الاثنين ٦ شباط (فبراير) ٢٠١٢
ديوان «كزهر اللوز أو أبعد»
بقلم إبتسام أبو محفوظ

لمحمود درويش نموذجاً

الغموض في الشعر العربي الحديث

تهدف هذه الدراسة الى كشف سمة الغموض في الشعر العربي الحديث وذلك من خلال تجربة الشاعر العربي محمود درويش وتحاول ان تبين أثر الغموض على استقبال النص وتأويله، اذ «أخذت الاتجاهات النقدية الحديثة تلح على دور المتلقي في استقبال النص وتفسير« مقاصده، وضرورة تفعيل دوره واستثمار طاقاته...ولعل نظرية التلقي التي ارسى دعائمها كل من الناقدين «هانز روبرت ياوس» و«وولف جانج ايزر» قد منحت المتلقي ايضا دورا واسعا في توجيه النص وتحديد قراءاته المتاحة "(1)، " فقد أصبح المتلقي نقطة البداية...لفهم العمل الادبي " (2)، وتمثل موقفهم في بعدين: أولهما: ما سماه (ياوس) افق الانتظار، ويربط به بين العمل ومرجعياته، وتوقعنا له وانقطاع ذلك الافق (3)، وثانيهما: ما سماه ايزر - القارئ الضمني -، حيث انصب جهده على ابراز دور خبرة المتلقي في تأويل العمل الفني وتحليل ابعاده اذ رأى " ان العمل الادبي ينطوي في بنياته الاساسية على متلق قد افترضه المؤلف بصورة لا شعورية، وهو متضمن في النص في شكله وتوجهاته واسلوبه " (4) وبما ان المتلقين مختلفون في طرائق قراءاتهم ودرجات استجاباتهم للنص فان تأويلاتهم ستكون مختلفة ايضا ومن هنا اصبحت القراءة ابداع جديد للنص لانهم رأوا ان القارئ هو الذي ينتج النص، ومثل هذه النظرة لن تصدق على النص البسيط لأن القراءات تستهلكه سريعا، ولا يسمح للمتلقي أن يذهب بعيدا في تأويله أو الاسهام على نحو واضح في انتاج دلالاته. ذلك أن مقاصد المؤلف ستكون قريبة ولا تحتاج جهدا في الوصول اليها أما النص الغامض فيستعصي على المتلقين ويوجد لديهم رغبة في دراسته وكشف غموضه.

وقد تناول البحث هذه الظاهرة من خلال ديوان (كزهر اللوز أو أبعد) للشاعر محمود درويش. وقد انقسم الى فصلين هما:

1 - الغموض مفهوما ومصطلحا.

2 - نموذج تطبيقي (كزهر اللوز أو أبعد).

أولا: الغموض مفهوما ومصطلحا:

أشارت المعاجم اللغوية الى الغموض من خلال استخداماته اللغوية المختلفة، فالغموض في اللغة "مصدر غمض وهو كل ما لم يصل اليك واضحا، فالغامض من الكلام خلاف الواضح"(5 )..

أما في المعاجم الانجليزية المعاصرة فان مصطلح الغموض ambiguty فهو اللغة المجازية figuratve langugeh( 6 ) او تعدد احتمالات المعنى، تلك اللغة التي تمثل المستوى الفني والجمالي في الاعمال الابداعية

أما حضور مصطلح الغموض في النقد المعاصر فيعود الى الناقد الانجليزي وليام امبسون في كتابه المعروف ( سبعة انماط من الغموض ) الذي نشره عام 1930، وهو يحدد معنى الغموض في المقدمة: " انك لا تحسم حسما فيما تعنيه، أو ان تقصد الى ان تعني اشياء عديدة، وفيه احتمال انك تعني واحدا أو أخر من شييئن، أو ان تعني كليهما معا، وان الحقيقة ذات معان متعددة " ( 7 ).وقد تناول سلسلة من الغموضات المحددة والغموضات القابلة للفصل التي يمكن ان نفصل فيها العديد من المعاني البسيطة الكبيرة وقام بترتيب هذه الغموضات طبقا لتزايد المسافة التي تفصل هذه الغموضات عن كل من العبارة الخبرية التقريرية البسيطة والعرض المنطقي.

وقد رد امبسون على النقاد الذين قالوا ان معنى الشعر لا يهم، لأن الشعر يفهم على انه صوت صرف، وان ما يهم عن الشعر هو الجو العام فقال: " ان الحجة الريئسية التي ترتكز عليها مقولة ان الشعر صوت صرف انما تتمثل في الغرابة البالغة للطريقة التي يعمل بها الشعر تلك الطريقة التي تبدو الابيات من خلالها جميلة بلا اي سبب، وذلك من مجرد القاء نظرة واحدة على الالطريقة التي تستعمل القصيدة بها كلماتها، ومع ذلك فان هذا الدليل لا يوضح سوى القليل عما يمكن ان تكونه هذه الاشياء، وانا بدوري سوف احاول التنمر على قرائي في اهمية الغموض لهذا السبب وحده ايضا ( 8 )."

فالرأي الرسمي الصحيح يتمثل في ان الصوت ينبغي ان يكون صدى للمعنى " ( 9 ).

كما يعلن عن "المعيار الذي يصلح للتمييز بين أنواع الغموض الجيدة والرديئة فيكون الغموض محترما ما دام يسند تعقيد الفكر أو لطافته أو اكتنازه أو ما دام فرصة يستغلها الاديب ليقول بسرعة ما قد فهمه القارئ ولا يستحق الاحترام ان كان وليد ضعف او ضحالة في الفكر او عندما لا تتوقف قية العبارة على ذلك الغموض بل يكون مجرد وسيلة لتوجيه المادة وتصريفها.. ويحتشد الغموض في اعظم مراكز التأثير الشعري ويولد صفة يسميها التوتر أو الهزة الشعرية وكلما زاد التضاد زاد التوتر "( 10 ).

أما انماط الغموض السبعة لدى امبسون فهي( 11 ):

1 - حين تكون الكلمة أو التركيب أو المبنى النحوي مؤثرا من عدة أوجه دفعة واحدة مع انه لا يعطي الا حقيقة واحدة. ويحدث عندما يتجسد في النص عدد من التفاصيل التي تتحدث عن دلالات متعددة في الوقت نفسه، ويتمثل ذلك في الاستعارة البعيدة او الايقاع او الوزن. كما يوضح ان الجملة البسيطة التي يظن انها خالية تماما من الغموض يمكن ان تكون كذلك في الواقع ويدلل على وجهة النظر هذه بالجملة التالية " القطة البنية جلست على السجادة الحمراء"، فيبين ان هذه الجملة على بساطتها ووضوحها يمكن تحليلها من عدة اوجه.

2 - في غموضات النوع الثاني يجري تحديد معنيين أو أكثر من المعاني البديلة تحديدا تاما في معنى واحد.

3 -شرط النوع الثالث من الغموض مفاده ان معنيين غير مرتبطين ظاهريا يجري تقديمهما في أن واحد مثل التوريات المأخوذة من ميلتون ومارفل. الشكل التعميمي عندما تكون هناك اشارة الى اكثر من كون من اكوان الخطاب والمجاز والمقارنة المتبادلة وهكذا فانه يجري حين يستطاع تقديم فكرتين في كلمة واحدة وفي وقت معا ولا يربط بين الفكرتين الا كونهما متناسبتين في النص.

4 -تترابط المعاني البديلة في النوع الرابع لتوضيح حالة من حالات الذهن المعقدة عند المؤلف،وعليه فان هذا النوع من الغموض يجري حين لا يتفق معنيان أو اكثر لعبارة واحدة ولكنهما يجتمعان ليكونا حالة عقلية أكثر تعقيدا عند المؤلف.

5 - حين يستكشف المؤلف فكرته اثناء الكتابة او لا يستطيع ان يحيط بها في فكره دفعة واحدة حتى انه قد يكون هناك مثلا تشبيه لا ينطبق على شيئ ما تمام الانطباق ولكنه يقع في موقف وسط بين شيئيئن عندما ينتقل المؤلف من احد الشيئيئن الى الاخر.

6 - حين لا تفيد العبارة شيئا اما للتكرار او للتضاد او لعدم تناسب العبارات فيضطر القارئ ان يخترع عبارات من عنده وهي قابلة للتضارب فيما بينها.

7 - حين يكون معنيا الكلمة أي قيمتا الغموض هما المعنيين المتضادين اللذين تحددهما القرينة فتكون النتيجة الكلية هي ان يكشف عن انقسام اساسي في عقل الكاتب.

ويحصل امبسون على دقائق المعاني نتيجة للجهد الكبير الذي يبذله لا لخفقة من خفقات الالهام، من ذلك انه يستخرج كلمة اخضر من شعر مارفن ويدرس كيف استعملت ويعين قرينة الافكار المتداعية المترابطة مثل ان يمضي للكشف عن نواحي الغموض في الخضرة، واحيانا نراه يقدم عنقودا من المعاني دون ان يذكر مصادرها. يحاول المتلقي اعادة تفكيك النص وانتاجه مرة اخرى وذلك لان النص الادبي مثقل بالدلالات والايحاءات والرموز والصور فالطاقة الفنية تجعل النص غامضا بحيث يطرح النص الابداعي بسبب غموضه امكانيات متعددةواحتمالات مختلفة للتأويل والتفسير، فالغموض الذي يواجه المتلقي ناشئ عن اهتزاز الصورة الثابتة لعلاقة الدال بالمدلول بحيث يصبح للكلمات والتعابير دلالات جديدة متشابكة مع غيرها في النص الابداعي.

" وفي الشعر العربي الحر اصبحت ظاهرة الغموض من اهم ما يتصف به هذا الشعر، وقد ادى ذلك الى خلق فجوة كبيرة بين الشاعر والقارئ، والى جدل مستمر بين الشعراء والقراء والنقاد حول لغة هذا الشعر وحول ما اذا كان هذا الغموض متكلفا ام عفويا " ( 12 ).

وقد لخص ادونيس موقفه المؤيد من الغموض عندما سئل ان كان يحب الغموض فأجاب بقوله: " نعم، ولكن بالمعنى الشعري الخالص. اي المعنى الذي يناقض الالغاز والتعمية والاحاجي. فالقصيدة العظيمة لا تكون حاضرة أمامك كالرغيف أو كأس الماء وهي ليست شيئا مسطحا تراه وتلمسه وتحيط به دفعة واحدة... انها عالم ذو أبعاد، عالم متموج متداخل كثيف بشفافيته، تعيش فيها وتعجز عن القبض عليها. تقودك في سديم من المشاعر والاحاسيس، سديم يستقل بنظامه الخاص. تغمرك، وحين تهم ان تحضنها تفلت من بين ذراعيك كاموج " ( 13 ).

ويرى الدكتور خليل موسى ان " للغموض في الشعر العربي المعاصر جماليات، وبخاصة بعد ان كان القارئ منفعلا بالنص صار فاعلا وتحول النص ذاته الى وسيلة اختبار نفسية وهذا يعني ان الشاعر يحصن نصه والقارئ يحتاج الى ان يبذل جهودا مضاعفة للوصول الى غرضه ( 14 ).

ويأخذ محمد الهادي الطرابلسي على دارسي الغموض في الشعر الحداثي ان مواقفهم من ظاهرة الغموض غامضة لانهم - مع وعيهم بحضور الغموض في الشعر - لم يحتكموا الى هذه الظاهرة في تقويم الشعر وتمييز جيده من رديئه. فبقيت مشكلة الغموض بحاجة الى مباشرة موضوعية يحقق في شأنها، ويتساءل فيما اذا كان الغموض عارضا في الشعر ام عنصرا لازما فيه بحيث لا يوجد احدهما الا بوجود الاخر. ومن هنا يطالب الدارسين بضرورة بيان صلة الغموض بالشعر في مفهومه ومظهره النصي ووظيفته السامية للتمييز بين غموض البناء وغموض الهدم (15 ).

نموذج تحليلي: كزهر اللوز أو أبعد:

يوظف الشاعر عنصر الغموض وطاقاته الايحائية في عنوان مجموعته الشعرية هذه التي تحمل عنوان: كزهر اللوز أو ابعد " فالقصيدة تصير حقيقة فجرية لا مفر من الترحاب المدهش بحلتها الوردية المزهرة لا في لحظة بصر فحسب بل تمتد في اللازمن فتستمر في ديمومة اللحظة الجمالية، ولعل حوارات الانا مع احوالها تحت لوز الحب والتأملات في العيش الشخصي وتحت زهر الشؤون والشجون الاخرى لن تجعل الشاعر يتغافل في لحظات كينوناته عن الجلوس تحت لوز المصير.

في قصيدته " احب الخريف وظل المعاني " يلجأ درويش الى المعاني البديلة التي تترابط معا لتوضيح حالة من حالات الذهن المعقدة لديه اذ تترابط الدوال: الخريف وظل المعاني والغموض والموت لتشكيل عوالمه الفريدة انطلاقا من زوال الحدود والتصنيفات فالخريف يتجسد في منطقة غامضة ملتبسة يبدأ فيها الابداع في تشكيل عالمه، الخريف هنا مرحلة اعادة التكوين وصياغة الاشياء من جديد وادراك العالم والانحياز لقدرته الانتاجية الخفية ففيه الكتابة والحياة والموت واعادة تسمية الاشياء كالبذرة التي يخيل الينا انها ماتت لكنها تعود للحياة من جديد فهو قوة النشوء الكامنة في الغياب. الخريف يتحدى النهايات فيكتسب الليل وهجا والضوء عتمة،انه لذة البدايات الاخرى في سياق الغياب والنهايات المتوهجة بحياة جديدة، الخريف معادل للغياب المعلق الذي لا يكتمل لانه منتج لحياة خفية ملتبسة بالحضور.والموت كالخريف أو هو تأويل له ملتبس بفرح الحياة فالحياة والموت في حالتي صخب وفرح:

أحب الخريف وظل المعاني، ويعجبني
في الخريف غموض خفيف شفيف المناديل،
كالشعر غب ولادته اذ " يزغلله"
وهج الليل أو عتمة الضوء. يحبوولا يجد الاسم للشيئ
 
يعجبني مطر خفرلا يبلل الا
البعيدات
في مثل هذا الخريف تقاطع موكب عرس
لنا مع احدىالجنازات، فاحتفل الحي
بالميت والميت بالحي )16)

والخريف انتظار للحياة وفراغ للاخيلة الصاخبة القادمة الحاملة لكل اطياف الحكايات والاشعار والمعارك:

يعجبني أن أرى ملكا ينحني لاستعادة
لؤلؤة التاج من سمك في البحيرة /(17)

الخريف حياة ما بعد الحياة هدنة وانتظار تتراوح فيه الدوال بين التحقق والانتظار:

يعجبني أنه هدنة بين جيشين ينتظران
المباراة ما بين شاعرتين تحبان فصل الخريف،
وتختلفان على وجه الاستعارة
ويعجبني في الخريف التواطؤبين
الرؤى والعبارة (18 )

ونرى درويش يلجأ الى التركيب النحوي الذي يسمح بتعدد التأويلات واضفاء الغموض على شعره، ولعل لعبة الضمائر عنده تكاد تبرز بشكل واضح في ديوانه هذا من خلال ارجاع الضمير على أكثر من مرجع أو ارجاعه على مجهول لم يسبق تحديده،" فالضمائر لا تخلو من الغموض وقد يقف المرء عاجزا عن ارجاع الضمير في الجملة على مرجع معين وذلك لعدم وجود قرينة محددة في النص أو الجملة تعينه على تحديد هذا المرجع"( 19 ).

ويتبدى هذا النوع من الغموض في قصائد متعددة في الديوان نقف على بعضها ها هنا، ففي قصيدته " مقهى، وأنت مع الجريدة " نقف على الضمير المنفصل أنت للمخاطب أو المتصل في لست وحدك، كأسك، والمستتر في ترى المبني للمعلوم وترى المبني للمجهول وغيرها فما المقصود بهذه ال انت هل يخاطبه الشاعر؟فهو يرى ولا يرى فلا يراه أحد، لا أحد يحملق في حضوره أو غيابه، فهل هو الشاعر أم طيفه؟ هل يشكل من هذا الطيف جسدا جديدا يشبه الحياة ويتحداها او يتجاوزها في ولادة جديدة خارج هذا العالم بكل ما فيه من عوالم مادية وموت وصراعات.

ثمة صوتان في القصيدة صوت شخصي واخر كوني فالوعي يعاين التحول والكينونة الجديدة في ولادتها الاخرى وسياقاتها المنتظرة خارج الحدود القديمة:

مقهى، وانت مع الجريد جالس
لا، لست وحدك. نصف كأسك فارغ
والشمس تملأ نصفها الثاني...
ومن خلف الزجاج ترى المشاة المسرعين
ولا ترى احدى صفات الغيب تلك
ترى ولكن لا ترى
كم أنت حر ايها المنسي في المقهى
فلا أحد يرى أثر الكمنجة فيك،
لا احد يحملق في حضورك أو غيابك،
أو يدقق في غيابك
أو يدقق في ضبابك ان نظرت
الى فتاة وانكسرت أمامها (20)

وامعن الشاعر في تصور حالة الغياب المقصودة بل حوله الى وعي مرح طليق خارج الحدود والقيود الجسدية الظاهرة:

فاصنع بنفسك ما تشاء، اخلع
قميصك أو حذاءك ان اردت، فأنت
منسي وحر في خيالك، ليس لاسمك
أو لوجهك ههنا عمل ضروري.تكون
كما تكون...فلا صديق ولا عدو
هنا يراقب ذكرياتك (21)

وتظل حالة السكون مسيطرة على هذا الطيف شرط الذوبان في شعر ما بعد الموت وما بعد الحالة الانسانية:

مقهى،وانت مع الجريدة جالس
في الركن منسيا، فلا أحد يهين
مزاجك الصافي،
ولا أحد يفكر باغتيالك
كم أنت منسي وحر في خيالك ( 22)

واستخدام الضمائر على هذا النحو المعمى يحدث لبسا في النص ويدخله دائرة الغموض، ففي قصيدته" لم ينتظر أحدا" نراه يفتتح النص بضمير لا يعود على مذكور سابقا فلا تدرك مدلولاته ولا مقاصد الشاعر من اصطناعه اذ يواجهنا في هذه القصيدة اشكال يتأتى من الضمير المستتر في ينتظر ويشعر والضمير الظاهر في: أمامه وقلبه ومعطفه فمن هو الذي لم ينتظر أحدا؟ هل يقترب الشاعر من ذاته أم يقترب من الانسان عامة الذي جسدته حالته؟

لم ينتظر احدا،
ولم يشعر بنقص في الوجود،
أمامه نهر رمادي كمعطفه،
ونور الشمس يملأ قلبه بالصحو
والاشجار العالية /(23)

ويستطيع ان يكون الانا وال هو وال انت وجسر الممكن الى المستحيل:

انا اثنان في واحد
أم انا
واحد يتشظى الى اثنين
يا جسر يا جسر
أي الشتيتين منا أنا (24)

ويستطيع ان يجعل هؤلاء الثلاثة انا وانت والابدية يسبحون في لا مكان وفي لا زمان ايضا، اذ يعتبر حبه شبق الروح للطيران:

قيل: قوي هو الحب كالموت

قلت: ولكن شهوتنا للحياة،

ولو خذلتنا البراهين، أقوى من

الحب والموت /

فلننه طقس جنازتنا كي نشارك

جيراننا في الغناء

الحيلة بديهية... وحقيقية كالهباء (25 )

وقد يلجأ الشاعر الى نوع اخر من الغموض اشار اليها امبسون في النوع الثالث من الغموض وهي تقديم المعاني غير المرتبطة ظاهريا يجري تقديمها في ان واحد عن طريق المجازات ففي قصيدته فراغ فسيح نراه يقدم تشكيلة من التداعيات والاستعارات في اشارة الى اختلاط الانفعالات والصور بحالات التجسد المؤقتة التي تسمح لنفسها بالظهور والعودة في أشكال جديدة، يعلق المكان في تجسدات مؤقتة: فالافق مهمل والارض مجعدة الوجه والشمس عمودية لا حياة ولا موت حول المكان ويحاول ان يرتقي بالمكان من هذه التجسدات المؤقتة من خلال اخيلة القصيدة لتجعلها تعود في اشكال جديدة:

فراغ فسيح. نحاس. عصافير حنطية
اللون. صفصافة.كسل.افق مهمل
كالحكاياالكبيرة.أرض مجعدة الوجه.
صيف كثير التثاؤب كالكلب في ظل
زيتونةيابس. عرق في الحجارة.
شمس عمودية. لا حياة ولا موت
حول المكان. جفاف كرائحة الضوء في
القمح لا ماء في البئر والقلب
لا حب في عمل الحب (26)

وفي تناولنا للغموض في هذا الديوان نلمس اللغة الاستعارية الانزياحية بوضوح فيه اذ يتجاوز النص الابعاد المعجمية للدال ليحقق دلالة ابعد عما هو مألوف بين الناس لينجز بذلك المستوى الشعري للرمز... ومع ذلك فان الشاعر لا ينبت عن الدلالة المعجمية تماما أو يلغيها، وينفي اي أثر لها، لأنها تظل هي الهادي الوحيد الذي تستعين به في الوصول الى المدلول الجديد ،واذا ما انفصمت العلاقة بين الرمز في دلالته المعجمية ودلالته الشعرية ستعوم دلالات النص ويصبح من المستحيل الاطمئنان الى مقاصد واشارات، فيصبح لكل شاعر لغته المستقلة عن النظام الاشاري السيميائي للكلام المتواطأ عليه بين أبناء اللسان الواحد (27). ومن يقرأ شعر محمود درويش يجد فيه كثيرا من الرموز التي يصعب عليه ان يحيلها الى مرجعية دلالية موثوقة أو مقاربة مما يجعل الاطمئنان الى مقاصد قد يحملها النص أمرا يكتنفه الغموض، وهذا النوع من الغموض يرتبط بالغموض اللفظي الدلالي الذي أشاراليه امبسون في انماط الغموض السبعة التي درسها وتشير الى انصراف اللفظ الى معنى مرتبط بتجربة معينة أو بحالة نفسية واعية أو لا واعية ليس منفصلا عن أطر الدلالة اللغوية للفظ.

فالجسر طريق العبور ولكنه في قصيدة" ضباب كثيف على الجسر" يبدو محملا بابعاد نفسية متعددة فهل هو جسر العبور الى الوطن؟أم الى المنفى والشتات؟ أم الى المنفى الخاص الذي عبر اليه الشاعر بعد الستين من العمر؟ يتجسد دال الجسر في منطقة ضبابية بيدأ فيها التساؤل عن مدى امكانية تشكيل زمن جديد أو ابداع جديد يخرج بها من هذه المرحلة الضبابية نحو بداية جديدة اذ يقترن الفجر بالجسر لتكون العودة الى البدايات الجديدة حيث الارتباط الغريزي بالوطن /موطن البديهة وسدرة المنتهى:

قال لي صاحبي، والضباب كثيف

على الجسر:

هل يعرف الشيء من ضده؟
قلت: في الفجر يتضح الامر
قال: وليس هنالك وقت اشد
التباسا من الفجر
فاترك خيالك للنهر /
في زرقة الفجر يعدم في
باحة السجن، أو قرب حرش الصنوبر
شاب تفاءل بالنصر /
في زرقة البحر ترسم رائحة الخبز
خارطة للحياة ربيعية الصيف
في زرقة الفجر يستيقظ الحالمون
خفافا ويمشون في ماء أحلامهم
مرحين
الى اين يأخذنا الفجر، والفجر
جسر، الى اين يأخذنا؟
قال لي صاحبي: لا أريد مكانا
لأدفن فيه. أريد مكانا لأحيا،
وألعنه ان أردت.
فقلت له -والمكان يمر كايماءة
بيننا: ما المكان؟
فقال: عثور الحواس على موطئ
للبديهة، ( 28 ).

الهوامش:

1- رواشدة ( سامح ): الغموض وأثره في تلقي النص الشعري دراسة في شعر محمود درويش. مجلة مؤتة للبحوث للدراسات. المجلد الرابع عشر، العدد الخامس، 1999.

2 - خضر ( ناظم عودة ): الأصول المعرفية لنظرية التلقي، دار الشروق، عمان، 1997، ص 14

3 - انظر السابق نفسه.

4 - السابق ص 148..

5 - ابن منظور: لسان العرب، مادة غمض.

6 – woolf،HenryBosley (and others):Webster’s
NewCollegateDictionary،MerriamCompany Massachusetts 1976.

7 - امبسون ( وليام ): سبعة أنماط من الغموض، ترجمة صبري محمد حسن عبد النبي، مراجعة وتدقيق ماهر شفيق فريد، المجلس الأعلى للثقافة، 2000، ص 24.

8 - السابق ص 27- 28.

9 - السابق ص 31.

10 - هايمن ( ستايلي ): النقد الأدبي ومدارسه الحديثة، ترجمة إحسان عباس، ومحمد يوسف نجم ج2، ص 57.

11 - امسون ( وليام ): سبعة أنماط من الغموض ص

12 - سليمان ( خالد ): أنماط من الغموض في الشعر العربي الحر، منشورات جامعة اليرموك، 1987، ص 20.

13 - ادونيس: زمن الشعر، دار العودة، بيروت، ط3، 1983، ص158-159.

14 - موسى ( خليل ): الغموض في الشعر العربي المعاصر وجماليات القراءة والتلقي، مجلة جامعة دمشق - المجلد 15-العدد الاول - 1999.

15 - الطرابلسي ( محمد الهادي ): من مظاهر الحداثة في الادب..الغموض في الشعر، مجلة فصول، عدد 4، مج 4، 1984.

16 - درويش ( محمود ): كزهر اللوز أو أبعد، دار رياض الريس للنشر، ط1، 2005، ص 55.

17 - السابق.

18 - السابق.

19 - سليمان ( خالد ): ظاهرة الغموض في الشعر العربي الحر، ص 81.

20 - كزهر اللوز او ابعد، ص 25.

21- السابق ص 33.

22- السابق

23- السابق

24 - السابق ص 136.

25- السابق ص 40

26- السابق ص41.

27 -انظر دراسة الغموض وأثره في تلقي النص الشعري.لسامح رواشدة السابقة الذكر.

28 - ديوان كزهر اللوز او ابعد ص 127

المصادر والمراجع:

1 - ادونيس: زمن الشعر، دار العودة، بيروت، ط3، 1983.

2 - امبسون (وليام ): سبعة انماط من الغموض، ترجمة صبري محمد حسن عبد النبي، مراجعة وتدقيق ماهر شفيق فريد، المجلس الاعلى للثقافة، 2000.

3 - ابن منظور: لسان العرب، مادة غمض

4 - خضر (ناظم عودة): الاصول المعرفية لنظرية التلقي، دار الشروق، عمان، 1997.

5 - درويش (محمود): كزهر اللوز أو أبعد، دار رياض الريس للنشر، ط1، 2005.

6 - رواشدة (سامح): الغموض واثره في تلقي النص الشعري دراسة في شعر محمود درويش. مجلة مؤتة للبحوث للدراسات. المجلد الرابع عشر، العدد الخامس، 1999سليمان (خالد): انماط من الغموض في الشعر العربي الحر، منشورات جامعة اليرموك، 1987.

7 - الطرابلسي (محمد الهادي): من مظاهر الحداثة في الادب..الغموض في الشعر، مجلة فصول، عدد 4، مج 4، 1984.

8 - موسى (خليل): الغموض في الشعر العربي المعاصر وجماليات القراءة والتلقي، مجلة جامعة دمشق - المجلد 15-العدد الاول - 1999.

9 - هايمن (ستايلي): النقد الادبي ومدارسه الحديثة، ترجمة احسان عباس، ومحمد يوسف نجم ج2.

المراجع الأجنبية:

woolf،HenryBosley (and others):Webster’s New CollegateDictionary، Merriam Company Massachusetts 1976.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى