الثلاثاء ١٤ شباط (فبراير) ٢٠١٢
بقلم هيثم نافل والي

لهروب من الطاعون قرار مبكر

هتفَ المذياع بأعلى صوته بفرح عارم، معلناً عن انتهاء الحرب العراقية-الإيرانية...

ضربت أجراس الكنائس نفسها اغتباطا بالمناسبة، واستباحت المساجد لنفسها... حرية التعبير، فحفزت الناس على الدعاء والصلاة، لأجل الله الذي تدخلت إرادته الحية، كي تجعل أطراف النزاع أخيراً يركعون لنداء وصوت السلام... سبحان الله، كم هي قوته عظيمة ومؤثرة! فلم تتدخل تلكَ الإرادة إلا بعدَ ثمانية أعوام فقط من بدء القتال.

بينما كالعادة في الشرق(عندَ الحزن أو الفرح) ارتفعت الطلقات النارية الصاخبة عالياً تبتهج كالزغاريد في الهواء. خرجَ الشعب الأبي إلى الشوارع يعبر عن مدى سعادته... ويحلمُ بذات الوقت بسعادة قادمة أعظم وأكبر وأوسع وأشمل... بعدَ أن وضعت الحرب اليوم أوزارها. شرعت الجموع المندفعة وهي تصرخ كما هو الحال، من الفرح هاتفة:

سيعم السلام أرضنا

وسنبدأ بأعمار وطننا

كان الجميع غاصين في الفرح الغامر الذي يزعزع القلوب من مكانها... إلا هشام ابن الرابعة والعشرين، ظلَ واجماً، مفكراً لا يلوي على شيء سوى الاسترسال بتلك الخواطر التي داهمته على غفلة وبسرعة الشهب، لدى سماع صوت المذيع الرنان وهو يعلن انتهاء الحرب، بانتصار الحق على الباطل، والخير على قوى الشر.

أثارَ فيه ذلكَ الخبر، شجون وخواطر جديدة وأفكارا لم يكن من قبل قد حلم بها؛ هكذا سيطرت عليه وتغلبت على كل كيانه... تلك الهواجس قذفت به بعيداً... خارج أسوار الوطن، دونَ أن يعلم وهو تحت تأثير ووطأة وذهول الخبر... (انتهاء الحرب) وبلحظة حاسمة اتخذَ قراره المبكر، ذلكَ القرار الذي ينشقُ له البحر جزأين وكأنه عصا موسى!

اتصلَ بزوجته في الدار وهمسَ لها برفق ورقة... موضحاً لها قراره الذي اتخذه للتو. استمعت نهاد التي لم تتجاوز التاسعة عشرة، والتي تخرجت هذه السنة من الإعدادية، جميلة وحالمة وتمتلك نظرة ثاقبة للأمور التي تحيط بها وبقدرة فائقة... فهي غالباً ما يصدق حدسها، وتتبلور قراراتها بسرعة مذهلة، فأجابت زوجها بنبرة ممزوجة بالقوة والشجاعة والإخلاص:

نعم، سنكون هناك على أحسن حال... ثمَ استطردت بثقة عجيبة: سأكون بانتظارك، لنعد العدة ولنرى ما يمكن فعله على وجه السرعة... وهمست في أذنه خافقة: أحبك.

استمدوا من اليأس الذي كانَ يغلف حياتهم... قوة، ومن الزمن الذي خبروه وضاقوا لوعته... خبرة، فتحركوا في بداية أمرهم بسرية تامة، وبخفة ساحر، وبثبات وعزيمة فارس عربي أصيل...

مازالت هناك عقبة تقف أماهم، كالجبل...( الكفالة التي يجب أن توثق رسمياً، ويتعهد فيها على رجوعه إلى أرض الوطن مجدداً)... فتذكر أستاذه في ألجامعه، سعدي الحديثي، ذلك الرجل الشهم الذي لا يهاب الباطل مهما كانت قوته...فوافق الأخير على كفالة هشام، وهو يعلم علم اليقين: بأنَ هشام لن يعود إلى وطنه مجدداً...وقد كَفلهُ أيضاً أخ لصديق عزيز عليه( سمعَ فيما بعد بإعدامه، أثناء فراره من الحرب الجديدة، التي اشتعلت نارها بينَ العراق ودول التحالف)

ضاقَت عندَ هشام وزوجته... سبل الانتظار واحتضرت وفاضت روحهم من الصبر وكادت تنطق بالاستسلام... نتيجة التكتم الغير مجدي على قرارهم في الهجرة... رغم استكمالهم على كل إجراءات السفر المطلوبة... وذاتَ صباح، نهضَ هشام قلقاً، لكنَ منظره يوحي بالثقة والاقتدار، بعدَ أن غادره الحرج وهو يرمق الآخرين بنظرة رثاء خرساء، ولم يبق لهم من أمر سوى التبليغ بقراهم في الهجرة؛ التي واجهت معارضة شديدة في بادئ الأمر؛ ومن كل الأطراف- عائلتهم وأصدقائهم المقربين، حتى هتفَ هشام يوماً في سره متهالكاً: عفا الله عنهم... لما يسببونه لنا من ألم وحرمان وقهر.

اتصلَ من فوره بصديق الطفولة والشباب، جبار الذي كانَ كالظل له، حتى انبهر الأخير به لصدقه ووفائه وحبه له، فقربه منه... وكادَ لا يخرج إلى مكان إلا وجبار معه.

جبار كانَ من عائلة فقيرة، يسرحُ بدراجته الهوائية التي اقتناها بالتقسيط المريح، عصر كل يوم، ليبيع العلكة البلدي... بعدَ أن يكون قد رجعَ من جامعته التي يدرس فيها الهندسة، وبانتهاء عمله، يذهب إلى هشام زائراً وهو مفعم بالسعادة والانتصار، كونه قد باعَ كل ما كانَ بحوزته من علك.

 نعم هشام أنا أسمعكَ جيداً... كيفَ حالك؟

 أريدكَ لأمرٍ هام.

 أجابه جبار بجزع مشوباً بالتردد: لقد جعلت أطرافي ترتعد هلعاً، أرجوك قل لي ما وراءك؟ وهو يتمتم بصوت غير مسموع: يكفينا الله شر الشياطين...

 لقد سمعتك يا صديقي، فقالَ له مازحاً: لا تندد بالملحدين وأنتَ سكران، وواصلَ بجد: لا ينفع الكلام هكذا... ثمَ أردفَ باختصار شديد: أنا في الدار، سأنتظرك.

فردَ عليه جبار بذات المرح اللطيف الذي أعتادا عليه: منْ يعبد المال، لا يصلح لأن يتنكر من قيمته؛ جلساً لوحدهما، ثمَ همسَ هشام لصديقه قائلاً: أريد أن أهاجر معَ زوجتي إلى خارج العراق.

ذهلَ جبار من قرار الهجرة المباغت والسريع، فردَ عليه بنبرة غريبة... كمن يداري هزيمة بضحكة، فقال: أنا لا أتخلى عن وطني بأي ثمن؛ فالوطن بالنسبة لي هو الحياة... ثمَّ استرسلَ بالكلام موضحاً: لا يمكن أن يكون نمط الحياة واحدا، وإلا ستكون لا تطاق، لذلكَ تبدلت الأحوال والظروف التي تحيط بنا وبها نحيا ومعها نعيش.

 عزيزي جبار، لقد حسمنا أمرنا أنا وزوجتي وانتهى الأمر، وأنت هنا فقد لتقديم المساعدة التي نتوخاها منك، ثمَ شعرَ بأنه كانَ مندفعاً في مشاعره، وحاداً في رده... فقالَ كالمعتذر، متمتماً وبصدق:

سأترك لكَ فلسفة الوطن، وواصلَ بانشراح: تمتع أنتَ بفضائل الوطن، واترك لي خيار الهجرة، كي أنفذ بجلدي وزوجتي معي... حيث الحرية والآمان، حيث الانفتاح والحرص على الوقت الذي هو أغلى ما نمتلكه... واستطرد بإشفاق: الوقت هو أيامنا وعمرنا... ونحنُ هنا لا نحتقر أكثر من الزمن شيئاً؛ فهو كالشيطان في عرفنا... نحاول قتله بشتى الوسائل والطرق، حتى إننا تفننا في ذلك! ثمَ حركت أقواله تلك... أحاسيس التحرر والانعتاق في نفسه، فهتفَ صادقاً: نحن لا نريد سوى العيش الكريم، وبحرية تجعلنا نشعر بكرامتنا الإنسانية... تلك التي نفتقدها هنا وبشكل صارخ. ثمَ سألَ جبار مباغتاً: وهل لكَ أن تقول العكس؟

 فهم جبار كلماته، مقدراً ما يعنيه هشام في كل حرف نطقَ به؛ فأشارَ له قائلاً: أنا في خدمتك يا صديقي... مُر وأنا أنفذ...

 أريدكَ بأن تتكفل ببيع أغراضنا... ثمَ صمتَ هشام برهة، وكأنه ينتظر رد فعل صديقه، ثمَ واصلَ بهدوء قائلاً: أنا لا أنوي بيعها بالمعنى الصحيح، بقدر المحافظة عليها وضمان وقوعها في أياد أمينة تقدر ما سأعرضه عليك... فالربح المادي أو الانتفاع ليسَ في حساباتي، ثمَ وجه لجبار نظرة متسائلة وهو يقول: هل فهمت ما أنوي فعله يا صديقي؟!

 نعم، بالتأكيد... ثمَ ترددَ قليلاً وهو يبتسم متفكراً، واستطرد: قل ما تريد أرجوك... فأعصابي لم تعدد تتحمل أفكارك.

فأجابه كالطلقة: أريد بيع كتبي التي تراها أمامك... وما تبقى لا أريد فيها ثمناً... تصرف فيها كما تشاء، إلا الكتب؛ فهي أمانة وعهدة في رقبتك... بل مسؤولية قد تسبب لكَ الإحراج أو السجن، وبرقت من بينَ أسنانه ضحكة رائعة، صادقة تنم عن حسنَ النوايا.

 هل كتبك ممنوعة لهذه الدرجة؟! ثمَ سأله مقتضباً: ما نوعها؟ أقصد ما نوع الغرابة فيها؟ ولماذا تعتقد أنها ممنوعة؟

 عزيزي الغالي: أنها بالنسبة لي ومن يمتلك ميولا مَثلَ ميولي، تعتبر كتب بريئة؛ ولكن لهؤلاء الذين يحمون وطنك... ومن لفَ لفهم، حملة الطاعون الرهيب الذي يفتك... تعتبر محرضة، خائنة، تدعو إلى التخريب والهدم، أكثر من البناء والأعمار... فنحنُ لا نتفق، واسترسل بحنكة واثقة: بل أعتقد بأننا سوفَ لن نتفق، بعضها يقال عنها ممنوعة، وبعضها قد تؤدي بك إلى الاعتقال... ثمَ أردفَ متهكماً: وفي أسوأ الأحوال، يكون مصيرك الإعدام شنقاً في وطنك الغالي، العزيز، ذي الوباء الخطير... الذي تدافع عنه؛ ها... ما رأيك؟!

 وهل بقي عندي رأي، أقول حسبي الله ونعم الوكيل... سآخذها معي وسأتصرف بتوزيعها وليكن الله في عوني.

 قفزَ هشام من مكانه مسروراً بقرار صديقه، فصرخَ قائلاً: إذن اتفقنا... وليكن الله في عونك كما تشاء، ولكن انقدني الآن ثلاثة مائه دولار أمريكي خضراء... وخذ ما تريد وما تستطيع حمله.

هَبَّ جبار منتصباً، وهو يذرع الغرفة، وكأنه ينوي قياسها؛ فصاحَ مستنجداً: اطلب لي تاكسي... وأنا سأقوم بالواجب على خير ما يرام؛ وستكون الدولارات الخضراء تحتَ تصرفك عندَ المساء، ثمَ أردفَ متحمساً: ولكن كيفَ لي الخروج بهذه الأشياء كلها... وأنتَ كما قلت، لم تخبر أحداً من أهلك بعد؟

وجمَ هشام صامتاً، وهو يحدج صديقة بنظرة متوجسة، قلقة، ثمَ خرجَ من صمته هاتفاً: لا عليك، سأتولى الأمر معَ أمي فوراً، وسأشرح لها ما نويت فعله؛ فهي ستعرف بقرار هجرتنا عاجلاً أم آجلاً... واستطردَ متفائلاً: إنها امرأة رائعة، نقية، أصيلة ولا ترضي عليّ الهوان والمذلة... سأقول لها بأني سأموت بالطاعون الذي يفترسُ كل شيء أن بقيت هنا... وهذا لا يرضي حتى الشيطان.

خرجَ من غرفته التي دارت فيها الصفقة، متوجهاً إلى أمه التي راءاها جالسة تحتَ ظلَ شجرة التين لوحدها، وهي مسهبة في التفكير بلا تركيز... تقدمَ منها هشام بخطى بطيئة، كالسارق، ثمَ انفجرَ مداعباً وهو يحرك يديه نحو كتفها ذات اليمين وذات الشمال... وهي التي تعرفُ طبعه، فقالت له مصطنعة الحزم وهي غارقة في الضحك من ملامسات ابنها الخبيثة: ما وراءك؟ مصيبة جديدة؟

 آه... يا أمي؛ أنكِ دائماً تحرجينني، وتسبقي أفكاري التي أنوي التحدث بها... ثمَ استطرد مازحاً: إنها لا ترضي أحداً، والله لا يقبل بهذا أبداً.

 قل ما تريد...

 أنا... أقصد، لقد...

 عزيزي هشام، أنا أمك؛ أفصح عما يدور في عقلك... وأنا كلي آذان صاغية...

عندها... لم يكذب خبراً، دفعَ بما يريد قوله دفعة واحدة، كالسهم، فقال: سنهاجر أنا وزوجتي إلى أوروبا قريباً. ثمَ صمتَ وكأنه أشفق على أمه في لحظة ضعف.

سمعت أمه كلماته بوجوم، شحبَ وجهها الصافي فجأة... ثمَ صرخت في بكاء يقطع شرايين القلب، ويصيب المرء بالإحباط والخجل والخوف؛ حاول تهدئتها فلم يفلح... بل ازدادت توتراً ونواحاً، وهي تندبُ حظها بكلمات يائسة، مخنوقة: لقد ماتَ أخوك قبلَ أيام؛ وها أنت ستذهب بلا رجعة... ليصبح الأمر أكثر سوءاً لأم بمثلَ سني... ثمَ واصلت البكاء وهي تضربُ صدرها بقوة جنونية، بعدَ أن جرحت خدودها الرقيقة بأظافر يدها التي استوطنتها رعشة الكبر، وقالت: اذهب، ولا أريد أن أراكَ ثانيةً... وسأعتبرك منذ الآن في عداد الموتى. في هذه الأثناء كانَ التاكسي قد وصل، وبدأ جبار عمله... وهو ينظر بعين الرأفة لأم صديقه وهي تتألم وتصارع القلق والخوف من المجهول، على ابنها الذي ينوي هجرتهم بكل برود وعناد.

لم تظهر الأيام التي تلت أي تطور جديد، يثني هشام وزوجته عن قرارهم في السفر. حتى جاءَ ذلكَ الصباح الذي كانوا ينتظرونه- موعد المغادرة؛ سألَ هشام أخاه الذي يكبره بثلاثة أعوام تقريباً، إن كانَ في إمكانه، توصيلهم إلى المطار... رحبَ أخوه بالفكرة وقالَ مبتسماً: على الأقل إنني سأدخل التاريخ...

 ماذا تقصد( يجيبه هشام مستفسراً)

 أقصد، بأني آخر شخص من العائلة سيراكم وأنتم تغادرون... ثمَ تابعَ مضطرباً: ومنْ يعلم؟ قد نلتقي مجدداً، وقد لا نلتقي... عندها كانت الدموع قد طفرت من عينيه دونَ إرادة...

وقفَ جميع أفراد العائلة قبالتهم، تتقدمهم الأم، وهي غارقة في دموعها وقلبها يحترق لوعة لفراق ابنها.

لم تمضِ إلا أشهر قليلة... حتى تغيرت خارطة العراق، وتلاطمت أمواج المصائب العاتية في وجه الشعب؛ تذكرَ هشام كلمات صديقه جبار... التي كانَ(يتمنطق) بها، وتعبيره عن هيامه وعشقه للوطن... جبار الذي ألقي القبض عليه وحكمَ بالسجن لمدة سبع سنوات، بتهمة التهريب... وقد يكون بسبب الكتب المنحوسة! كل هذا حدث بعدَ تسعة أشهر من رحيلهما واستقرارهما في ألمانيا فقط. ثمَ توالت الأزمات واستسلمَ الشعب للمقادير... فكانت الحرب الثانية بينَ العراق ودول التحالف؛ عندها تقطعت بهم سبل الاتصال، فلم يعدوا يعلمون من أخبار أهلهم شيئاً يذكر... خنقتهم العبرات، الكوابيس المرعبة التي باتا يرونها في كل ليلة، أصبحت حياتهم فجأة صعبة، قلقة للغاية... ومضى الوقت عليهم أثقل من الخوف والمرض.

في إحدى الأيام الرتيبة التي كانوا يستقبلونها بعدم الرضا... جاءهم اتصال هاتفي من أمه... لم تقل فيه سوى بضع كلمات... جعلتهم يصرخون، يبكون وأطرافهم ترتعد وأصواتهم تغوص في أعماقهم... جاءت كلماتها حادة كنصل السيف: كلنا بخير؛ ولكن... لحظة صمت قاتلة... ولكن يا بني الطاعون، ثمَ أردفت بانكسار: أنتَ تعلم ما أعني...أنها كلماتك التي لم نصدقها، ولم نقدرها... معذرةً، واستطردت قائلة: لم نعد نشعر بالأمان، بلَ صارَ القتل شريعتهم، وبها يفتخرون! ثمَ بكت... وهي تردد بتهالك: لقد بتنا نمضغ الكآبة والخوف، ونبكي كالأطفال؛ ثمَ باغتتهم بالسؤال: إن كنتم تستطيعون... اختفى الصوت لبرهة... ثمَ عادَ خافتاً، وهي تعيد كلماتها بكل تصميم وبغيظ مكتوم: هل تستطيعون مساعدتنا يا بني، كي نصلكم؟!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى