلا؟ هل هي في بدايتها ؟ هل هي في منتصف الطريق؟ وإلى أين تسير ؟ وماهي أهلية القوانين الجاري بها العمل حاليا في تعزيز المسار الديمقراطي ؟

ألم تكن فترة أزيد من أربعة عقود كافية للقوى الديمقراطية لكي تتقدم في إنجاز مهمتها الأساسية المتمثلة في إصلاح الدولة المغربية عبر إرساء قواعد دولة الحق والقانون ؟ فأين يكمن الخلل؟

لقد افتقرت السياسة السائدة ببلادنا وإيديولوجيتها إلى الأساس الديمقراطي سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. إن الاختيارات السياسية المعتمدة منذ الاستقلال كانت تفتقر للبعد الديمقراطي والمراقبة الشعبية. وتعمقت هذه الوضعية مع فرض حالة الاستثناء، ورغم المحاولات التي تلتها لإعادة تدشين المسلسل الديمقراطي عبر تحديث المؤسسات فإنها لم تسمح بسيادة الإرادة الشعبية وبالتقييد الديمقراطي للسلطة ومحاسبتها في ممارسة مسؤولياتها...وتراكمت الهفوات والانزلاقات والانحرافات في جو ساد فيه القمع والاستغلال والفساد مما أجل ممارسة التغيير الديمقراطي الفعلي.
إن السياسات المنتهجة عملت أساسا على تنمية امتيازات الأقلية على حساب السواد الأعظم لفئات المجتمع المغربي، ولم تنفع الحلول التقنية والروتوشات التقنوقراطية لأن الاختيارات مسندة على خدمة مصالح آنية ومستقبلية مرتبطة بتحالف طبقي سائد لم يسمح بإحداث تغييرات جوهرية لأن من شأنها إضعاف تلك المصالح وتقويض أساسها. هكذا كانت المؤسسات المنبثقة من الانتخابات لا ترقى إلى المستوى الضامن لتحقيق انطلاقة إرساء الديمقراطية لأنها ببساطة لم تكن سليمة المنشأ ولا تتوفر على سند شعبي إضافة إلى أن آليات وأدوات تدخل الدولة غير مدمقرطة لتكفل خلق فضاء ديمقراطي سليم.
ولقد ناضل الشعب المغربي نضالا مريرا من أجل إرساء أسس دولة الحق والقانون منذ فجر نضاله من أجل بناء المغرب الجديد، مغرب في مستوى تضحيات أبنائه الأوفياء الذين ضحوا من زجل ضمان أسباب العيش الكريم لمختلف فئات الشعب المغربي. ومنذئد والشعب المغربي يتلقى الانتكاسة تلو الأخرى. وإذا كان القضاء على الاستعمار المباشر قد تحقق فإن إرساء أسس الديمقراطية الحقة مازال موضع عدة تساؤلات إذا اعتبرناها أولا وقبل كل شيء مشاركة سياسية فعلية ومساهمة مجدية وفعالة في تدبير الشأن العام.

فالديمقراطية ليست مجرد ظاهرة للاستهلاك الخارجي فحسب، إنها قضية الإنسان الاجتماعية والاقتصادية في تدبير شؤون البلاد وبهذا المعنى مازالت الديمقراطية عندنا متعثرة.
لقد بدأت الدعوات الأولى للديمقراطية بالمغرب منذ الأربعينات إلا أنه ابتداء من الستينات أخذت النضالات من أجلها تتبلور نظريا كهدف ضمن استراتيجية على يد مفكرين وسياسيين ومناضلين من طينة المهدي بنبركة ومن تلوه، تسكنهم رغبة جامحة في تغيير الواقع الاجتماعي. وتطورت الحركة النضالية واتسع مداها بعد أن تحول الأمل في الاستقلال، لبلوغ التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية يستفيد منها الجميع، إلى خيبة من جراء تكريس واقع التخلف الاجتماعي والسياسي لأوسع الفئات الشعبية، وتفاقمت المشاكل الاجتماعية لاسيما إبان الأزمات الاقتصادية التي عرفتها البلاد.

وكانت المطالبة باستصدار الدستور بواسطة الجمعية التأسيسية باعتباره خطوة للانتقال من عهد الحكم الفردي المباشر إلى عهد سلطة المؤسسات ورغم كل الانعكاسات استمر الشعب المغربي بفضل قواه الحية في نضاله من أجل الديمقراطية كاختيار وباعتباره أداة وسبيلا ونهجا لبناء دولة عصرية. إلا أنه لم تكن الإنجازات التي تحققت على امتداد أربعين سنة بعد الاستقلال إلا تعبيرا جليا عن مصالح فئات اجتماعية تحققت لها السيادة عبر تحالف طبقي تصلبت مواقعه في إطار التبعية.

وابتداء من السبعينات عرفت البلاد احتدام الصراع الطبقي وظهر بجلاء فشل التنظيمات السياسية في قيادة الجماهير عبر التجدر وتوالت الانتخابات واستمرت البلاد في اجترار الأزمة وإعادة إنتاج نفس المشاكل الاقتصادية والاجتماعية مما أدى بالقوى الديمقراطية إلى تسليط الأضواء الكاشفة على ما يراد إخفاؤه والتعرية على الواقع المزري المعيش مؤكده على حاجة البلاد الماسة إلى ديموقراطية حقيقية وفعلية يمارسها الشعب عبر مؤسسات فاعلة منبثقة منه. ولا حاجة لنا للتذكير بن العمل الوحدوي للقوى الديمقراطية قد أثبت جدواه وأعطى جزء من أكله حيث أنه بفضله تم فرض فتح ملف الحريات العامة وإثارة إشكالية ضرورة ارتكاز الحكم على مؤسسات دستورية ذات مصداقية ومسوؤلية فعلية منبثقة من الشعب فاعلة في اتجاه خدمة مصالحه والدود عليها.

النضال الديمقراطي والارتقاء به إلى مستويات مكنت من تحقيق مكاسب كان ولازال مطلوب صيانتها، وهي في الحقيقة نضالات تعتبر امتدادا لحركة التحرير الشعبية من أجل بناء " مغرب الغد".

ولقد مضت أكثر من أربعة عقود من الصراع والنضال من أجل تحقيق شروط العيش الكريم لأوسع فئات الشعب المغربي ولازالت قواه لحد الآن، وأكثر من أي وقت مطالبة بالنضال لتحقيق ذلك. فإذا كانت أربعة عقود كافية لإخراج الاستعمار الأجنبي فإن نفس المدة لم تكن لم كافية لإرساء قواعد انطلاقة فعلية لمسلسل ديمقراطي حقيقي كفيل بتحقيق ظروف اجتماعية تضمن شروط العيش الكريم لأوسع فئات الشعب المغربي. هكذا يبين التاريخ أن النضال من أجل الديمقراطية أشق وأطول من النضال ضد المستعمر وهذا ما سبق وأن أكده أحد قادة جيش التحرير حين قال أن الثورة المغربية لم تستمر إلى نهايتها وكان ذلك نتيجة مؤامرة مدبرة لقطع الطريق عليها من جراء تلاقي والتقاء النيات الاستعمارية مع نيات الوصوليين الذين كانوا يستعجلون الوصول إلى أي حل كيفما كان".

وقد عرفت المسيرة النضالية تعثرات منذ نهاية السبعينات، ويعزو البعض هذا التعثر لتراجع دور ومساهمي الشباب في هذا النضال. بعدما كان الشباب المغربي على رأس النضالات مناديا بضرورة التغيير، موظفا قدرته على عدم الامتثال للتقليد والواقع المعيش وعدم اعتباره قدرا مقدورا، وقدرته على تحطيم الطابوهات وعلى البحث عن بدائل كفيلة بتخليص البلاد من أزمتها مضحيا في سبيل تحقيق ما يؤمن به من أفكار ومبادئ اعتبرها صالحة لبناء مجتمع جديد.

2 ـ الديمقراطية ممارسة قبل أن تكون خطابا

منذ الثمانينات أعلن بوضوح أن توجه البلاد هو توجه ليبرالي، وهذا ما ترجمته مختلف السياسات المتبعة، وهي سياسات ارتكزت على تعليمات صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، وتمحورت أساسا حول التصدي لعجز الميزانية على البحث عن توازن مالي عبر تقليص النفقات العمومية وتخفيض الاعتمادات المرتبطة بالقطاعات الاجتماعية وتقليص التوظيفات العمومية والتفنن في إثقال كاهل الجماهير الشعبية بالضرائب واقتطاعات مختلفة. ومع استفحال الأزمة تعاظمت البطالة حتى همت حاملي الشهادات العليا في ميادين ومجالات لازالت تشكو فيها بلادنا من العجز في الأطر ( مهندسون / أطباء / تقنيون..).

كما اعتمدت تلك السياسات المتبعة على الخوصصة سعيا وراء ضمان الانفتاح على الاقتصاد العالمي وفتح الأسواق وجعل قانون العرض والطلب هو المتحكم في ظل المنافسة والعولمة الاقتصادية، حيث بات الاستهلاك عالما مما أدى إلى سيادة " القانون الغابوي " لا يرحم الضعيف ويزيد من إثراء الثري وسيطرة القوي ويفقر الفقير ويقهر الضعيف.

ومن المعلوم أن الإمبريالية الأمريكية قد عملت على دعم التوجه الليبرالي المتوحش عبر العالم انطلاقا من متطلبات خدمة استراتيجيتها، فالعولمة والتحولات الدولية دفعها إلى البحث عن استمرار سياسي لضمان مصالحها البعيدة المدى عبر العالم الشيء الذي دعا إلى نهج إصلاحات الواجهة الديمقراطية.

ويعتمد البعض، في هذا الإطار أنه تم طرح ما يسمى باستحقاقات لضمان استقرار سياسي وسلم اجتماعي لاسيما وأن الأزمة كانت سائرة نحو الاستفحال آنذاك.
وظلت الأوضاع الاجتماعية تتميز بتقليص مداخيل الفئات الواسعة للشعب وضعف الأجور وارتفاع الأسعار وانخفاض القدرة الشرائية بل انهيارها، وتدني مستوى المعيشوالتبذير.بطالة واستمرار الأمية وتدهور الخدمات الاجتماعية ( تشغيل، تعليم، وتكوين، صحة، إسكان، ضمان اجتماعي..) وقد رافق هذه الوضعية امتهان لكرامة المواطن وانتهاك لحقوق الإنسان وتجاوز أحكام الدستور ومقتضيات القانون وفساد إداري وإمعان في مظاهر البذخ والبهرجة والتبذير.

وزاد الطين بلة مع الانتكاسة التي عرفها مسلسل إرساء الديمقراطية، لقد تم تغييب الرأي العام والرأي الشعبي على وجه الخصوص، لأن الحكومات السابقة كانت تتخوف منهما لأنها بكل بساطة كانت لا تعبر عن الإرادة الحقيقية للشعب الذي من المفترض أن تحكم باسمه، وكان منتظرا من الحكومة الحالية، حكومة التغيير أن تضع في حسبانها الرأي العام والرأي الشعبي، لكن يبدو أن الجبل تململ فأنجب نملة، ولازالت الملفات الثقيلة تنتظر من الحكومة الحالية الوفاء بعهودها ولو في مستوى حدها الأدنى. إن " الاستحقاقات" والتطورات التي رافقتها جاءت في ظروف تفاقمت فيها أزمة الرأسمال التبعي بالبلاد من جراء صيرورة العولمة وما صاحبها من هجوم على الاقتصاديات المحلية وكان المآل هو النفق المسدود في جو تنامت فيه الأنشطة الطفيلية المرتبطة بالمخدرات والممنوعات والتهريب، واستفحلت فيه مظاهر الفساد وانتشرت الرشوة وبرزت إشكالية حقوق الإنسان والمواطن بكيفية لم يسبق لها مثيل من قبل.

في هذا الجو العام أقدمت الكتلة الديمقراطية على تقديم تنازلات ساهمت بشكل كبير في فبركة خريطة سياسية مشوهة في إطار خيار التوافق والتراضي والقبول بالسلم الاجتماعي، وذلك في وقت يعتقد فيه البعض أنه لا زالت إصلاحات دستورية وسياسة مطروحة، حيث يعتبرون أن الدستور الأخير في حاجة إلى تعديل وإلى تطوير ليكون التشريع الأعلى المعبر عن المصالح الحقيقية لأوسع فئات الشعب والضامن لحقوقها ولمشروعية المؤسسات. لأن المصلحة العامة لهذه الفئات هي المصدر الأساسي المبني على تشريع دستوري يسعى لتحقيق الديمقراطية الحقة حسب اعتقادهم. لذا فإنهم يرون أن الفعل الديمقراطي الحقيقي ـ كما تطمح إليه الفئات الحية للشعب المغربي ـ مازال لم يتحقق بعد، ولازال هؤلاء يتساءلون حول تمكين مؤسسات المجتمع وضمان فعلها ومشاركتها في تدبير الشأن العام؟

هؤلاء يعتبرون أن التغيير أو الإصلاح، ليس مجرد رغبة أو وصفه إرادية معزولة عن مسار التاريخ وعن الشروط المعيشة. فالمشروع الديمقراطي هو كل لا يمكن تجزيئه، وحالما جزء فقد مضمونة، كما أن تجزيئه يؤدي لا محالة إلى نتائج سلبية ليس عل الجزء فقط ولكن على الكل، على المسار بكامله وهنا تتجلى المسؤولية التاريخية الجسيمة للقوى المناضلة من أجل الديمقراطية.

إن تقييم الممارسة الديمقراطية تنبع من مضمون وفعالية الممارسة على أرض الواقع المعيش لاسيما فيما يرتبط ببلورة القرار والمشاركة الفعلية في تدبير شؤون البلاد والشأن العام وضمان حقوق الإنسان والمواطن والحرص على احترامها، إن أي مشروع ديمقراطي هو ترسيخ للفعل الديمقراطي، ليس كفعل آلي لحظي ولكن كفعل يتجاوز الفاعلين الراهنين إلى فاعلين مرتقبين أو محتملين، إنه فعل يخص الحاضر والمستقبل، وأحيانا حتى الماضي ( المحاسبة والمساءلة )، وهذا هو المضمون الفعلي للنهج الديمقراطي ولأفق التغيير الديمقراطي الذي تطمح إليه طلائع الشعب المغربي منذ أمد.
ولازلنا نستشف من الدراسات والتحاليل الفكرية والسياسية والسوسيواجتماعية والاقتصادية التي تناولت إشكالية الديمقراطية ببلادنا أن التساؤل لازال قائما حول غياب أو حضور انطلاقة ديمقراطية فعلية، حيث يتحدث البعض عن نوع من " المعاندة التاريخية " في الساحة السياسية بحكم قوة التقاليد وصلابة العقلية السائدة على امتداد أكثر من أربعة عقود.

لكن هل فعلا توفرت الشروط الأساسية، الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لتدشين تحول نوعي بجعل البلاد تلح فعلا عهدا جديدا ؟

إن مهام التغيير الديمقراطي الفعلي لازالت مطروحة ولازالت تستوجب توحيد جهود القوى الديمقراطية لبلوغ مستوى يضمن الشروط لممارسة ديمقراطية حقة تتجسد في تدبير الشن العام من طرف الشعب بواسطة ممثليه الفعليين، وهذا التدبير يجب أن يشمل مختلف القضايا المرتبطة بالحياة اليومية الآنية والمستقبلية، كل ما يهم لقمة العيش والتعليم والصحة والشغل والسكن وظروف الحياة في الشارع والحي والمنطقة والمدينة والقرية والدوار والإقليم والجهة وموقع البلاد ضمن دول العالم، وإدارة وإعلام وميزانية وضرائب..لأن كل ما يحدث بالبلاد وبعلاقة مع البلاد هو من الشأن العام.

فالديمقراطية، وهذا معروف لذا الجميع، ليست مجرد رغبات وخطابات ودعاية إعلامية ومهرجانات وتنظيم لقاءات أو أيام دراسية، إنما قبل هذا وذاك ممارسة يومية والتماس نتائج على أرضية الواقع المعيش، إنها ليست فقط مجرد ضمانات منصوص عليها ضد السلطة التعسفية بل تشمل مختلف الضمانات لتوفير شروط العيش الكريم للمواطن، ضمانات دستورية وضمانات عملية وتوفير آليات فعالة لمواجهة الانحرافات وضمان سيادة الشروط للمشاركة السياسية الفعلية وضمانات اعتبار الصفة الإنسانية مهما كان الظرف ومهما كانت الصفة ومهما كان الرأي والموقف.

والديمقراطية ليست مجرد التعددية من أجل التعددية من أجل التعددية، فهناك من التحديدات ماهي مزيفة وشكلية وبهلوانية، فحتى ما يسمى بالديمقراطية التمثيلية أصبحت في ظل سلطة الرأسمال وعمولته لا تخدم مصالح الفئات الشعبية الواسعة لأن السبيل لخدمة هذه المصالح يمر بالضرورة عبر الارتباط الوثيق بالمواطن والاقتراب منه أكثر فأكثر لتجسيد ديمقراطية المشاركة والديمقراطية التداولية حرصا على خدمة مصالح وسع الفئات، ففي واقع الأمر تظل الديمقراطية غير مكتملة إذا هي لم ترتكز على أساس فعل ديمقراطي متجسد سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، غذ أنها بدون هذا لفعل لا يمكنها أن تتجاوز نطاق حدود ما سمي " الديكتوقراطية".

3 ـ تحقيق الطفرة...ضرورة تاريخية

من المفروض على المغرب أن يلج عهدا جديدا، وهذا ما ظهرت بوادره، إلا أنه ما زالت ضرورة تحقيق الطفرة لأنها ضرورة تاريخية تفرضها الضرورة التاريخية وتفرضها طموحات الشعب المغربي ومسيرته النضالية ويفرضها الوفاء لتضحيات الشهداء من أجل مغرب حر يضمن العيش الكريم لأبنائه. وباب تحقيق هذه الطفرة هو تكريس الديمقراطية الحقة، فلا خيار لنا، ولا مناص من دعم انطلاقة مسار ديمقراطي حقيقي لأن استمرار غياب الديمقراطية الفعلية والفعالة يدفع المجتمع نحو الآفاق المسدودة المعيقة لنموه وتقدمه وفقدان طابعه الإنساني ويجعله خارج الركب الحضاري مهما تعددت الروتوشات لتحسين الواجهة. فالديمقراطيات الحقة في عصرنا الحالي اختيار لا مفر منه ومسار لا رجعة فيه، وغيابها شكل السبب الرئيسي والأساسي لكثير من المشاكل التي عرفتها البلاد من توتر واحتقان وعرقلة التقدم ونشدان التطور الجدير بها اعتبارا للتاريخ النضالي للفئات الشعبية واعتبارا للتضحيات الجسام لأبناء الشعب الأفذاذ الذين قضى بعضهم نحبه في ركح النضال من أجل خير هذا البلد وسموها.

لقد كان النضال الديمقراطي ولا زال معدنا لطاقات النضال والتعبئة للفعل حاضرا ومستقبلا لأنه هو الكفيل بخلق خلخلة ورجة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية لضمان الأداء الديمقراطي الكفيل بالإرساء الفعلي لصيرورة تصليب بنيات دولة الحق والقانون على مستوى الممارسة والعقلية ونهج التعامل والفعل في فضاءات المجتمع السياسي والمجتمع المدني. وقدر بلادنا حاليا مرهون بالديمقراطية الحقة لأنها شرط أساسي وحيوي لأية تنمية مجدية في كل المجالات والميادين، لأنه لا يمكن تقوية الفعل السياسي وتأطير المجتمع المدني دون ديمقراطية حقة ودون فعل ديمقراطي حقيقي. فالتنمية تتطلب انخراط الإنسان وإدماجه لضمان تفاعله ولن يأتي ذلك إلا بإقرار ديمقراطية حقة. فلازالت هناك ضرورة تاريخية ملحة للنضال من أجل إنجاز إصلاحات دستورية وسياسية لتوفير إمكانية تأسيس قواعد دستورية وقانونية مناسبة فعلا للتطور السياسي للبلاد وتضمن الانتخابات ذات مصداقية كفيلة بإقرار مؤسسات منتخبة معبرة فعلا عن اختيارات أغلب فئات الشعب المغربي تنبثق منها حكومة منسجمة ذات الإرادة والكفاءة اللازمتين لتحقيق برنامجها مستعدة للمحاسبة والمساءلة بصدده.

وبن يأتي هذا إلا عبر المزيد من الإصلاحات الكفيلة بتوسيع اختصاصات البرلمان وآليات تشكيله وتمكين الوزير الأول من السلطات اللازمة لتحمل مسؤولياته كمسؤول أول في الحكومة وتمكين المنتخبين من الممارسة الفعلية للديمقراطية المحلية والجهوية عبر إعادة النظر في اختصاصات العمال والولاة والإدارة المحلية وتمكين الهيئات المنتخبة المحلية والجهوية من الرشد عبر تخليصها من مقتضيات الوصاية المكبلة للممارسة الفعلية لمسؤولياتها السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية.

إن سيادة الانتهازية واستغلال الظرفية لا يعود إلى غياب فعالية المجتمع المدني القادر على محاسبة ومراقبة النخب السياسية، ولا إلى غياب قواعد الشفافية والمسؤولية الواعية في قدرة المواطن السياسية على اختيار من ينوب عنه في تدبير أمور البلاد عبر التعبير عن همومه وطموحاته فقط، وإنما يعود كذلك إلى ضعف التأطير السياسي وسكون الأحزاب السياسية وهشاشة التجدر السياسي وسط الجماهير لاسيما في البادية وانفصال التنظيمات السياسية الديموقراطية عن هموم المجتمع الفعلية. وهذا ما يفسر إلى حد كبير عدم قدرتها على بلورة حركية مجتمعية قوية وضاغطة.

وهناك قضية مطروحة منذ السبعينات وهي أن التغيير يستوجب توحيد القوى العاملة من أجله والهادفة إليه، ولقد بينت التجربة أن النضال من أجل التغيير يستوجب توحيد القوى العاملة من أجله والهادفة إليه، ولقد بينت التجربة أن النضال من أجل التغيير الحقيقي لا يشترط أي توحيد أو أي تكتل وإنما يشترط بالدرجة الأولى توحيدا وتكتلا مبنيا على تقارب الرؤية في العمل والدور وأساليب دعم صيرورة التغيير المنشود. وليس هناك من ضمانة للتصدي للانحرافات والنواقص والعيوب إلا بالنضال الواعي واكتشاف أنسب الأساليب النضالية الحضارية الملائمة للظرفية وللمرحلة وللملابسات الاجتماعية وهذه مسؤولية القوى الديمقراطية حاليا.

فالديمقراطية الحقة لن تتحقق بدون وحدة صفوف القوى الديمقراطية، فلا ضمانة لاستمرار النضال من أجل دعم المسار الديمقراطي الفعلي ولا ضمانة لقدرته على تحقيق الأهداف المتوخاة دون تحالف القوى الديمقراطية، ولن يكتب النجاح لهذا التحالف إلا بالانفتاح على حركية المجتمع المدني وهموم أوسع الفئات ومشاركتها الفعلية والفعالة لأن قيمة التحالفات وفعاليتها لا تكمن في البيانات والمواثيق والبلاغات والاتفاقات بل تكمن أساسا في الارتباط بالفئات والفعاليات المعنية الأولى بالقضية الديمقراطية وبضرورة التغيير. وهذا الارتباط هو الذي يعطي قيمة للبيانات والمواثيق والبلاغات والاتفاقات والتصريحات وليس العكس.

وهذا يستوجب مشروعا مجتمعيا يساهم في إرساء انطلاقة جديدة لمسلسل ديمقراطي ديناميكي فعال وفاعل كفيل بإخراج البلاد من دائرة الركود الذي تعيشه حاليا.

الـسـيـاسـة و مـكر الـسيـاسة….! مـدخـل لـطـرح الإشكـالـية بـبـلادنـا

يقال أن السياسة الحقيقية هي سياسة الحقيقة لكن السياسة الحقيقة تستوجب أولا وقبل كل شيء الواقعية و الجرأة على تعرية الأمور بشفافية و القدرة على كشف المستور وتسليط الأضواء على مناطق الظل .

و انطلاقا من هذا المنظور يقال أن السياسة هي فن ممكن، لكن هذا الممكن يجب أن يكون في إطار سياسة الحقيقة و إلا دخلنا في نطاق مكر السياسة عندما نغلف الممكن اعتمادا على إبعاد كل ما ليس مرغوب في تحقيقه بدعوى عدم الإمكان وهذا حال بلادنا على امتداد سنوات طوال وقد برز مكر السياسة على مختلف الواجهات سيما فيما يخص واجهة الديمقراطية وواجهة الاقتصاد.
فمنذ الثمانينات توجه المغرب حول التصدي للعجز المالي في الميزانية العامة من أجل التقليص من النفقات العمومية بإلغاء بعض أبواب الميزانية وتقليص عدد الموظفين العموميين والمأجورين مما نتج عنه بطالة انضافت جز المالي في الميزانية العامة من أجل التقليص من النفقات العمومية بإلغاء بعض أبواب الميزانية وتقليص عدد الموظفين العموميين والمأجورين مما نتج عنه بطالة انضافت إلى البطالة القائمة في وقت مازالت تشكو فيه البلاد من الخصاص في الأطر )مهندسون / أطباء/ تقنيون… كما تم الاهتمام بالتصدي إلى التضخم نظرا لتأثيراته على التجارة الخارجية.
وفيما يتعلق بالضرائب، من المعروف أنه من مبادئ الليبرالية تخفيض الضرائب ، في حين عرفت البلاد تصاعدا مستمرا للثقل الضريبي.
كما تم اللجوء إلى خوصصة مقاولات الدولة بطريقة لم يستنتج منها الشعب شيئا يذكر . وفي اختيار الطريق الليبرالية تأرجحت بلادنا بين النظرة الأنجلوساكسونية المتوحشة، على الطريقة الأمريكية والإنجليزية ، وهما نظامان يتميزان بقوة القطاع الخاص المتمركز أساسا على اقتصاد شركات عملاقة ومتعددة الجنسيات الراغبة في الهيمنة على الاقتصاد العالمي . والنظرة اللاتينية ، على الطريقة الأوربية فرنسا، ألمانيا والتي تجعل مسألة التضامن الاجتماعي هاجسا اقتصاديا بالدرجة الأولى يتفاعل فيه عنصران مهمان : القطاع الخاص والدولة.
هذا فيما يخص الاقتصاد، ومكر السياسة بارز فيه بامتياز أما فيما يخص تجليات مكر السياسة على صعيد المسألة الديموقراطية ،فمن المعروف أن الانتخابات ، في حالة تزويرها ، يمكن أن تكون وسيلة لإخفاء الإكراه والتستر على القمع ، كما يمكنها أن تكون وسيلة لمحاولة التوفيق بين جوهر سياسي محدد مسبقا ومؤسسات شكلية تنازع الجوهر وهناك كذلك يبرز مكر السياسة.
إن النظام الملكي المغربي نظام مركزي مفتاحه هو الملك. فالمغرب يتوفر على تقليد خاص للحكم والدولة. فالملكية المغربية لم تكن نتاجا لمرحلة تاريخية حديثة، وإنما نتاج لشرعية تاريخية ثقافية وشعبية، كما أن السلطة المركزية ببلادنا ليست نتاج حديث ، إن تاريخها يمكن أن يعود إلى الأدارسة وشرعيتها هي شرعية : تاريخية ودينية، كما أنها شرعية سياسية وشعبية لأنها مبنية على البيعة وقد عرف النظام الملكي المغربي بعض التحديات، حيث أصبح نظاما نيابيا ثنائيا مجلسين وتم إقرار تنظيم جهوي، وتحديث بنيات المخزن.
وبهذا المنظور تكون المحاكم ليس لتجريم الناس ولكن لمساعدتهم على استعادة حقوقهم والدفاع عليها وليس العكس .
والحكومة في النظام المغربي، هي حكومة عاهل البلاد اعتبارا لصلاحياته الدستورية، واعتبارا لأن الاختيارات المجتمعية الكبرى يحددها الملك والحكومة تعمل على ترجمتها وتجسيدها. والاختلاف الحاصل يكون اختلافا حول سبل تنفيذ البرنامج الحكومي الذي يستمد أسسه من التوجيهات الملكية.
في بداية القرن الماضي كان النظام القائم نتاجا لبنية سياسية واجتماعية. تتميز أساسا ببروز تحالف بين الأعيان الحضريين والقواد الكبار بالبوادي، واستطاع هذا التحالف السيطرة على القبائل استنادا على الدين لتبرير سيطرته وإضفاء لباس الشرعية على امتيازاته المحققة على حساب السواد الأعظم لسكان البلاد. وازداد هذا التحالف قوة بارتباطه الموضوعي مع الرأسمال الأوربي، الشيء الذي سهل تغلغل الاستعمار ببلادنا.
ومنذ الوهلة عمل الاستعمار على تحطيم البنيات القبلية الجماعية، وذلك بمساعدة القواد الكبار، وهذا ما أدى إلى التقارب بين القصر والحركة الوطنية لضمان دور الملكية في البنية الأساسية.
وفي الخمسينات، نظرا لتصاعد المقاومة في المدن والبوادي اضطر الاستعمار لتعديل مشروعه وإعادة النظر في بتحالفاته في إطار نظام رأسمالي تبعي كحلقة في الاستعمار الجديد وهكذا اعتمد الرأسمال الأوروبي على فئة من الوسطاء والسماسرة لإرساء قواعد نظام رأسمالي تبعي بالمغرب.آنذاك حركة المقاومة والحركة الوطنية وقد اتضح أنه لم يكن من الممكن إعادة هيكلة السلطة إلا عبر تدجين الحركة الوطنية والتخلص من جيش التحرير الذي أكد على ضرورة استمرار المقاومة إلى حد تحقيق الاستقلال الكامل.
وقد ساعد التطور الرأسمالي التبعي على خلق سوق داخلية مرتبطة بالمركز على حساب مصالح الجماهير الشعبية ولفائدة توطيد العلاقات بين البورجوازية الكمبروادورية والملاكين العقاريين الكبار. ومنذ الإعلان عن الاستقلال السياسي بدأت سلطة الكمبرادور والملاكين العقاريين الكبار تتهيكل وتتقوى ، ومما سهل هذا المسار إجهاض استقلال فعلي تجسيدا لطموحات ، الجماهير الشعبية السياسية آنذاك – حركة المقاومة والحركة الوطنية وقد اتضح أنه لم يكن من الممكن إعادة هيكلة السلطة إلا عبر تدجين الحركة الوطنية والتخلص من جيش التحرير الذي أكد على ضرورة استمرار المقاومة إلى حد تحقيق الاستقلال الكامل .
وقد ساعد التطور التبعي على خلق سوق داخلية مرتبطة بالمركز على حساب مصالح الجماهير الشعبية ولفائدة توطيد العلاقات بين البورجوازية الكمبروادورية والملاكين العقاريين الكبار وهيكلة سلطتهم مستفيدين بالأساس من سياسة الوحدة الوطنية وهذا وجه من وجوه المكر السياسي واغتنام لتحطيم التنظيمات السياسية المعبرة عن مطامح أوسع الفئات الشعبية والمدافعة عنها .
وقد توجت هذه الفترة بانفراد القصر بالحكم .
فمن النتائج الأولى لاتفاقيات ايكس ليبان إرساء حكومة تابعة للاستعمار، مضمونة غالبيتها من الفئات المرتبطة به: عناصر من المخزن و البيروقراطية العصرية رغم ضمها بعض الأفراد من الحركة الوطنية، وقد كانت حكومة ائتلافية، طرفها الأول يدافع عن مشروع وطني و الطرف الثاني معادي لهذا المشروع، يمثل كبار الملاكين وكبار التجار المستفيدين من التغلغل الرأسمالي ببلادنا. وقد استطاع تحالف كبار الملاكين و التجار وبيروقراطية الدولة – الكمبرادور – إقصاء العناصر المنحدرة من الحركة الوطنية للانفراد بالسلطة منذ فجر الستينات.
وفي ظل هذه الظروف ساهمت البنية الاقتصادية التبعية في سيرورة تحويل الملاكين العقاريين الكبار إلى مضاربين في مجالات و ميادين مرتبطة بخدمة وتنمية المصالح الإمبريالية، كما ساهمت في تعزيز وتقوية البرجوازية الكمبرادورية في إطار التبعية للإمبريالية. هكذا تشكلت كتلة حاكمة بتوحيد مصالح و مصير البرجوازية الكمبرادورية في إطار التبعية للإمبريالية. هكذا تشكلت كتلة حاكمة بتوحيد مصالح ومصير البرجوازية الكمبرادورية المتوسطة الصاعدة التواقة إلى تأسيس نظام برجوازي عصري.
ومنذ 1962 انفردت الكتلة الحاكمة بالسلطة بدءا بدستور 1962 و إقامة مؤسساته بعد تنحية أحزاب الحركة الوطنية وبذلك تكرست هيمنة كبار الملاكين العقاريين و حلفائهم البرجوازية الكمبرادودية وبيروقراطية الدولة. فمع بداية الستينات واجهت الكتلة الحاكمة الصراع السياسي بالقمع الممنهج كأسلوب للتصدي ومواجهة الحركات النضالية الجماهيرية، ومع احتدام الصراع السياسي و الاجتماعي وتصدع أجهزة الحكم عمدت الكتلة الحاكمة إلى محاولة احتواء الفئات الوسطى عبر اتخاذ إجراءات اجتماعية تهما – توزيع جزئي لبعض الأراضي المسترجعة، خلق قاعدة وجود فئات وسطى اقتصاديا- إلا أن ذلك حدث في وقت ارتكز فيه التطور الرأسمالي التبعي على آليات الاقتصاد المغربي، بواسطة المديونية و الارتباط الوثيق بأسواقها، الشيء الذي عاق كل إمكانية تطور صناعي، و كانت النتيجة فتح المجال لاستثمارات طفيلية و تعزيز سيطرة البرجوازية الكمبرادورية على المؤسسات المالية و الصناعية بواسطة – المغربة – التي سمحت لبعض عناصر البرجوازية الكبرى غير الاحتكارية و فئات عليا من البرجوازية الكمبرادورية.
وفي بداية السبعينات انطلق حماس كبير مع المخطط الخماسي 1973-1997 اعتبارا لعوامل ظرفية ارتبطت بإعادة قسمة العمل بين المركز و الدول التابعة له وتزامن ذلك مع ارتفاع أسعار بعض المواد الأولية المصدرة و التراكم الذي حققته البرجوازية الكبرى. إلا أنه سرعان ما غابت تلك العوامل فتحول الحماس المفرط إلى خيبة أمل، واضطرت البلاد إلى فرض مخطط التقشف ) 1978-1981 ( و الخضوع للبنك الولي وصندوق النقد الدولي و اعتماد توجيهات الرامية إلى إلى تحقيق التوازنات بأي ثمن و تطبيق سياسة حقيقة الأسعار و السماح لقوانين السوق بالقيام بدورها بحرية و لو على حساب السواد الأعظم للسكان. آنذاك اتضح بجلاء أن أزمة البلاد أزمة هيكلية مرتبطة أساسا بالتبعية اللامشروطة للأسواق الإمبريالية و تعمقت الأزمة أكثر بفعل الطابع الطفيلي و الريعي للكتلة السائدة و هذا الطابع لم يسمح حتى بتحقيق درجة مرضية من التطور الرأسمالي التبعي على علته.
فعلى امتداد السبعينات كانت قوى اليسار في صراع ضاري مع النظام وقد تزامنت تلك الفترة مع المرحلة السوداء من تاريخ البلاد.

وساد القمع بمختلف أساليبه و ألوانه، ساد التهريب و التهديد و الاختطاف و نشر الرعب بين فئات الشعب هكذا انقسم البلد إلى فريقين كبيرين، فريق موالي للنظام مدافع عنه وفريق مناهض بمختلف الوسائل المتاحة الفكرية و السياسية و الثقافية و الاجتماعية و النضالية، ومع تفاحش الأزمة و اتساع مظاهرها و تمظهراتها وتكاثر انعكاساتها عملت قوى اليسار على استثمار السخط الجماهيري الظاهر على صعيد الركح المجتمعي. وهذا ما هيأ جملة من الشروط لخوض نضالات طويلة النفس وواسعة المدى، الشيء الذي خلف عدة ضحايا – استشهاد، اعتقال تعسفي اختطاف، ونفي قسري…-.
ومع بداية الثمانينات شرع في تطبيق سياسية التقويم الهيكي كبديل للخروج من النفق، لكن الواقع المعيش أظهر بجلاء النتائج الوخيمة سواء على الصعيد الاقتصادي أو الاجتماعي، و بالرغم من السخط الجماهيري، الواسع عليها، ظلت استراتيجية التنمية تعتمد على التصور الليبرالي المتوحش المفروض من طرف البنك الدولي المعبر الصادق و الراعي الأمين لمصالح الرأسمال الغربي والشركات و البنوك المتعددة الجنسيات.
فحين بلغت أحدات أروبا الشرقية بدأت تظهر مضاعفات أزمة الخليج و الحرب الحضارية الأولى على الصعيد العالمي و العربي و الوطني و اتسع الاهتمام على المستوى الداخلي بقضايا حقوق الإنسان و برز صراع سياسي بين أحزاب المعارضة و الكتلة الحاكمة مما دفع إلى اعتماد خطاب الانفتاح بالنسبة للأولى و عملت المعارضة للضغط لتقوية موقعها استعداد للتغييرات البادية بشائرها في الأفق آنذاك. هكذا و منذ منتصف التسعينيات بدأت مطاردة بعض الموظفين الساميين أصحاب القرار بل تجريمهم أحيانا، إلا أن الذين كانوا وراء هذه الحملة تناسوا أنهم هم كذلك أصحاب ملفات ضخمة وثقيلة.
وبعد توالي الاخفاقات و تزايد استفحال الأزمة بدأت الديمقراطية تفرض نفسها، كأولوية الأولويات و كسبيل للخروج من النفق، لكن شريطة احترام الثوابت و نبذ أساليب العنف و نهج طريق المساهمة و المشاركة في اللعبة السياسية عوض المواجهة و التصدي. آنذاك برزت على السطح ملامح السلم الاجتماعي و السياسي واعتماد الحوار.
إن الكتلة الحاكمة هي من ائتلاف بين الملاكين العقاريين الكبار البرجوازية الكمبرادورية والمسيطرين على المؤسسات المنتجة للدولة. فعلى امتداد سيرورة تكون تلك الكتلة الحاكمة تقوت ضمنها فئة من ذوي الامتيازات المخزنية و البيروقراطية، استفادت من مواقعها ضمن مختلف المؤسسات، و كانت هي الأكثر استفادة من السياسات المتبعة إضافة للمصالح الاقتصادية و المالية التي وفرتها لها البنية الرأسمالية التبعية. وقد ساهمت هذه الفئة في توسيع مجال الفساد الإداري ومناهضة عصرنة الحياة الاقتصادية.
إن طبيعة تلك الكتلة لم تكن لتدفعها للاهتمام بالإنتاجية أو تطوير أساليب العمل و الإنتاج و التفكير في إرساء الانطلاقة للاهتمام بالتكنولوجيا. وطبيعتها هاته جعلتها تناهض أي إصلاح زراعي يسمح بنمو سوق داخلية من شأنها إعطاء دفعة لتصنيع فعلي، كما جعلتها طبيعتها تكتفي بالمضاربة في مختلف الميادين ) العقار، التجارة، المال، الوساطة…( واستغلال أموال الدولة لفائدتها) صفقات، امتيازات متنوعة…(، وجعلتها كذلك تتملص من المشاركة في عبئ تكوين ميزانية الدولة، و ذلك من جراء الإعفاءات الضريبة أو التملص من أدائها. علاوة على أن طبيعتها الربيعية المضارباتية،و الطفيلية جعلتها تشجع مختلف أنواع الفساد و تهريب الأموال إلى الخارج، الشيء الذي جعلها لا تساهم بترويج أموالها بالداخل بطريقة.
وكل هذا جعل أسباب الأزمة الاقتصادية و الاجتماعية تعمق على امتداد سنوات بموازاة مع ذلك لم تظل الكتلة الحاكمة مكتوفة الأيدي و إنما عملت بمختلف الوسائل على التوغل في النسيج الاجتماعي و الاقتصادي و السياسي، كما نجحت في استمالة جملة من الفعاليات التي كانت محسوبة على المعارضة لجانبها.
و ظلت نقط قواها هي السيطرة على الأجهزة الأمنية و الاستحواذ على الجهاز الإداري و على ممتلكات الدولة و استغلالها لخدمة مصالحها و تحويل المؤسسات التي من المفترض التعبير عن طموحات الشعب إلى آليات تكرس سيطرتها على المجتمع .
إن السيرورة التي عرفتها بلادنا سهلت إقصاء الحركة الوطنية من المناصب الحساسة في الإدارة المغربية و مواقع القرار، علاوة على أن القواد الذين تحالفوا مع المستعمر، مؤقتا ظلوا يشكلون سياسة استطاعت مراقبة البادية المغربية وإقصاءها من الدائرة السياسية و ذلك من وعي اعتبار للقوة التي يمكن أن تشكلها.
لقد عملت الإيديولوجيا السائدة على إقحام الليبرالية في خطابها، لا سيما على المستوى الاقتصادي مع مراعاة درجة كبيرة من التحفظية على المستوى السياسي و الاجتماعي.
هكذا كانت تستند على الإسلام و الليبرالية المتوحشة، فبعد الدفاع عن تدخل الدولة تم تحويل الاتجاه ب 180 درجة لتبني الليبرالية المتوحشة، فغالبا ما كانت الإيديولوجية السائدة تعتمد على الظرفية و الديماغوجية و بناء الخطاب على مجموعة من الأفكار و الشعارات البراقة، والاستفادة على منهجية تقنوقراطية، وهي منهجية تعتبر أنه من الممكن حل المشاكل باللجوء إلى أخصائيين دون إشراك و مشاركة المواطنين سواء مباشرة أو بصفة غير مباشرة.
ومنذ فجر التسعينات تقوى الخطاب المرتكز على الليبرالية و الانفتاح ومفهوم المتوسطية و التعاون الأرومتوسطي و الحوار العربي الأوروبي.
المخزن مؤسسة فاعلة في المجتمع المغربي، لها آلياتها و منهجيتها و عقليتها و أساليبها، و كان دائما و زير الداخلية الحجر الزاوية للعقلية المخزنية.
فالمخزن كان – وربما لا زال – رديف الهيبة – و الاستبداد و القمع و تمييع الحياة السياسية.
و هذه العقلية تعتبر كل إنقاد للواقع و المطالبة بتغييره قضية أو إشكالية تمس بهيبة الدولة، و هذا منطقي، ما دامت العقلية المخزنية تستمد قوتها بالأساس من القمع و التهريب. و كانت توكل هذه المهمة لرجال السلطة و رجال الأمن.و من هنا يبدو و بجلاء أن ما يميز دولة المخزن عن دولة المؤسسات هو أن هذه الأخيرة تكسب هبتها من مشروعيتها و من الثقة القائمة بين الحاكمين و المحكومين. فكيف يعقل، في إطار دولة المؤسسات، استغلال طاقات رجال السلطة في الإخبار و الاستخبار و التجسس على عباد الله و العمل على تكريس هيبة مصطنعة للمخزن ممارسة و تعاملا. وليس هذا بالغريب، فقد استطاع المخزن في الفترات السابقة خلخلة المجتمع و مكوناته بفعل القمع الممنهج لبلوغ هدف التحكم في الأمن السياسي.
فأما أصبح جهاز الدولة المخزني معبرا و حاميا لمصالح التحالف الطبقي البائد شكل عرقلة في وجه مسار تطورات مرحلة – ما بعد الاستعمار الجديد-. هكذا عملت المؤسسات الإمبريالية،و من ضمنها البنك الدولي على فرض بعض التغيرات لمحاولة لجم النضالات الجماهيرية و إعادة إرساء جو الاستقرار لضمان مصالحها، إلا أن هذه التغيرات لم تمس و لو قيد أنملة من الطابع المخزني للدولة، لذا اعتبر البعض أن المخزن لا زال يعتبر من العناصر المعرقلة لإرساء أسس بناء ديمقراطية حقة.
إذن، المخزن عقلية و نهج قبل أي آخر…إنه عقلية و نهج لمنظومة كانت تدبر الشأن السياسي للبلاد عبر التفرقة و تأجيج التعارضات بين مختلف القوى السياسية في ظل غياب قواعد واضحة و شفافة لتنظيم اللعبة السياسية. و الآن أضحى الوعي حاضرا بضرورة تغيير هذا النهج عبر تمكين المؤسسات الدستورية من القيام بالدور الموكل لها كاملا في ظل السيادة التحكمية للمؤسسة الدستورية من القيام بالدور الكامل لها في ظل السيادة التحكمية للمؤسسة الملكية.
و على الحكومة أن تحكم و البرلمان أن يشرع و الجماعات أن تضطلع بمسؤولياتها كاملة غيرمنقوضة دون وصاية و أن يكون القضاء نزيها مستقلا.
لقد كان يقال إياك من ثلاثة : النار و البحر و المخزن، إنها نصيحة يعطيها الآباء للأبناء، لكن الأمر كان لابد أن يتغير مع إقرار مبدأ دولة الحق و القانون، و هو مبدأ يجعل كل المغاربة سواسية أمام القانون، و هو مبدأ يجعل كل المغاربة سواسية أمام القانون،و المخزن و رجاله ليس فوق القانون و إنما تحت و طأته، لذا أصبح من المفروض تكريس روح المواطنة التي لن تستقيم باستمرار و جود الحذر كلما تعلق الأمر بالتعامل مع المخزن.
و نافل القول أن هناك من يطالبون بإصلاح حقيقي، و هناك من يطالبون بإصلاح حقيقي، و هناك من يريدون ترك دار لقمان على حالها بعد إدخال بعض الروتشات،و الذين يطالبون بإصلاح حقيقي يريدون للبلاد أن تنتقل من نظام الريع و الامتيازات و المحسوبية و الزبونية و تمركز الخيرات بين أيدي كمشة من سكانها، إلى نظام عادل في توزيع الثروات محترم لحقوق الإنسان و مؤسسا لدولة الحق و القانون و دولة المواطنة. و هذا الانتقال له طريق واحد لا ثاني له ،و هو الذي يمر عبر إصلاحيات سياسية و دستورية حقيقية.
و هؤلاء يدفعون في اتجاه إقرار نظام ملكي برلماني ديمقراطي.

و كنموذج ندرج آخر بيان لجماعة العدل و الاحسان أصدرته بعد تصريح وزير العدل المرتبط بملف أحداث 16 مايو بالدار البيضاء المعروض على أكثر من محكمة بالبلاد حيث جاء في البيان المذكور ما يلي

تناقلت وكالات الأنباء و الاذاعات ما طلع به على المغاربة وزير العدل محمد بوزبع في ندوته الصحفية يوم الأربعاء 6 غشت 2003 بخصوص المتابعات و المحاكمات التي تلت التفجيرات الاجرامية بالبيضاء. و قد أحدثت بعض تصريحاته تشويشا لدى المواطنين و المتتبعين السياسيين و الاعلاميين للساحة المغربية, حيث أقحم اسم جماعة العدل و الاحسان اقحاما في الموضوع, و ادعى أن 120 من أعضاء الجماعة اعتقلوا في سياق الأحداث, و هو ادعاء بعيد كل البعد عن الصحة و لايشرف حكومة تزعم الشفافية و الوضوح, بل لا يشرف جهازا المفروض فيه النزاهة و الصدق و تحري الحقيقة بكل قوة.
و للتدكير فان الحالتين الوحيدتين اللتين توبع فيهما أعضاء من جماعة العدل و الاحسان في حالة اعتقال هما ما تم في مدينة تطوان في حق الأستاذ عيسى أشرقي عضو مجلس الارشاد و الأستاذ أحمد حجيوج خطيب جمعة بمدينة المضيق, و نشير الى أن الحالتين معا كانتا بايعاز – كما صرحت الشرطة المعنية وقتها- من والي المدينة و هو كما لا يعلم كثير من الناس من حزب الوزير الساهر على العدل ( الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية), و قد تمت تبرئة الأستاذين معا مما نسب اليهما و أطلق سراحهما و أيقي على غرامات مالية حسابها معروف !!
و جاءت بعد ذلك متابعة الأستاذ عمر أمكاسو نائب الأمين العام للدائرة السياسية للجماعة في حالة سراح بسبب تصريح صحفي. أما ما سوى ذلك فهي اعتقالات كانت تتم في اطار مجالس النصيحة, مجالس تربوية لذكر الله و تلاوة القرآن و قيام الليل. و كان الاخوة المعتقلون يفرج عنهم مباشرة بعد الاجراءات الروتينية من التعرف على الهوية...

فهل تصريح وزير عدلنا غلط أو مغالطة للرأي العام الداخلي و الخارجي وراءها مكر سياسي تغذوه حسابات حزبية عفى عليها الزمان؟

نرجو ألا يكون الأمر وصل الى هذا الدرك, كما نرجو أن يكون تدبير قضايا من هذا الحجم في مستوى يرتفع عن الحزبية المقيتة التي جنت – من بين ما جنا- على المغرب لعقود متتالية./.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى