الجمعة ١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٤
بقلم ياسمينة صالح

قليل من الشمس تكفي

طال الوقت وأنت تقف أمام المرآة مغمض العينين .. لا تجرؤ على فتحهما .. لم تنظر إلى وجهك في المرآة منذ دهر .. منذ اكتشفت أنك مشوه الملامح، بعد أن اكتشف الناس هذه الحقيقة قبلك ..
وأنت المجنون أيضاً .. هكذا تقول نظرات والدك كلما التقت بنظراتك، لكنك لم تشعر قط أن من واجبك التغير كي تتغير الأشياء حولك .. ولم يكن الأمر يعنيك تماماً، كأن البشاعة والجنون صفتان تساعدانك على التحرك دونما القيود التي تحدد حركة " العقلاء " حولك .. كنت مقتنعاً بذلك، بحيث كانت الخيـوط التي تشدك إلى البيت والقرية والناس والعالم، تتقطع تدريجياً، ولم يكن يعنيك ذلك أيضاً .. غير أنك آمنت منذ البداية بوجود قوة خارقة وغامضة تشدك إلى الخلف، وتجبرك على الخضوع .. والقبول بالمخيبات كالمسلمات .. أكانت أمك ؟

بالنسبة إلى الآخرين، كنت رمزاً للبشاعة والتشويه، لم يع أحد أنك إنسان سوي تملك عالماً جميلاً كأي إنسان آخر، ولم يضايقك عدم اكتراثهم .. بل على العكس تماماً .. كنت تشعر أنك أكثر حرية منهم جميعاً .. حراً من كل العقد التي تتحكم في مصائرهم باسم القانون والواجب والمنطق .. سمح لك هذا بامتلاك العديد من الأسرار .. كانت العلبة الخشبية أول ما ملكت يداك .. أخفيتها عنهم جميعاً وكنت حريصاً على سرية مكانها، ولكن ... اللعنة وعالمك خطان متوازيان .

اكتشف أبوك العلبة .. أخذه الفضول إليها وعندما فتحها صاح مذعوراً .. لحظتها فقط، شعرت بالحزن والانكسار وأنت ترى الصراصير الصغيرة التي تعبت في جمعها، وفي التآلف معها، وهي تركض في كل اتجاه من الغرفة، دون أن تقوى على شيء .. يومها، رأيت في عيني أبيك التهمة / الحكم .. ولم يكن يعنيك ذلك .. كيف تعرف من الأول أنك لا تشبه إخوانك الكادحين في حرث الأرض، المنتظرين سقوط الغيث .. إخوانك الذين إذا عادوا في المساء خائبين، لعنوا الأرض ووجهك النحس .. كنت تهرب منهم جميعاً، وتلجأ إلى شجرتك العتيقة .. تتسلقها وتراقب العالم من الأعلى .. كنت ترى بوضوح من الأعلى ما لا تقدر على رؤيته أو فهمه من الأسفل ..

واليوم ؟ مغمض العينين أنت .. مجرد نظرة .. نظرة واحدة فقط إلى المرآة، ثم بعد ذلك تفكر فيما قاله إخوانك ليلة البارحة:
ـ والد "السي موسى" خطب جميلة بنت صانعة الفخار لابنه ....
جميلة ؟ دق قلبه بعنف .. لا، لا يمكن .. جميلة جزء منك أنت فقط ..
طفل، كنت تسرق الحليب لأجلها، وعندما لا تجد الحليب جاهزا تضطر إلى حلب البقرة الوحيدة التي يملكها أبوك، يداك الصغيرتان .. لم تشعر أبداً أن ما فعلته كان سرقة، حتى عندما اكتشفك أبوك في حالة تلبس وانهال عليك ضرباً، وشتماً .. كنت تصرخ بأعلى صوتك مستنجداً بوالدتك المريضة، بأحضانها وعينيها وصوتها .. وحدها أمك فهمــت الحقيقة، بأنك لم تسرق، مثلما فهمت بعد ذلك أنك لست مجنونا .. في عينيها قرأت كلاماً كبيراً وكنت تريد لو تنطق به وتقوله بأعلى صوتها كي يسمعه والدك والناس والعالم ..

فجأة، اكتشفت الحقيقة .. فهمت أن القوة الغامضة التي تشدك وتجبرك على الخضوع هي أمك .. حاولت الثورة على نفسك وعليها، وعلى تلك القوة الغامضة التي تطوقك وتكبلك، وكان عليك أن تتحرك قبل أن تفقد صوابك وتجن .. قررت التخلص من الضعف ومن المرض ومن الأنين المزمن .. من الخوف التاريخي العتيق .. أبرمت النار في سريرها .. رأيت اللهب يتصاعد ويلتهم كل شيء .. وكنت سعيداً، بينما النار تقترب منك .. تقترب منك .. تقتر ....ب و .......
عيناك مغمضتين، لا تقدر على فتحهما ...

أن تفتح عينيك الآن، بعد كل تلك السنين من إغلاقهما .. أن تنظر إلى وجهك في مرآة نبذتها طويلاً ؟ ماذا سيحدث ساعتها ؟
لا شيء .. سوى أنك سترى وجهك، إن كان بشعاً كما يقول الناس .؟
لم تكن " جميلة " تخافك .. كانت تأتيك جرياً وتحدثك عن الأشكال التي تصنعها أمها بالطين لتبيعها لنساء القرية .. كنت تصغي إليها سعيداً ومفعماً بمشاعر جمة .. سألتها ذات مرة " هل أنا بشع ؟ " ولم ترد، بل تقدمت منك خطوتين جريئتين وطبعت على جبينك قبلة وانسحبت تجري كالحلم ..

فتحت عينيك أخيراً، وبدل النظر إلى المرآة، نظرت إلى الباب .. كنت تفكر في شيء تدرك خطورته ..

خرجت من البيت وكانت السمـاء تمطـر، بينما الساعة تشير إلى الصفر .. ؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى