الأحد ١ أيار (مايو) ٢٠٠٥
قصة قصيرة
بقلم يوسف المحيميد

لايوجد مكان لعاشق في هذه المدينة

أعرف جيدا أن خدمات البريد تشبه حائط جدّي الطيني المهترىء ، لكنني لم أتوقع أن تكون بهذه الدرجة من التأخر ، كأن تصلني رسالة بعد سنة وأربعة أشهر . في أي درج تاهت هذه الرسالة كل هذا الزمن ؟ أي أصابع شيطانية خنقت هذا الحب والوله كل هذه الأيام ؟ لاأعرف .

فتحت المظروف الوردي الصغير للمرة العشرين ، وتأملت الكلمات تشبه قلائد فضّة ، صغيرة ومنمنمة ، ومرتبكة بعض الشيء . قرأت آخر كلمة : لاتنسى أرجوك حبيبي !!

منذ أن وطأت قدماي هذه المدينة للدراسة ، لم يكن لي عنوان واضح . كل غرفة استأجرها لأشهر لايزيّن صمتها ضجيج هاتف . وإن كنت محظوظا في غرفة ما بهذا الجهاز الذي يربطني بالعالم والأنفاس والحزن الطويل ، فلا ألبث أن يطردني المالك لأسباب كثيرة ، أشدّها تأخري عن سداد الأقساط الشهرية للإيجار ، وأبسطها دعوى الجار أنني عازب ومثير للشك ، ولاأصلي مع جماعة المسجد ، حتى لو كنت أول من يدلف وآخر من يتوقف لسانه عن اللهج بالدعاء والإستغفار .

لذا كدت أصطدم بسيارة نقل ضخمة ، بعد أن دفعت ثلاثمائة ريال رسوم امتلاك صندوق بريد خاص ، كنت فرحا حتى كادت سيارتي الكورولا 88م أن تغفو تحت عجلات الناقلة الضخمة ، وأغفو أنا كحشرة طائرة تتشرنق بغباء في شبك الراديتر على مقدّمة الناقلة المسرعة .

كنت أقول لأصدقائي في الجامعة : الآن أصبح لي عنوان ثابت في ضياع هذه المدينة الضالة . الآن يمكنني التواصل مع العالم عبر هذا الصندوق السحري : البريد ، ولا يملك أحد في الدنيا أن يسلبه منّي . فتحت الرسالة وتأملت أسطرها الثلاثة ، والتوقيع ، والقلوب المشروخة في الزوايا ، والتاريخ الهجري واليوم .

قرأت الأسطر سريعا : أنتظرك الجمعة القادمة ، السادسة مساء ، عند سوق الزهرة ، على المقاعد الحجرية . إذا ماوصلتك الرسالة قبل الموعد ، يكون الجمعة بعد القادم . أمانة .. ضروري أشوفك .. مسألة مصير.

ياإلهي .. كم جمعة مرّت ! حاولت أن أعدّها ، لكنني توقّفت ، هل كانت الجمع مثل أسراب الحمائم ، التي تمرّ سربا سربا فوق رأسي قبيل يقظة الشمس ، فلا أسمع سوى حفيف أجنحتها المتدافع . ثم لاتترك أثرا . كان اليوم أربعاء ، طالعت حائط الغرفة ، حيث ينظر تقويم أيام السنة نحوي بسخرية ، كأنما يقول لي : كم أهدرت من جمعة أيها العاشق التائه !! كنّا فقدنا الإتصال تماما . لم يعد رقمها يجيب لأيام ، ثم صار يردّد نغمة : فضلا تأكد من الرقم الصحيح !! بينما لاأملك في غرفتي المتواضعة هاتفا يربطني بصوت يشتّت الليل ، ويطرد برنينه الصراصير التي لاتكفّ عن الشقلبة داخل حذائي ، وهي تقاسمني الغرفة .

قرّرت أن أزور السوق ، وأتفحّصه قبل أول جمعة . زرت المكان مرارا ، شاهدته من كل الجهات ، وجلست على المصطبة الحجرية المسودّة . مساء الجمعة ، وقبل السادسة بساعة كاملة لبست ثوبي وشماغي ، ورششت عطرا رخيصا جعلني أسعل طوال الطريق . كنت أعرف أنه مضى أكثر من ستة عشر شهرا ، أي مايقارب ستون أسبوعا أو جمعة : ياللجنون ، أتظن أنها تنتظرك كل جمعة ، طوال هذا الزمن ؟؟ همست لنفسي . هل أنا فعلا مجنون ؟؟ تلمّست ظهر عنقي الموسوم بكي نار قديم ، أيام الطفولة . كنت أجمع الأحجار آنذاك ، في السابعة بدأت أخفيها في بيت الدرج ، وبعد عام تكوّمت لديّ أحجار متنوعه ، قضيت معها ليال رائعة ، كنت أعشقها ، أهيم بها ، أحادثها ، أقسم أنني كنت أسمع أصواتها المخنوقة ، ووسوساتها . أقبّلها وأعتب على بعضها . أصفّها بنظام دقيق ، وأرتب مخدع كل منها !! كنت مبتهجا ومتفاعلا جدا مع الأحجار ، ألوانها أشكالها أرواحها . إلى الحدّ الذي عرفت كل منها بإسم وعمر وملامح . كانت أحجاري قبائل وعائلات . لاأعرف ، ربما كانت القبائل والعائلات مجرّد أحجار .

بعد أن اكتشفت أمي مخبأي تحت الدرج ، لم تقل لي شيئا ، ولم تعتب عليّ . بل أنني لم أعرف أنها وقعت بالصدفة على عالم أحجاري المعشوقة ، إلا بعد أن عدت ذات ظهيرة من المدرسة ، وخلعت ثوبي بسرعة ، وانسللت إلى صحرائي ، فلم أجد غير الفراغ . بعد أن حملها أبي ورمى بها في مكان بعيد . صرتُ أصرخ بلا شعور . أضرب الجدران بجنون . خفّت أمي نحوي ، وبسملت كثيرا ، واحتضنتني . وهرع أبي على صراخي ، وماأن عرف سبب لغطي هذا ، حتى انهال عليّ ضربا وركلا . ظللت مريضا لأيام وليال . لم أعد استطع الرؤية ، كنت أستند على الجدران وأتحسّس الدرج والباب . وانقطعت عن الدراسة . حتى زارنا عمّي ، ليقنع أبي أنني ممسوس ، ولا بد لي من قراءة عند إمام المسجد . بعد أن عرف الإمام حكايتي أكد لأبي أن جنّيا مشركا يعبد الأصنام قد تملّكني ، وهو ماجعلني عاشقا ومهووسا بالأحجار . أشار بعد زيارات قراءة ونفث لم تنفع ، أن يذهب بي إلى طبيب شعبي يستخدم الكي بالنار علاجا . كان يسخّن انبوبا حديديا فوق النار ، ثم لسعني بخفّة على ظهر رقبتي ، حتى ضجّت غرفته بزعقة صغيرة مصحوبة برائحة شواء ودخان أبيض .

تحسست مؤخرة رقبتي وأنا أدلف سوق الزهرة التجاري . كان عقربا الساعة يشيران إلى السادسة إلا عشر دقائق . حركة المتجوّلين داخل السوق كانت قليلة . ثمّة نساء يحملن أكياسا ويجررن أطفالهن ، وأطفال آخرون يمسكون بعباءات امهاتهم ويبكون . جامعو التبرعات يصوّتون : تبرعوا لإخوانكم في الشيشان .. مانقص مال من صدقة . بعض الباعة يقفون على أبواب متاجرهم منتظرين المشترين . بعضهم ينسلون خائفين داخل متاجرهم حين يلمحون رجال هيئة الأمر بالمعروف بمشالحهم الوبرية ولحاهم يتبعهم جنديان . أيضا أنا بدوري ارتبكت حين رأيتهم ، وقررت أن احتمي مثل فأر بمحل ملابس رجالية ، لأخرج بكيس بلاستيكي أحمله كي يشفع لي بالتجول . لحظتُ بطرف عيني المصاطب الحجرية . كانت امرأة تجلس وبحضنها رضيع . نظرت الساعة ، وكانت السادسة تماما . ارتبكت وتسارعت خفقات قلبي ، حتى كاد يقفز من أضلعى ويرتمى على بلاط الرصيف . اقتربت منها ، ومررت بجوارها ببطء . عيناها الظاهرتان خلف حجابها تحدّقان . تجاوزتها ثم التفتُ خطفة ، فضبطتها وهي تلاحقني بنظراتها . ياإلهي هل كانت هي ؟؟ بعد ستين جمعة ، وقد أدمنت الإنتظار كل سادسة ؟؟ قرّرت أن أعود مرّة ثانية ، ولكن هل أمرّ بجوارها ؟؟ أم أكون شجاعا أو وقحا فأجلس بجوارها ، أليس المقعد الحجري يتسع لثلاثة أشخاص ؟؟ وليس هناك سواها تجلس على طرفه؟؟ هذا صحيح ، ولكن لايوجد مكان لعاشق في هذه المدينة !!

بعد أن اقتربت منها تبادر إلى ذهني مظروفها الوردي الصغير . سأخرجه وأمسك به في يدي اليسرى التي ستكون بموازاتها . ربما تتذكّر مظروفها ، فليست ستين جمعة كثيرة لدرجة نسيان رسالة تحدّد مصير . لكن من هذا الرضيع في حضنها ؟؟ هل تزوّجت وأنجبت خلال سنة وأربعة أشهر؟؟ هل كان الموعد مصيريا لها ؟؟ لحظة مررتُ أمامها بخطابي الوردي في يدي ، لمحتُ عينيها تضجّان بالإرتباك ، وهي تفزّ فجأة كأنما ستتبعني . أسرعتُ مشيتي ، وأحسستُ بوقع حذاءها يلاحقني . التفتُّ بغتة ، فوجدتها تتبعني !! انعطفت نحو مواقف السيارات ، فانعطفت معي ، لكنها توقفت ، فالتفت خلفي حيث كانت تركب سيارة فارهة وجديدة . تسمّرت قرب سيارتي . وماأن مرّت السيارة ، حتى لمحتُ عينيها تطالعان نحوي ، لدرجة انها أدرات رأسها إلى الخلف بعد أن تجاوزتني السيارة . رفعتُ يدي ولوّحت لها ، ثم لمحت فجأة رجال الهيئة والجنديين يركبون سيارة جي إم سي ، ويغادرون السوق .

عدت إلى المقعد الحجري ، لربما تركت شيئا هناك . جلست مكانها بالضبط . تفحصت المقعد والبلاط تحته . لمحت رباط شعر وردي أيضا . رفعته وشممته . نظرت يمينا نحو جذع شجرة بنسيان ضخمة تكاتف المقعد . تذكّرت حكاية عجيبة تقصّها جدّتي لي قبل النوم ، عن رجل يسير في الصحراء ، فيسمع أنينا خافتا وحزينا ، وبعد أن يبحث عن الصوت ، يدرك إنما كانت شجرة عوسج كبيرة وهائشة ، فيقترب منها ، ويسمعها تردّد : خلّصني .. خلّصني !! يسألها : كيف ؟؟ لكنها كانت تردّد كلمتها : خلّصني .. خلّصني !! يخرج سكيّنه ويرسم على جذعها ، فتتحول فجأة إلى امرأة طاغية الجمال ، لتقول له أنا الآن ملكك !! ثم تضيف : لقد مسختني جنّية حقود إلى شجرة .. وقالت لن يخلّصك إلا فنّان أو شاعر!!

أخرجتُ مفاتيحي من جيبي ، ورحت أرسم قلباً وعينين ، وماأن مشيت حتى سمعتُ حفيف امرأة طاغية الجمال تتبعني وتهمس في أذني : سأعيش معك ، حتى لو في بيت درج !! كنت أسمعها وأحاورها ، لكن كثيرون لايرونها معي . شبكت أصابعها في يدي ومشينا معا .


مشاركة منتدى

  • تعقيب على لا يوجد مكان لعاشق في المدينة

    معاناة صادقة يمكن أن تتكرر كثيرا هنا، ليست المشكلة الحقيقية لتتعلق بالخدمات البريدية في بلادنا - دون تشبيه مع مثيلاتها في فرنسا مثلا- فالقصة تطرح أساسا معاناة الشباب في مرحلة يرغبون خلالها بمقاربة الجنس الآخر دون أن تكون لهم أي إمكانية لمقاربة صحيحة سليمة. لا أريد أن أخوض بالموضوع بتفاصيله فالحال مؤلم، والقلوب تتكسر في الشوارع وعلى المقاعد بألوانها المختلفة...وفي السيارات وحتىعلى أعمدة الكهرباء. الموضوع جميل ولكن كان يمكن لقصة الطالب مع الحجارة وأبويه عندما كان صغيرا أن تشكل قصة قصيرة بمفردها. العاشق في مدينتا مفطور القلب، وتنهيداته أكثر من زجاجات المشروبات الغازية المتناثرة شظاياها في كل الأماكن. تحياتي لك. شاهر ذيب

  • رائع ومن صميم الواقع انا اشجع هذا الكاتب

  • THINK FOR THE WRITER OF THIS STORY IT REALLY TOUCH TH REALITY OF OUR SOCEITY SITUATION AS YOUNG PLESE SEND TO ME AT:
    ETGB-BOUDJELTHIA@CARAMAIL.COM

    عرض مباشر : لايوجد مكان لعاشق في هذه المدينة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى