الثلاثاء ٢ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٨
بقلم ميلود بنباقي

لا تكثر أرجوك من الغياب

تسألك اللغة: هل حدث، يا فارسي، ما كنت تخشاه، موت قدرتك على الكتابة وعلى تذوق الحياة؟ أم هل تدمن اليوم عزلتك وتروض نفسك على التماسك في ليل غربتك الأخيرة؟

تجيب وأنت صامت، وأنت تدهس اللغة بكعب حذائك الطويل: لا، فقط أنهي حديثا عابرا مع ما تبقى من حياة ووجع، أقود صديقي/موتي من يده إلى ثالث الاثنين، إلى حلم أخير ويقظة، إلى اللاشيء الأبيض.

وها أنت، وأنت مسجى، تنثر اللغة في الجرائد والدروب القديمة بكفاءة لم توتها سوى في الفواجع. وأنت سائر إلى حياة ثانية لا تأبه بمن يرثيك، هائم على وجهك في أرض الاستعارات والصور الجميلة المذهلة.

وها أنت، أخيرا أخيرا، تعثر على قبر شاغر من أيام أسلافك، لا ينازعك عليه أحد سوى ظلك.

أخيرا أخيرا، تحملك الفراشات إلى مدارج الضوء، خفيفا مثلها، مسربلا بألوانك وألوانها، وقد ولدت من حبة قمح نسيها القاطفون في واد غير ذي زرع... وتعود طفلا ثانية لتنصب فخا بالغ الدهاء لصديقك القديم: طائر الدوري. فعلمنا الشعر كي نرثي ولادتك، أو نرثي موتنا في جنازتك.

المدن سوداء عمياء بلا أسماء وبلا ظلال. في كل عاصمة سر ما وخيبة. كأن الموت الذي اعتراك ينصب للأحياء فخاخه الرهيبة بمكر تام السرية. فماذا يفعل الأحياء بعدك في هذا الخلاء الكامل؟

ظلام مفاجئ يوحد عناصرنا في كهف الوجود الخالي من الصور. يجعل العتمة صلبة، ويجعل الحياة صعبة. ننتبه متأخرين فنصرخ: موتك هذا. فاعتن به كما تعتني الرمضاء بالصهد. اعتن به فالصيف حار، والخريف على الأبواب، والشاعر يصيح: أفي مثل هذا اليوم يموت أحد.

موتك هذا. فلا تكثر، أرجوك أرجوك من الغياب. لا تذرنا يتامى دون قصيدة أو قيامة. موتك هذا. مجاز في مجاز. فلا تصدقه ولا تستسلم لشلل الحواس المفاجئ. أو لا تغتر بعزلة القبر وسكون التراب فتنأى عن صخب رام الله وهدير المطارات وأثر الفراشات. انهض كي تقصف بالشعر مشيعيك، فننجو من الضجر ونتطهر من فراغنا السحيق.

عد سالما من رحلة الغياب ولا تطع قلبك في وهن السحاب. عد من غفوتك، من يقظتك المغمى عليها، ففي الباب قصيدة لا تحتمل الانتظار. عد سالما، معافى من سوء التغذية، وسوء الطالع، وسوء الأرق الطويل. عد سالما كما ولدتك أمك.

طال نومك فانهض، وارو لنا ما رأيت. انهض فقد أسعفتك يد إلهية تأبى الغياب. طال صمتك، فاصرخ لتعرف أنك حي، ولنعرف أننا جيران. فإن التقينا ثانية، نم هادئا واحلم أنك حي. احلم لأن الحب أعفاك من الألم.

احلم، وإن قيل لك: ستموت اليوم، اطلب مهلة للرد وواصل المشي بإيقاع أبطأ. امش خفيفا لئلا تكسر هشاشتك، أو ثقيلا لئلا تطير.

احلم فأنت مهما مت ستحيا، لأن لا شيء يثبت أنك غبت كل هذا الغياب.. لا شيء يمنع أن تعود من رحلتك هذا النهار... هذا النهار.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى