الأحد ٢٣ نيسان (أبريل) ٢٠٠٦
من الدرس الجامعي إلى النقد المُبدع
بقلم صلاح الدين بوجاه

كمال الرياحي بين حركة السرد و المشرط

الرؤية المختلفة

يردُ كتاب " حركة السرد الروائي و مناخاته " , نصّا جديدا صدر في الأردن حديثا عن دار مجلاوي ,فيكون مسهمًا في حركة النقد في بلادنا و البلاد العربية دون أن يُضحّي بالصرامة العلمية المرجوّة . و المصنّف للناقد و الروائي التونسي كمال الرياحي الذي ما فتئ يُسهم في إغناء الساحة الثقافية بالمبتكر المستجدّ المبهج أو ادّعاء .

و الكتابُ مركّزٌ في سيرة محمد شكري , و معنى الحرية عند حسن نصر , و خفايا روائية الرواية عند مسعودة أبو بكر , و مرايا السرد النارسيسي في رواية لسميحة خريس , و معنى الممنوع في رواية التمثال لمحمود طرشونة , فضلا على دروب الفرار لحفيظة قارة بيبان و البق و القرصان لعمارة لخوص .

و قد عرفنا الرّياحي آخذا من أطراف الابداع و النقد بأسباب عميقة شتّى , تغوص في أعماله التخييلية فتعثر على هموم البنية و الشخصية و الرؤية بكثافة و إتقان لا يُهمل عفو المتعة , و تتعامل مع دراساته النقدية فتشدّك إليها ة بسردها الرصين دون مغالاة , و قدرتها على التحليل المتأنّي الذي يجعل من المغامرة النقدية فضاء تتفاعل داخله النظريات الرصينة المستعارة من أوروبا , و أغوار النصوص الإبداعية المعتمدة , تونسية أو مشرقية و مغربية !

و قد اعتدتُ أن أقف من المبالغين في احترام ضرورات النقد موقفا سلبيا , و إذ في تقديري انه ينبغي أن يحدث ذلك في نطاق المرونة , و دون جعلها قيدا فعليا يُعرقل خطى الكاتب . إذ يحلو لي غالبا أن تدنو الدراسة النقدية من الأسلوب الإبداعي , كما يحلو لي أن تُنشا لغاية التداول العادي خارج السياج الجامعي دون أن يكون صاحبها ممن يَستسهل الإلقاء بنصوصه إلى الصحف السيّارة , و لكم يحلو لي أن يأخذ الدارس نفسه بعُسر ما حصل لديه من مناهج النقد و أساليب الضبط و التقنين , فتبدو الدراسة جامعية دون أن تكون كذلك في أصل تكوينها .

هذا كلّه وجدته عند كمال الرياحي في " حركة السرد الروائي و مناخاته", و الملاحظ ان الرجل ينتمي إلى جيل من النقّاد يتوق إلى الجمع بين الدقة العلمية المطلوبة و الإحالات الدالة , و العرض الواسع لمحصول القراءات المتنوّعة التي تُغني البحوث دون أن تُثقل كاهلها بالمكرّر المُعاد .

و أحسب أن توفيق بكّار و محمود طرشونة و محمد القاضي و فوزي الزمرلي و محمد الغزي و المنصف الوهايبي ...و آخرين من خيرة أساتذتنا في الجامعة التونسية قد اتخذوا لهم نهجا قويما عبر مسارب تحترم منهجية سليمة , و بناء دقيقا , و استخلاصات موضوعية دون ان تُلجم القلم عن لمحة لطيفة ,أو أسلوب مستطرف , أو إيماءة خفيفة تسهم في حركة النص دون ان تخرجه عن سمت الجامعة و اقتضاءاتها .

و يحلو لي أن أقول إن كمال الرياحي قد اتّخذ الطريق نفسها , فبدا أسلوبه رائقا لطيفا قريبا من النفس , منسجما مع تصدير " كولن ولسن" القاضي بّأن الرواية واحدة من أكبر التعويضات الممتعة التي استطاع الانسان أن يبتكرها إلى حد الآن " .

و قد أكّدتُ منذ وقت طويل فكرة حصلت عندي من معاشرتي الطويلة للأدب الفرنسي, إذ انتبهت إلى ان الوسط الأدبي هناك يُرحّب بأي روائي جديد ترحابَ إقبال و اهتمام ....إلى أن يحدث منه- أو من نصوصه- ما يخالف ذلك ...أما الوسط الأدبي عندنا , فلا يُرحّب بأي عمل , بل يرفضُ العمل و صاحبه ...إلى أن يحدث ما يُخالف ذلك من الاعتبارات غير الأدبية في الغالب الأعمّ.

على غير هذا النهج يسرُ كمال الرياحي , فهو يحتفي بالنصوص احتفاء العارف الدّرب المقبل على مادّة عمله إقبال مشاركة و حفاوة .

فكم نحن في حاجة إلى مثل هذه المصنّفات , و كم تحتاجها الساحة النقدية العربية تطويرا لانساقها و تجديدا لنُظمها و تجاوزا ليُتمها الصارخ .

الملاحظ ان الكتاب يقع في حوالي المائة و ستين صفحة من القطع المتوسط , مادتها تسبقها عتبة دخول بقلم الناقد د محمد عبيد الله و تعقبها عتبة خروج و هي مكتنفة بين هذين النصّين القصيرين ....فندرك من الكتاب , و سياقاته الداخلية أن النقد عند الرياحي كما يقول د محمد عبيد الله "...يكاد لا يبتعد عن طبيعة الرواية بشكلها السرابي المتحوّل , فهي تُفيد من التراث و الصحافة , و من الموسيقى و الغناء و السينما , و من السيرة و الشعر و القصة القصيرة , انها تدمج خيوطا لا حصر لها " . من خلال هذا التعدد يبتكر الرياحي جديلة واحدة ...تُعبّر عنه و عن بلاده, و عن البلاد العربية, و تقول هُجنته , و تعبّر عن الوحدة في نطاق الكثرة , و عن الاختلاف في صلب الائتلاف .
إنّنا إزاء ضرب من النّقد يُبطن موقفا صريحا من الرواية و النقد في آن واحد . و الحق انّ هذا النمط من " النقد الابداعي " ما فتئ يُثيرني ...لأنه يُخاطب فينا الابداع و النقد في آن .
و هذا مجال يصعب ركوبه على من لا يُحسن من الأساليب أبهاها و أبدعها . لهذا يُنتظَر أن يتصدّى الأدباء إلى مساءلة هذه الأساليب المبتكرة التي ترنو إلى الجمع بين مجالات كان يعسر تقريب بعضها من البعض الآخر .

فمن الصّعب ان نجهر بحكم قيمة يَقضي بأننا إزاء نصّ ينتمي إلى نماذج " النقد الحقّ" , كما يكون من الصعب جدا ان نؤكّد اننا إزاء " نصّ روائي حق" , و مهما يكن من أمر فإنّ المسائل تلبثُ نسبية إذ لا موازين تقُوم على تمييز غثّها من سمينها . بيد أن مقياسي التراكم و المشاركة في " الحدث الأدبي " يُمكن أن يُسعفنا في باب التعرّف على التجارب الملائمة , غذ لا وجود لحكم مطلق في هذا المجال الانطباعي الخاضع دوما للأحكام التقريبية .

و الملاحظ أنّ كمال الرياحي , او قُل إنّ أعمال كمال الرياحي , تستجيب إلى هذين الاقتضاءين .فلقد حققت تراكما محمودا , فضلا على خوض صاحبها في مجاهل الساحة الثقافية داخل تونس و خارجها . و يعنينا هنا أن نتأنّى لدى قولنا " خارجها" نظرا إلى إمكان الاحتكام إلى المجال العربي لالتماس حُكم موضوعي –قدر الامكان- في شأن الظواهر الأدبية . و هل " ظاهرة كمال الرياحي " إلاّ إحداها ؟.

فصاحبنا كاتب رواية جيّد , ظهر على الناس ببعض القصص القصير :" نوارس الذاكرة" 1999 و "سرق وجهي " 2001 و هو يستعد الآن لنشر عمله الروائي الأول " المشرط" ضمن سلسلة" عيون المعاصرة " التي أثبت مديرها الأستاذ توفيق بكار انها قادرة على استقطاب النصوص الجيدة و الكتاب الجادين .

فهل نذكّر ههنا بان البشير خريّف قد سئل عن آبائه فصرح :" هم الرزقي و الدوعاجي " و في حسباني أنه يسهل على المشرط أن يبحث له عن سند خالص في أعمال كل من الرزقي و الدوعاجي و المسعدي و خريف و حسن نصر و بوجاه ...فيسهم بهذه الكيفية في إعادة ترتيب أعمال هؤلاء ضمن سياق الرواية التونسية , و بالتالي في اعادة ترتيب هذا السياق الروائي العام ضمن ضروراته التاريخية .

و الحقّ أنّ مسار الرواية التونسية لم يستقر بعدُ , و ندرك جيّدا ان هنالك أسماء عديدة تولد كلّ يوم , و ان هنالك نصوصا كثيرة ستسقط من حسبان تاريخنا المعاصر .

و نعتقد أن أعمال كمال الرياحي ستُسهم في استحداث هذا " المخاض الترتيبي" ...أو قُل هذا التردد المُفضي إلى تشويش التسلسل النصّي ... لإتاحة ترتيبه من جديد .
و يجدر بنا ان نظفر بتقاطعات عديدة بين نصوص متباعدة في الظاهرة لكنها في جوهرها تنهل من معين واحد . لهذا نّثبت هنا انّ كتابة كمال الرياحي هذه الجانحة إلى المزج بين النّقد و الإبداع ضرورية اليوم .

فعلا ....نحن إزاء " نصوص ضرورية " لإعادة تصوّر تسلسل منطقي لروايات كثيرة ظهرت تباعا منذ ثلاثينات القرن العشرين حتى حقبة التسعينات , و ألقت السؤال الحارق القديم :" كيف تكون الرواية جديدة ممكنة ؟؟؟"

ضمن هذا المسار نرنُو إلى الجمع بين نصوص كمال الرياحي الابداعية و نصوص كمال الرياحي النقدية لأن المنظومتين تنهلان من المعين ذاته , معين الإعجاب بالنص العربي القديم , و استدراج النص الغربي الحديث ليقول همومنا , و يُعبّر عن آمالنا , و يؤدّي طموحنا نحو ادب أجمل , و أكثر ملاءمة , و أوضح انسجاما مع العصر .

إن جمعنا بين كتاب "حركة السرد الروائي و مناخاته " و نصوص كمال الرياحي الابداعية ليس بالجمع الاعتباطي انّما هو ينبع من توقنا المشترك إلى تصوّر أدب تونسي جديد ذي غاية مزدوجة . و هو منحى اكتشفناه لدى أساتذتنا في الجامعة التونسية أمثال توفيق بكار و طرشونة و حمادي صمود ... مثلما ظفرنا به لدى ادباء معدودين في الساحة الثقافية أمثال عزالدين المدني , و محمد الغزي ....و آخرين .

لهذا يَعنينا أن نُلحّ هنا على انّ الساحة الثقافية لا يُمكن ان توجد في مكانها الطبيعي بين الجامعة و الشارع الثقافي إلا بدعم هذه الرؤية الوسطى التي تستفيد من الدرس الجامعي دون مغالاة , و تستعيدُ النص الإبداعي دون إسفاف . في هذه الخانة الوسطى يمكن أن يواصل أدبنا التونسي عطاءه الغزير الذي انبثق متجدّدا مع طور الثمانينات و التسعينات مُسترجعا أطواره الكبرى مع بُرهة علي الدوعاجي و بُرهة حركة الطليعة , و بُرهة عزالدين المدني و توفيق بكار .

ضمن هذا المخاض أضع مدونة كمال الرياحي , و يقيني انها مدوّنة قادرة على المواصلة الغنيّة ذات الإضافة الدالة .

الرؤية المختلفة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى