الأحد ١١ نيسان (أبريل) ٢٠١٠
ابنة الشاعر التونسيّ يوسف رزوقة في ذمّة اللّه:
بقلم يوسف رزوقة

ما أقسى الرحيل في الربيع

وهي على مسافة أمتار من غرفة التوليد، أصيبت رشأ، ابنة الشاعر التونسي يوسف رزوقة بسكتة قلبية بسبب انسداد الأوردة في مستوى الرئتين أدّت إلى وفاتها في الحال مع ابنتها التي لم يكتب لها أن ترى النور هي الأخرى.

رشا في المستشفى

توفيت رشأ وهي في عمر الزهور (٢٦) سنة، في التاسع والعشرين من شهر مارس ٢٠١٠، التاسعة ليلا، وخلّفت سيرين (عامان ونصف) يتيمة.

كانت وفاتها صدمة لعائلتها ولكلّ من تناهى إليه الخبر، في تونس وخارجها، نظرا إلى حداثة سنّها وإلى ما تميّزت به الرّاحلة في حياتها من نشاط وخصال فهي إلى جانب كونها تزاول دراستها في علوم الحياة والأرض بالجامعة في سنتها الأخيرة، تمارس أكثر من هواية كالرسم والكتابة الأدبية ومحرّرة بجريدة الصحافة التونسية.
في مقال بعنوان " رشأ يوسف: ما أقسى الرحيل في الربيع"، صاغت الأديبة منيرة رزقي بورتريه
مهدى إلى يوسف رزوقة وقد فقد أحلى قصائده، لخّصت فيه تفاصيل الحادثة.

بين أبيها وأخيها

"كان الشاعر يوسف رزوقة، تقول منيرة رزقي، ينتمي ـ في ذهني ـ إلى أولئك الذين لا يعرف الحزن طريقا إليهم سواء عن مكابرة أو رفض للسقوط بين براثنه، حدث ذلك منذ أن التقيته لأول مرة، ذات خريف في حديقة معهد الصحافة. كان ضاجّا بالفرح ويحيط به الزملاء الذين يكبرهم سنا بعقدين وربما أكثر ومع ذلك كان يبدو أصغرهم وهو يلهو ويضحك. واحتفظت له بتلك الصورة حتى رأيته باكيا من فرط لوعته على رحيل وحيدته رشا.
لم يحتمل يوسف الطفل هذه الضربة القاسية الموجعة وكأن مخمل روحه الشفافة كحبات الكريستال تناثر عقدها. فبدا في معطفه المجلل بالحداد مغرقا في العتمة والذهول لم يصدّق مثلنا جميعا ان «رشاه» خطفت كما كان يردد وهو يسترجع ذكريات اليوم الأخير معها ويقف عند تفاصيل صغيرة يريد أن يعتقلها حتى لا يزحف الموت عليها كالشاي باللوز الذي احتسته رشا معه في مقهى قريب من المنزل وقالت له: «انه أطيب شاي أحتسيه معك يا أبي» أو كآشتهائها لحبات الطماطم الصغيرة وتفاصيل كثيرة يسردها يوسف رزوقة كأنه غادر الشعر الى الحكي.

وتضيف منيرة رزقي : تحمل تفاصيل علاقة يوسف رزوقة بابنته رشا ملامح كثيرة من معالم الفواجع والتراجيديا الاغريقية. نعرفها نحن الذين اقتربنا منه ومن أسرته عن كثب وندرك قطعا عمق هذه الفاجعة التي هدت الأسرة الصغيرة التي كانت السعادة تغمرها في انتظار المولودة الثانية لرشا
أي وجع يحمله قلب يوسف الصغير اليوم هو الذي كان ساخرا من كل شيء، لا تفارق الابتسامة شفتيه ويتباهى بأن الأمراض لا تدق بابه، حتى الانفلونزا أو نزلة البرد التي تصيبنا جميعا في الشتاء يؤلف حولها النكات.
يوسف الذي صادقناه واقتربنا من عالمه الحميمي ومن أسرته الصغيرة، يوسف الساخر الضاحك يبكي هذه الأيام بحرقة ومرارة صغيرته وحيدته التي تسللت من بين يديه ورحلت في الربيع كزهرة قطفت قبل أوانها ومازال عطرها يضج في أركان البيت.

لم تكن رشا ابنة عادية بل كانت صديقة يوسف وقرة عينه. إنها تلك الطفلة التي سقاها الحب والحنان فكبرت في غفلة منه ولم تنزع بعد ميدعة المدرسة ولم تحل ضفائرها الشقراء القصيرة وجعلت منه جدا دون ان يشعر كما كان يقول.

كانت رفيقة دربه يفخر بموهبتها في الرسم وممارستها للصحافة ويعتز بحفيدته «سيرين» التي أهدتها إياه رشا وكأنها متعة أخرى تضاف إلى ولعه بالشعر والإبحار على النات.

كانت رشا يوسف تلك القصيدة التي لم تكتمل أبدا يضيف إليها الشاعر كل يوم تفاصيل جديدة يمنحها من فيض روحه وقلبه، ويقدّم لها عصارة السنين. كانت بمثابة الأيقونة التي يعشقها ويحميها كما يحمي بؤبؤ عينيه.
وكما اختارت رشا أن تلج الحياة العملية مبكرا وان تتزوج مبكرا وان تعيش الأمومة مبكرا رحلت أيضا مبكّرا.
ولا نملك إلا أن نردد مع جاك برال: «ما أقسى الرحيل في الربيع». هذا الربيع الذي تينع فيه سنواتها الستّ والعشرين وهذا الربيع الذي تحفل به الدنيا هذه الأيام
يختطف الموت رشا يوسف وهي تستعد لتهب الحياة لطفلة اختارت لها اسم «ياسمين» حتى تزهر في هذا الربيع لكن الموت اقتطف الصغيرة ووالدتها من حديقة الحياة فما أقسى الرحيل في الربيع
تنتظر الصغيرة «سيرين» في مدخل المصحة شقيقتها «ياسمين» التي ستكون هدية أمها لها في هذا الربيع فتفوح رائحة الموت على جثة زهرة الياسمين التي لن ترى النور ولن ترفل بالحياة فما أقسى الرحيل في الربيع
أي «بورتريه» قادر على احتواء أحزان الشاعر الطفل في فاجعته الكبرى؟"

وداعا غزالة الروح

أمّا يوسف رزوقة، أبوها الذي صدمته الفاجعة فقد عاد إليه بعد أسبوع من رحيل ابنته رشده ليكتب " وداعا غزالة الروح" يقول فيها:

حيْثُ الْتَفَتُّ، رأَيْتُهَا. صَعْبٌ عَلَيَّ فِرَاقُهَا

ماذا سأفعل بعدها؟ صبرا، يقول رفاقها

إذن، رحيلها بات حقيقة لا غبار عليها وعليّ أن لا أراوح بعد اليوم في صحراء الشّكّ ، صحراء التّصديق من عدمه. لقد ماتت في عزّ الرّبيع، بفعل "الياسمين". نقطة إلى السّطر. وعليّ من ثمّة أن أفلسف موتها على أنّه حياة موازية في عالم آخر، أكثر نقاء وعليّ أن أقنع النفس ومن حولي بأنّ ميتتها هذه وهي في وضع تأهّب، بين شدّة ورخاوة، كي ترى "ياسمين" النور، بعدما حملتها تسعا وعانت، وهي حبلى بها، أعذب الحالات، ما هي إلاّ ميتة تحسد عليها. وعليّ أن أسلّم بما يتردّد على ألسنة الآلاف من المعزّين من تونس وخارجها بكونها ماتت شهيدة ابنتها.

إذن، لم أخطئ حين طلبت من النّساء، عند تشييع جنازتها بأن يزغردن توديعا لها، عوض تشييعها بالنّواح؟ لم أخطئ أيضا حين اعتذرت قبل أيّام قليلة عن حضور "ملتقى قراءة النص" بالسّعوديّة بتعلّة عدم استعدادي نفسيّا للسّفر وكنت سأندم العمر كلّه لو أنّي فعلتها، ذلك أن تاريخ الرّحلة المبرمجة لي، كان يوم التاسع والعشرين من شهر مارس، التاسعة ليلا وهو نفس التّاريخ والتّوقيت اللذين فارقت فيهما رشأ الحياة. تخيّلت حجم الكارثة لو أني نزلت فجرا، بمطار جدّة لأجد، عوض الورود، الخبر الفاجع في دموع "آزر"، ابني، الذي يعمل هناك. لا أريد أن أتخيّل كيف كانت ستكون خاتمتي؟ فقط، حمدت اللّه على المصادفة الغريبة كي أكون إلى جانب رشروشة وهي تبدع في توديع الحياة.

مع الشاعرة آمال جبارة

قد يسألني الأقربون والأبعدون معا : ولكن كيف ماتت؟

بماء جنينها ماتت وقد ساح إلى أعلى، في اتجاه رئتيها عوض الانحدار نحو باب الخروج وهو ما أدّى إلى اختناق الحاملة ومحمولتها في آن بانسداد الأوردة ليسكت من ثمّة، تبعا لذلك، ولانعدام الأوكسيجين قلبان كانا نابضين بالحياة. حدث هذا، دقائق قبل أن يباشرها أطبّاؤها الّذين أسقط في أيديهم وهم يحاولون جاهدين أن يمنحوها بعض حياة. هكذا رحلت رشأ. ببساطة وبكلّ فجئيّة قاتلة.

ذهبت إلى المصحّة مبتسمة، رفقة أمّها وزوجها وحماتها التي تحبها، قبّلت سيرين مرّة أولى فثانية، هاتفها، من السعوديّة، أخوها آزر وهي على السرير الأبيض وطمأنها بحرير الكلام والتقط زوجها آخر صورة لها وهي في الرّواق إلى بيت التوليد ولم تكن وقتها تشكو شيئا أو تدري أنها ستموت وفي نفسها أشياء من حتّى... من آخر شهادة لها ستقتلعها يوم 6 ماي في "علوم الحياة والأرض". من وظيفة منذورة لها، مباشرة بعد ولادتها، من بيت ستبنيه مع زوجها على أرض اقتنياها بمنّوبة مؤخّرا، من أفكار سترسمها على الحرير ومن مقالات لجريدة "الصحافة" ومن أشياء أخرى ومشاريع جنينية شتى، قيد الحلم، سقطت كلّها في رمشة عين وأطبق "الياسمين" على رئتي الرّشأ المتأهّب للانطلاق فلم ينطلق بل فاضت الروح فيه فإذا هو والياسمين طائران باتجاه السّماء .
هل رحلت حقّا؟

حيْثُ الْتَفَتُّ، رأَيْتُهَا. صَعْبٌ عَلَيَّ فِرَاقُهَا

ماذا سأفعل بعدها؟ صبرا، يقول رفاقها


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى