الخميس ١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٥
بقلم أحلام الغزاوي

لحظة صمت

فرقتهما صفحات طواها الزمن بيساره،وحبات رمل تساقطت من يمينه ....فرقتهما جبال انتصبت بشموخ ووديان غارت بذل ،فرقتهما جراح سطرها المغتصب في جسد الأرض وجواز سفر ألغى صدق الكلمة.

فرقتهما رصاصة صرخت في يوم علا فيه الصراخ وبندقية كانت في وجه طفل أصغر وأهون سلاح. فرقتهما جماعة لم تكن منهم ولن تكون ..جماعة من مغتصبي الأرض من بني صهيون ..جماعة حفروا قبورهم بأضراسهم ونهشوا بأظافرهم وجوههم ،في ذلك اليوم كانت الشمس قد سطعت باكراً وأيقظت بأشعتها المتسللة من كل مكان كل الأصوات.

في ذلك اليوم لبس كل واحد منا مريلته وحقيبة كتبه, ثم وكما في كل مطلع شمس جرينا كشياه يسوقها راعيها ،وتضاحكنا حتى عانقت ضحكاتنا سحب السماء .وكنا نوقظ في طريقنا كل بستان وحظيرة ،ونهز بصراخنا ولهونا كل حجر وكل صخرة ،كنا كعصفورين متراقصين في كبد السماء .حتى وصلنا إلى مسجدنا الأثير –ملتقى عصافير القرية المغردة-وبعد وقت ليس بطويل ،وكما لو أن ستارة أسدل وانتهى فصل من فصول المسرحية .تحول صراخنا إلى صمت وإن تجازونا فإلى همس ؛عندما وطأت قدما شيخان صحن المسجد ،عندها حتى تلك المخلوقات التي في جحورها تفضل الصمت ...وأحيانا يتوقف الهواء عن الاضطراب .

كم أحن إلى تلك الأيام ..وكم أحن إلى شيخنا والى أطفال القرية ...كان ذلك اليوم يوما حفرت أحداثه في قلبي وسطرت كلمات شخوصه في ذاكرتي.

أذكر يومها أن طيورا حلقت فوق قريتي ولكنها ليست كطيور بلادي ،فهي طائرات تهدر ولا تغرد وبيضها الذي رمتنا به بيض متفجر ...كانت تلك أول مرة أرى فيها وجه شيخنا وقد اكتسى بالخوف وصوته علا عن نبرته المعهودة ليأمرنا بالتفرق:"كلٌ إلى داره".

يومها أمسكت بيد أخي ...تركت ساقي للريح ولم أشعر بالأرض التي أدوسها وبالرغم من سرعتنا الفائقة فقد كان الطريق إلى دارنا أطول من المعتاد .وما أن لاحت القرية من بعيد حتى دوى صوت انفجار أودى بدمار ثلث دور القرية ......نجوت وأخي ولكنا تسمرنا في الأرض دون حراك حين رأينا جداران دارنا وقد تحولت إلى غبار ...لا أعرف وقتها كم كان قد مضى على تصلبنا ولكني أذكر أن رجلا قطع صمت أجسادنا بدفعنا أمامه في ركبٍ التحق به كل من نجى من أبناء القرية ،وبالرغم من أن أقدامي تحررت من أغلال الصمت إلا أن صورة حطام الدار لا يزال ماثلا أمامي...وقتها كنت لا أزال أظن بأن أصابعي وأخي لا تزال ملتحمة ،وبعد وقت لا أدرك حدوده استيقظت في كابوسي هذا وحيدا ...لم أجد أخي إلى جانبي ..التفت شمالا ويمينا ،صرخت كثيرا ،ناديت وناديت ولكن دونما نتيجة.

ومرت الأيام الواحد تلو الآخر وكل يوم فيها دهر يضاهي عمراً بطوله وأنا أبحث بين طيات التاريخ وبين دقائق الزمن عَلي أغفلت في ذاكرتي ثانية تسوقني إلى طرف خيط يقودني إلى أخي ..عل يتيما مثلي يجد أنيسا له يشاركه الذكريات ويشاطره الأحزان..

.أخي ملت الأوراق كلماتي وجفت محابري وأقلامي ....لكن بصيص نور لا يزال يدفع قلبي للنبض وقلمي الجاف للكتابة .وكأنما ألقى الله في قلبي إيمانا بحتمية إيجادك..لذا سأكتب لك.. إن جفت محابري فبدمائي وإن نفذت أوراقي فعلى جلدي...أخي أين أنت ؟عد فإني احبك....


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى