الاثنين ١٥ شباط (فبراير) ٢٠١٠
قراءة في ديوان شعر
بقلم نازك ضمرة

(كل عام وأنت لي) للشاعرة ندى الرشـيد

الشاعرة السعودية ندى الرشيد صوت متميز كما ظهر لي بعد قراءة ديوانها المعنون «كل عام وأنت لي»، ومع أنني لم أقرأ لها قبل هذا الديوان الذي وقع تحت يدي بطريق الصدفة وعبر مواقع الانترنت، لكن المقتطفات القليلة التي طالعتها عن الديوان حفزتني على السعي الجاد للحصول على قصائد الديوان كلها.

إن الذي لفت نظري بشكل واضح في شعر ندى تحليقها في رف مختلف عن المألوف في الجزيرة العربية، أو انها تحاول أن تنشئ رفاً وتتقدمه بتناغم يتيح لها ولمثيلاتها العيش بروح العصر والثقافة المتماهية مع الموروث وفي حدود المتاح في بيئة لم تعتد على صعود المرأة لمراكز متقدمة، ولا خبرنا سماع صوتها دون رقابة رجولية أو وصاية.
ومن خلال إهداء ندى الرشيد لديوانها ومن مقدمتها التي وضعتها في صدر ديوانها يلحظ القارئ وجود مرجعية ثقافية هادفة للشاعرة ندى، ويبدو ذلك جلياً عبر لغة مشبعة بروح الإحساس بالقوة والصمود والمقاومة والاستعداد للتحليق والصعود، وندى لا تنسى جذورها وتراث قومها العربي الإسلامي والقبلي، فتكرس كلاماً يحمل مغازي في نفسها ويجعلها تخاطب أشباحاً تخلقت في ضميرها وجواها، أو سمعت ما تناقلته الألسن من الأهل والمراجع، وليس هذا فحسب فهناك مرارة تمور في أعماق شاعرتنا، ومهما حاولت كتمان إحساسها إلا أنها ذكرت الغائبين في كبرياء وزهو لتغيب شعور الآخر بالرثاء لها، كونها أنثى، وما تعارف مجتمعها على إهمال المرأة وتكريس المقولة أنها آلة للتفريخ والخدمة وللعمل على راحة الرجل برضاها أو بحكم التراث والتقاليد والأنظمة الداعمه لتلك التوصيات والتفاهمات في محاولات جادة سيطرت لزمن طويل وغلبت على البيئة في الجزيرة العربية لتصبح ظاهرة مألوفة وربما شبه مقبولة، وقد تطبعت غالبية من النساء على هذه المفاهيم والأهداف.

لكن ندى تستثير قارئها حينما لا تنسى الثكالى والأرامل والأيتام، وتشعرك بالقوة وبالإصرار على ما يحيي الأمل في نهضة هذه الأمة، ولا شك أن الكثيرات من أمثالها يشاركنها مشاعر أولوية الأرض والإنسان والكيان العربي الإسلامي ووضع كل ذلك في الطليعة كوسيلة لخلق جيل صاعد فاعل، تشارك المرأة فيه مع الرجل بمساواة وعدالة وكفاءة، وتثلج صدورنا ونحن نقرأ لها تقديمها الأرض العربية بحدودها الواسعة الراسخة في التاريخ والذاكرة والوجدان، ولا تكتفي بالإشارة لها بشكل إجمالي بل تحرص على تحديد مداها من الخليج النازف حتى المحيط الخادر«لاحظ وليس الهادر»، وهنا نرى ثانية الشعور القوي بالإحباط برغم كل ما ظهر على تقديمها من قوة وتصميم، فهي تحس بأن إنساننا وأرضنا غير مصونة ولا محصنة، بل أن كثيراً من حقوقنا وكرامتنا مهضومة مهدورة. وتصل قمة ذلك الإحساس والنخوة حين تسمع الصرخات التي تنطلق من رحم الظلم والعذاب على مدى اتساع رقعة الوطن العربي الكبير.ثم تسهب في إهدائها بتفاصيل عن شرائح معذبة محرومة ومنسية ومجروحة في أرضنا وأرض أجدادنا والتي اختلطت تربتها بدم الملايين من الشهداء والأبرياء والمجاهدين للحفاظ على شخصية ثقافية وعربية إسلامية متميزة وقادرة على الصمود أمام امتداد وتوسع الحضارات الأخرى والتي تحاول ابتلاعنا وتذويب حضارتنا.وتركيز ندى الرشيد الأكبر يكون على المرأة لأنها الإنثى التي تعرف مشاعر الأنثى، ولا شك أنها خبرت واكتوت بالكثير من ظلم الرجل وسلطته وطاعتها العمياء له أو لمن يسيرونه لآخفاء صوت المرأة نصف المجتمع، المرأة الأم والأخت والزوجة هي مكثرة النسل والتي تحفظ لنا تكاثرنا وترعى لبلادنا الأبناء والبنات للحفاظ على بقاء العنصر العربي فاعلاً على مدى التاريخ، حاملاً رسالة سماوية وثقافة أنارت العالم عبر قرون طويلة.

قصائد ديوان«كل عام وأنت لي» الخمسة والعشرون فهي متقاربة في مضامينها ولغتها وموضوعاتها، وأكثر ما يجمعها هو مفردة البوح، فكل قصائد ندى الرشيد هي بوح حتى لو لم تحمل هذا العنوان أو لو لم تشر لها، ولكن قصيدتها الأولى المعنونة«بوح لحظة صدق»هي ملخص لكل ما جاء في الديوان من قصائد.

تكشفت الأديبة الرشيد ندى لنا ما ارادت أن تخبرنا به دون قصد منها ربما، وشددت على البوح بمفردة «صدق» غير مكتفية بعنوان يقول «بوح لحظة» مثلاً بل تقصدت إلصاق مفردة «الصدق» بلحظة البوح، أو بوح لحظة، فكل ما ورد في الديوان من قصائد تدور حول علاقة الرجل بالمرأة، تتجلى في كشف نفسيتها بشفافية وصدق وإخلاص ساحر يتوقف القارئ طويلاً عند الكثير من استشعاراتها، وتبدع في ذلك بحرية وطلاقة وعفوية «حزني عميق، ليس كحزن، أية امرأة، والسر الذي أودعه، بي ربي، لا تملكه أية امرأة، كم من الوقت أحتاج، حتى أنسى، بعض الأشياء، لا تنسى، تنقش كالوشم فينا وتصبح لنا عنوان» وهي من قصيدتها الأولى لحظة بوح صدق وماذا يستطيع أي قارئ أو ناقد أن يقول فوق ما قالته ندى؟، لكن ندى لا تتوقف عند العنوان الجامد، ولا تستكين للاستسلام، بل تأبى أن تعبر بقصيدتها الأولى الطويلة لتقول المزيد مما تكدس في أعماقها، وتعود للصحو وتذكر قوتها التي أشرنا لها عندما تحدثنا عن مقدمة الديوان، فتصر الشاعرة ندى على التحليق متقدمة رفاً أو تبحث عن رف يناسب مؤهلاتها وقوة شخصيتها، حيث تقول: «أشتاق إلى السطوح العالية، والقمر، إلى رائحة الأرض، بعد زخة مطر، يا إلهي أين هوالمطر؟» وما أصعبها من قفلة لهذه القصيدة تعكس الحيرة والأبواب الموصدة أمام المطر، المطر للروح والحياة، والذي يحيي الأرض الموات، فتنمو الزرع والنسل والثمر والأجواء العليلة والعالية الغالية.

ومن القصائد التي تعكس شخصية ندى وثقافتها وتراثها، ذلك الإخلاص المتجذر في نفسها، والتكريس الذي تربت عليه واقتنعت به، وتأمل أن تلاقي من الآخر «الرجل» نفس الأحاسيس، وتؤكد ذلك في قولها: كيف أنسى؟ وأنت تجري في دمي منذ قرون، هيهات، من مثلى لا ينسى، ربما بالموت، لأنه نهاية الأشياء، وهذا التعبير المتقضب لهو قدر المرأة الذي لا بد أن ترضى به، ونكوص متعارف عليه ومألوف في بيئة خاصة، ترده إلى الذات العليا منتظرة نهاية الحياة لتستريح من القلق والحرمان والغدر والأشواق التي تقض امضاجع على مدى سنوات العمر؟ 

بعدها وتثبيتاً للحظات إحباط، نلحظ حضيض الاستسلام في المرأة العربية القبلية حين ترى أن الرجل هو مالك مصائر، «العمر دونك سيدي، لا يعد، لا روح فيه، لا لون، أنت بدايتي، ونهايتي أنت، يا من علمتني أبجدية الحياة، قبلك لم أكن» وحتى لو كان ذلك الرجل هو الأب أو الجد أو القائد الفذ أو المعشوق المثالي، فاللغة المستخدمة هنا تحيلنا إلى حزن وهم وغمّ مشاركة وتخميناً لما كان أو سيكون.من تبعية واستسلام وقبول بحكم لا نعرف مداه

ب في التعبير عن مشاعرها تجاه الاخر، فالتكثيف والاختزال هي ميزة الشعر الحي الخالد، وزيادة المدح أو الذم أو التحسر أو التشوق، تضعف أثر ألقصيدة، وتدلل الآخر ليطالب المزيد إرضاء لغروره وما ارتضاه السارد له باعتراف وضعف واستسلام. وقصدت أن أطلب من الشاعرة أن تجعل القصيدة بثلث حجمها الحالي. أو أقل أو أكثر بقليل.
ولكن مهلاً يا ندى، فلي مطلب آخر ألفت نظرك إليه قبل إنهاء سطور هذه القراءة، وهو: إنني أقترح الخروج من جلدك قليلاً، وعدم البقاء في دائرة نفسك، وجاخل القمقم الذي حبست نفسك فيه لتأخذي حريتك في قول ما هو وراء مفردات بوحك، فأنت وأنا وكل إنسان يعيش في مجتمع يتفاعل معه ويتجاوب، يوافق ويعارض، ولا بد أن يظهر ذلك على أدبنا وكتاباتنا، والشاعر المبدع يقول شعراً عالمي المعنى، أي يهم كل إنسان يقرؤه، عربياً كان أم غير عربي، حتى لو ترجم إلى لغات أخرى فيبقى إنسانياً ناطقاً ومعبراً عن نفس القارئ، وليس الانكفاء والاكتفاء بالنزف من أعماق النفس، والتقوقع لوصف مشاعر الأديب أو الأديبة، لتجبر الناس على الانحباس في أجواء مشاعرك نحو نفسك ونحو من ترغبين في تحكم، وكأننا نريد أن نقرأ مناحة أو مدحاً أو تشبيباً طول الوقت، فالجار والعدو والوطن والأرض والطير والحيوان والجمال والفقر والثراء الفاحش وفلسطين والاستقواء والثكل واليتم والأبرياء كلها مواضيع عالمية المعنى. وأكتفي هنا حول هذا الموضوع.

وما قيل عن القصيدتين الأوليين في الديوان يكاد ينسحب على بقية القصائد، وكلي أمل أن أقرأ جديداً للشاعرة ندى الرشيد أي الدواوين التي ستصدر بعد هذا الديوان، حتى نستمتع بإبداع متجدد مبهر، يثري المكتبة العربية وخاصة في الجزيرة العربية التي عزلت نفسها عن مجتمعها العربي زمناً طويلاً، وحان الأوان لتنهض هذه الجزيرة متصدرة حماية الأوطان العربية وداعمة لكل مجتمع عربي مهما نأى، ولتصعد المرأة السعودية والخليجية إلى مقدمة الصفوف، جنباً إلى جنب مع الرجل، وكما أبدع الكثير من شعراء وكتاب الجزيرة العربية الرجال نأمل أن نرى المرأة في الصفوف الأولى بين الأديبات العربيات في كل أرجاء الوطن العربي العزيز الكبير، متجاوزة كل المعيقات التي أخرت هذا الحلم المنشود.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى