الثلاثاء ٢٣ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٨
بقلم عمر يوسف سليمان

لذة الكتابة بين الحلم والواقع

حين كنتُ طفلاً، كان يجذبني حد الغوايةِ مرأى ممثلٍ يقوم بدور صحفي أو أديب في التلفاز، وكنت أتلذذ كثيراً برؤيتهِ يحمل مصنفاً رمادياً فيه أوراقٌ يريد نشرها، ويقوم بتسليمها لرئيس التحرير الذي يطلب منه أن يخفف من لهجته النقدية أو ينقل إليه إعجاب القراء...

وحين أرى مشهداً فيه كاتبٌ وراء طاولته منهمكٌ بالكتابة، كنت أحلم أنني يوماً سأملك مثل هذه الطاولة، كما أملك نفس الأوراق البيضاء-كنت أتذكرها حين أرى الحمام ساعة العصر محلقاً فوق دار جدي ذات الطراز العربي القديم-...فالورق الأبيضُ يعني لي الحمام، الذي كان يستخدم كساعي بريد، أما قلم الحبر الذي كان يحمله الممثل ، فكنتُ أوفِّرُ (الخرجية)كي أشتري قلم حبر غالي الثمن مثله، كنت أعشق رائحته التي تشعرني-حتى الآنَ- بالدفء والأمان، وكنت أحلم بأن أصبح شاعراً، تُنشر دواوينه وينقل مخيلته إلى الورق، ويمر أمام المكتبات لكي يراها معلقة.

حتى أنني كنت أسعى في قريتنا البعيدة القريبة إلى مكتباتها لأبتاع دفتراً خاصاً بكتابة الشعر!!، هل لديك دفتر خاص بالكتابة؟، وليس لاستخدامه في المدرسة، كنت أحس بفرق بين أن يكون الدفتر لتدوين الوظائف المدرسية وبين أن يكون للكتابة الحرة...، هو ذات الفرق الذي أشعر به الآن بين الدراسة الأكاديمية التي لا تعني لي شيئاً وبين كتابة الأدب.

أخيراً تحقق الحلم وامتلكت الطاولة أيضاً، ولكن حين جلست خلفها كي أكتب كما يفعل الممثل، فقدت لذتي، لذة القلم والأوراق والطاولة، والضوء الخافت، ووجدت أنني أمام فراغٍ ما، لا يُملأ إلا بلذة الكتابة نفسها.

حقيقة، لم يتغير شعوري تجاه القلم أو الورق إلى الآن، وإلى الآن لا أستطيع النوم إذا لم يكن بجانبي أوراق وقلم، ولكن ما تغير هو الواقع، الكتابة لم تعد لذتها بما تقدمه، بل بما يقدمه الكاتب، وهي لعنة عذبة، ساحرة، لم أحسب حين كنت طفلاً أنني سأكتب ما أكتبه الآن عن طفولتي، كما لم أحسب أن الكتابة ستصبح قريتي في المنفى، ومثلما فقدت لذة الصغر تجاه الكتابة ربحت لذة الذكريات، ويجتاحني سؤال الآن:هل سأخسر لذتي الحالية تجاه الكتابة حين يتقدم بي العمر أكثر؟.

حين يجيء أخي الصغير ابن الثماني سنوات إلي الآن، ويجلس أمام جهازي ليكتب قصيدة على الوورد، يطلب مني بلهفة أن أقوم بطباعتها له، وحين تكتمل الطباعة ينتشي بفرحٍ لا حدود له ويريني ما كتب، هذا الفرح لم يكن ليشعر به لو أن القصيدة بقيت أسيرة الجهاز.

الشيء الوحيد الذي أحببته في المدرسة هو مادة التعبير الأدبي، وقواعد اللغة والشعر الذي كنا نردده لسليمان العيسى، في الصباح كان شعر سليمان العيسى يصدح من أفواهنا مع ضوء النافذة مداعباً الكتاب الذي أحتضنه في يدي الصغيرتين بأنوار الربيع الحالمة، وكنت أرى أشجار السرو التي تتمايل خلفها والتي تمثل لي في الربيع الفرح والحرية ورحلات الصيف، أما في الشتاء فتمثل النساء الثكالى.

أذكر جيداً حين كنت في الصف السادس كيف سهرت ليلاً كاملاً لكتابة موضوع تعبير، طُلب منا به أن نكمل قصة بائعة الكبريت الشهيرة، والتي ماتت من البرد ليلة عيد الميلاد بعد أن استنفذت جميع العيدان، كلٌ حسب خياله، وأذكر أن بائعة الكبرت حين أشعلت العود الأخير لم يطفأ، بل رأت خلفها أرجل رجلٍ قام بأخذها إلى منزله واعتنى بها حتى كبرت وتخرجت من الجامعة طبيبة، وحين افتتحت العيادة فوجئت بأحد المرضى يبوح لها بأنه أباها الذي ضيعها عندما كانت طفلة، وعثر عليها الآن، أما الرجل المربي فقد أصبح صديق العائلة.

لم أكن أدري لمَ جعلت بائعة الكبريت تحيا، ولم جعلتها طبيبة، ولكني أستطيع الآن أن أفسر السبب في غياب أمي –الطبيبة والتي لم أعرفها في الصغر كما لم اعرف والدي-، فالطبيبة تمثل لي العودة، عودة الأم المطلقة.

وفي اليوم التالي أحضرت آلةَ تسجيلٍ صغيرة وضعت بها شريطاً يحوي موسيقا هادئة حتى ترافق إلقائي للموضوع، وبعد انتهائي فوجئت بإعجاب مدرسنا –الذي لم أكن أحبه بسبب عصبيته الدائمة-بالموضوع أيما إعجاب، ومنحني الدرجة الكاملة، وفي دارنا، أخبرت بعض الأهل بما كان، وأذكر دموع جدتي التي انهمرت بعد أن قرأتُ الموضوع أمامها، ولا زالت تمثل لي قلب المرأة الذي لا يحتاج للكثير كي يبكي، وصراحة أحسست بالنشوة لكوني استطعت التأثير بما أكتب، ثم سألت عمتي التي كانت حاضرة:ماذا عليَّ أن أدرس في الجامعة كي أستطيع أن أصبح كاتباً!؟، كنت أظن أن هناك فرعاً جامعياً لا بد لمن يريد الكتابة أن يدخلهُ حتى يُعترف به ككاتب، فأجبتني:أدب عربي، (بس ما بدك ياها) يجب أن تدخل فرعاً علمياً...

وعلى الرغم من أنني أدرس الأدب العربي الآن، فليس لكي أصبح كاتباً، الكتابة الآن تفرض نفسها، وهي شَرَكٌ يغاير تماماً كل ما يحلم به الطفل الكاتب، حين يرى بعد سنواتٍ طوالٍ بشاعة العالم، وتكشف الحياة عن وجوهها المختلفة، يتغير الفرح والحزن والألم، ويأخذان أشكالاً مختلفة، ينقشع الحلم اللذيذ الذي يراود الطفل، ويصبح الأمر مغايراً برمته.

لا أكتب الآنَ وراء طاولة، ولا يهمني الأمر، كما لا يهمني نوع القلم ولا الورق، والنشر ليس لمجرد النشر.

غواية الكتابة أقوى من ذلك، وعلى الرغم من لذتها التي لا توصف، والتي تغيرت، لم أكن أدري أن ما أشعره الآن من برد العالم والقلق والخوف والمعاناة ضريبة للكتابة.

على أية حال، أشعر أنه لو لم تكن طفولتي كما كانت لما أصبح الشاعر كما عليه الآن، ولا الكاتب، على الأقل بالنسبة لهذا المقال!، الذي أرسله عبر البريد الالكتروني بعد كتابته على (الوورد)!!، وليس على الورق الأبيض بقلم الحبر السائل، و دون بمغلف رمادي، أو طابع بريد، كما لا أدري إذا كان سينشر أم لا...

ترى كيف سأكمل قصة بائعة الكبريت الآن؟


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى