السبت ١٥ تموز (يوليو) ٢٠٠٦
بقلم هيثم خيري

كرسي خالٍ

موجوعا قادتك قدماك لأمسية نصير شمة، الحفل السنوى لبيت العود المصري.. كنت خائفاً، مكروباً، لا تملك غير نصف جنيه، قطعتا خبز وجبن تستقرا في قعر بنطلونك الباهت، الباهت كما وجهك تماماً.

ليس ثمة صوت سيعلو فوق نصير شمة الليلة، حتى دراويش الصليبية، ستتركهم ينعمون بغنائهم والتواءاتهم المحمومة لتصيد لحظة الوصل المستحيلة وتمضى، غير عابئ بنداءات التكية، ولا بنفحة الولي أو عطاياه.

عند قصر الأمير طاز ستقف، تجول ببصرك في انحاء المكان قليلاً، ثم تدخل بجسد هش مرهف، ووجه غائب الملامح، مليئ التجاعيد، رغم سنك التي لم تتعد الأربعين بعد.
أصوات الجنس الرهيفة تستعبد الفؤاد، تنهش خلايا عقلك من جديد، توقظك، تحررك، تقف مدهوشاً في باحة القصر. لا تزال البدايات تعلن عن وصلات لحنية حانية، تذكرك بهفوات ما بين الصحو والنوم.

الحجرة ذات الظلام الخالص تبتلعك،تحتويك فتاة بصدرها العاري، وجسدها الرائق، وعيناها اللتان تطفحان شهوة وائتناساً، بينما نغمات العود الشجية تمتزج بآلة الأنون، فتغزل لحناً عذباً، معشق كما قطعة أربيسك ولّى عليها دهر، فأضفت عليها مزيداً من الحكمة والجمال المنطفئ.
أما انطفاء الجسد فكان من المستحيل التنبؤ بأوانه، كان أوان العطش لا يزال يسكنك.

بين الجمهور ستنحشر. تلقى على أعضاء الفرقة تحية، ثم تنظر إلى الكراسي الخالية، طبعاً ستستبعد أي كرسي يجاوره رجل أو أسرة، أصوات العود الشجية تسكرك، تجعلك تتخيل ـ للحظة ـ أنك الشاب ابن العشرين، لذا ستنتقى كرسي يجاور آخر فارغ.. الكرسيان سيسكنهما مهرة جميلة أنت فارسها.. هكذا سيسول لك عقلك، فتجلس على أمل مجيء الفتاة غير المفاجئ.

بعد دقائق معدودات سيتسرب الملل إليك، لا تزال الفرقة تعكف على تدريباتها وأنغامها المبتورة، كأن كل عضو يخرج لسانه لجمهور شغوف بسماع مقطوعات مكتملة. تقفز الفكرة سريعاً إلى ذهنك. تفكر في الذهاب لدورة المياه، غير أن مؤخرة رحبة ستأثرك، تجعلك تجلس للحظات حتى تعرف مستقر المؤخرة، يأتي خلفها رجل مصطحباً فتى صغير، فتعود بسرعة من أحلامك القصيرة، تنظر للكرسي الخالي، وتضع راحة يدك فوقه حتى لا يأتي أحد يأخذه عنوة، وتضيع عليك الحفلة، تتلطف مع جيرانك من السميعة متسائلاً عن موعد البدء

ما أعذب حجرة الفئران المظلمة، ما أسعد لحظاتها القليلة التي منحتك أسرار الحياة مبكراً. كنت صغيراً لا تزال. في صف ابتدائي لا تذكره الآن. محكوم عليك بالعذاب في حجرة الفئران المفزعة، تصرخ، تتوسل، تحاول الانفلات دون جدوى، تتذكر فشلك الملازم لك:

ـ بتحب الشطة والا البليلة؟
ـ البليلة. تجيب بحسن نية بالغ، فيضحك الجمع على "البليلة".. يبقى انت بليد. تلتصق الكلمة وتتعملق في ذهنك شيئاً فشيئاً.
البليد مصيره حجرة الفئران.. تكره الفئران وسيرتها، ولكنك مرغماً تدلف إلى الداخل.

من الظلام تنبش، فتخرج فتاة المستقبل. نانسي صاحبة أجمل عيون وأغبى عقل. تهدئ من روعك، تصطحبك ـ بعد أن تعتاد عينيك الظلام ـ إلى كنوز الحجرة. تعرف أنها مليئة بالآلات الموسيقية، تلعبان بها بصوت خفيض هامس، وبعد أن يمل كلاكما ستعلمك كيف تلعبان عريس وعروسة. الظلام سيغلف كل شيء فتتكشف تفاصيل الفتاة، وتأخذك إلى عالمها، قبل أن يعلن جرس الحصة عن الانتهاء.

وجوه ونهود ومؤخرات كثيرة ستخترق عينيك، وتترك القلب مشغوفاً على أمل الوصل المنقطع، قبل أن يهل نصير شمة محيياً الجمهور بلحظات تسألك فتاة ذات عينان تقولان للقمر قم وأنا أقعد مكانك عمّا إذا كان الكرسي خالياً أم لا، تزيح يديك بسرعة وتدعوها للتفضل بالجلوس. بينما الشيطان القابع بداخلك يقهقه على الخطة المرسومة بحبكة شديدة، وقبل أن تبدد الأحلام وحدتك، ستترك الفتاة لتجلس على كرسي آخر، فرغ لتوه، في الصفوف الأمامية.

تلوح بيدك في حركة لا إرادية كأنك تدعوها للجلوس واستمرار الوصال. تنظر إلى مؤخرتها وظهرها شبه العاري بحسرة، تمنّي نفسك بفتاة أخرى، ولو أقل حسناً.
تمضى لحظات ثقيلة حتى تجاورك سيدة عجوز، تبدى استعدادها للموت في أية لحظة، تلمح ذلك من وجهها البائس الباحث عن لحظة رضا.
تتأسف بداخلك كثيرا، تحاول إبعاد فكرة مصاحبة الفتاة الجميلة عن دماغك لعلك تهدأ.

الألحان الشجية تتوالي، تتعاقب النغمات التي تذكرك بعبد الوهاب (عشق الروح)، وليلى مراد (أنا قلبى دليلي)، تتجول في أسواق العراق بصحبة نصير شمة، وسيدة عجوز تجاورك، كنت قد بدأت تناسها تماما لولا دأبها على التقاط لحظات البهجة، إذ يستبد الانفعال والسعادة بها في كل سكنة وحركة، تصفق بصوت عالٍ بعد كل مقطوعة، تتنهد، تعتلى المشهد بحضورها العنيف، تخبط الأرض بطفولة عجيبة، تنظر إلى كل عضو من أعضاء الفرقة بدهشة، كل آلة عود على حده، تحاول تقليدها عبثاً، ولكنك تعاود المحاولة والإخفاق، تنظر لآلة العود ذات القصبة الطويلة، تحاول تمييز ألحانها، ثم لآلة ثانية، ثم ثالثة، ثم رابعة، ثم تعود أدراجك محاولاً إدراك الألحان في صورة كلية. أما السيدة العجوز فلا تزال عيناها تتجولان بين آلات العود الزاهية كما وردة متفتحة على الحياة.

السيدة تبادلك النظرات، تربت على ساقك، تستحثك على التصفيق، تقول لك إن لحظات السعادة قليلة، اقتنصها قبل أن تنفلت. تتابع حركات جسدها الذي دبت فيه حياة أخرى غير التي تحياها، بعد انتهاء مقطوعة تسألها بود عن الساعة. تقول لك: ساعة إيه يا مغفل! ماتحاولش تعرف حاجة دلوقت.
تكتفى بالابتسام والصمت الجميل.

من صفوف خلفية تستفزك صافرة حامية من حنجرة ليست أقل حمية من الصافرة، فتصدر صفيراً عالياً بدورك، تنظر لك السيدة بإعجاب. تقول:

ـ اسم الله عليك يا بني.. صفر تاني.
تصفر ثالث ورابع وخامس. تضحك ويهتز كرشك تحت وطأة الضحك. أما السيدة فتقوم لتحية نصير شمة وفرقته وتجلس مجدداً على الكرسي.

تبدأ الفرقة في وصلة عشق جديدة، ولكنها مجنونة، غجرية، ثائرة، يبدو أنها الدبكة أو ما شابه، تتراقص السيدة العجوز فوق كرسيها، تفاجئك يدها الدافئة تحتضن يدك في حبور شديد، تداعبها وتعلو بها في فضاء القصر، تقلدكما الأسرة المجاورة بمرح شديد، حمّى التشبث بقطرات الأمل تنتقل إلى الصفوف سريعاً، تتشابك الأيدي في سيمفونية ود بالغ، تغمرك الدهشة من حدود الاستطاعة، ولكنك تمرح بكل ألوان الحياة القابعة خلف سواتر الناس.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى