الأحد ٣٠ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٧
بقلم بيانكا ماضية

لوحة بقيت في الذاكرة

كوجه من صلب على الخشبة في يوم اشتد به غضب السماء، أطل على الحياة حاملاً معه ريشة وألواناً وقماشة بيضاء ينقش فوقها جزيئات داخله حين يغيب عن الدنيا بأفكار ورؤى أحلامه ..

في مرسمه الذي يطل على شارع دمشقي عريق، وضع اللوحة أمامه وبأنامله التي تجاورت إلى بعضها على شكل تراتبي لتحتضن الريشة بين حناياها، راح يرسم مشاهد العذاب والقتل والتهجير لكارثة حلّت بعد شهر بهذا الوطن، محددة شكل نكستها وتفاصيل خيباتها.

وشاء أن يقيم معرضه باللونين الأبيض والأسود خلافاً لكل معارضه التي أقامها، لكن ألوان الخراب وخطوط النهايات في ذاك المعرض كانت قد فرشت مساحاتها على كامل البياض ..

* *

كانت الثلاثون سنة التي مرت على حياته قد استأصلت منه رؤى ذاكرته، فكان أن دخل في حالة أشبه بفقدان الذاكرة، في حين أن ماهو مخبأ فيها قد طفا على تلك الصفحات البيضاء؛ لترسم مستقبلاً غير بعيد لساحة هذا الوطن ...

ذات يوم وبعد أن لملم لوحاته ووضعها في ركن واحد في مرسمه، زاره أحد الأشخاص الذين يمتون إليه بصلة القرابة والصداقة، فرآه كأبي حيان توحيدي آخر، يمزق لوحاته ذوات اللونين في ذلك الزمن الذي كثرت فيه الألوان، ولكن قريبه الذي رآه في لحظة الجنون تلك، كان قد توحد باللوحات وبدأ التمزق ينال من روحه حتى كاد يرى قلبه مرمياً على الأرض وقد تفتت قطعاً قطعاً إلى جانب أجزاء اللوحات التي سال حبرها حزناً وألماً، فناداه متوسلاً إليه ألا يتابع في رسم هذا المشهد الجنائزي، فأشفق عليه الفنان، وأهداه اللوحة الأخيرة التي لم تطلها يد الموت.

كانت اللوحة مشهداً جنائزياً آخر كأنها اختزال لصور المعرض كلها ... طفل مرمي على الأرض ودماء مسفوكة حوله تسيل حارة كاللهيب، وبجواره شاب مقطوعة رجله ومستند إلى عكازه، يتوسطهما رجل يرفع يده إلى الأعلى وفي قبضته خنجر يلتمع نصله في فضاء اللوحة.

نظر القريب إلى رجل اللوحة، فلمع نصل الخنجر من وسطها، واغرورقت عيناه بدمع أسود كلون هؤلاء الثلاثة الذين احتوتهم اللوحة .

كان كل شيء في ذاك اليوم ممزقاً ... ذاكرة الفنان ... ومشاهد اللوحات .. وقلب القريب ... وجسد الوطن .

ومذاك اليوم لم يلتئم أي جرح، حتى تلك اللوحة التي استطاع أن ينقذها القريب قد شرخها الزمن بسيل من روح الفنان الذي مات وفي عينيه بريق كبريق الخنجر .

* *

في كل عام كان يرى القريب حلماً يجثم على صدره ككابوس لايتحرر منه إلا بعد أن يستفيق، كان يرى في كل مرة رجلاً يطارده، خطوات ذاك الرجل أسرع من البرق، وفي كل مرة كان يجد القريب جداراً فيحتمي به، وتنتهي تفاصيل الحلم من دون نهاية ...

في الأمس كانت مشاهد الحلم قد تغيّرت ... فحين وصل القريب إلى الجدار اختفى وراءه وراح ينظر من ثقب فيه إلى ذلك الرجل الذي يطارده، فرأى وجهاً كوجه من صلب على الخشبة، وحين وصل إلى الجدار راح يرسم مشاهد تلك اللوحة التي استنقذت من بين يديه منذ أربعين عاماً، وبعد أن أكمل رسم الأشخاص الثلاثة باللونين الأبيض والأسود، تطلع إلى جانبه فرأى مطرقة كبيرة كانت قد أسندت إلى الجدار، أمسك بقبضتها وراح بكل ما أوتي من قوة ... راح يحطم الجدار .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى