الخميس ١٦ شباط (فبراير) ٢٠١٢
رواية قصيرة:
بقلم عبد الجواد خفاجي

ما لم تقله قرنفلة

كجريمة تمشي على الأرض.. استثناء الحياة عندما يتحول الواقع إلى سلة قمامة واسعة.. كانت تعترف بأنها بخيلةٌ حدَّ الشُّح، المثير أن اعترافها كان يأتي مغلَّفاً بنبرة الفخر، قد يفتخر المرء بقِيَمٍ تزعم نبله، لكنما كيف تكون الصراحة مدعاةَ فخرٍ فيما يُفترض أنه قبيح ؟!.. إنها صورة الواقع الذي لم يكن يداري قبحه طوال ثلاثة عقود خلت، بل إنها صورة القبح السافر في غيبة الجمال.. كيف يبارزني الواقع بقبحه، وكيف عليَّ أن أتجمَّل إزاءه رغم هذا ؟!.. فهمت أنها بخيلة منذ الدقائق الثلاث الأولى من حوارنا، عندما لاحظتُ أنني أتكلم كثيراً وتتكلم هي بالقطَّارة.. قد يكون الحياء مانعا أحياناً عن الاستغراق في الحوار، لكن اليقين عندي أن الحياء لم يكن هو المانع في تلك اللحظات، خاصة أنها هي البادئة بالاتصال وبتقديم نفسها.

اعترفتْ أيضاً بأنها كئيبة بائسة لدرجة تصل حدتها إلى رؤية الظلام في وضح النهار، أو فيما يُفترض أنه مثار بهجة.. نوع من الإصرار العنيد على اعتناق الكآبة، كأبطال الأساطير القديمة الممجدين للشر.. غالباً كانوا ينهزمون أمام سطوة الخير التي تتأتى مؤخراً.. غالباً لا يعرف المبتئسون درجة بؤسهم، لكنهم قد يعترفون في لحظات التداعي الحر بشعورهم بكآبة الحياة وقسوتها.. كانت تعترف، وأفهمتني أن حرمانها من الزواج هو سر اكتئابها.

شكتْ كثيراً من عذاب الحرمان، خوفها من السقوط.. رغبتها في الأمومة.. أن تكون مسئولة في هذه الحياة.. أن...أن... شعرت نحوها بالعطف، تمنيت لو أن بيدي شيئاً أقدمه.. لهفتها إلى الحديث معي أشعرتني بحاجتها إلى صدر حنون.. أعطيتها اهتماماً لم أعطه لأحد عبر الإنترنت من قبل.. حلَّقتُ بها إلى شمم الأنثى التي تتمنع في لحظة الضعف، وألقها عندما يطاردها إعجاب الذكور.. قد يستكين المرء ـ أحيانا ـ لحشرة تمتص من دمه خضوعا لسطوة اليوتوبيا ؟! خصصت لها يوماً.. يومين.. ثلاثة.. صار لقاؤنا متواصلاً بالليل والنهار... أخضعتني لجوعها.. وأخضعتها لوهم الشبع.. تمادت حواراتنا.. كنت وحيداً في مسكني.. ذهبت زوجتي والأولاد لزيارة الجدة.. أجَّلت ما هو أمامي من أعمال.. كانت فرصة لحواراتٍ طويلة.. صارحتني بضعفها، نوبات اكتئابها.. تمنيت أن يُشنق رجال النظام السابق جميعا حين تركوا العنوسة تتهدد بنات مصر.. الشبابَ نهْبَ التعطل.. المرضى بدون علاج.. كيف يفتح العاطلون بيوتاً ؟.. تمنيت أن تكون الدولة في مرحلتها القادمة معنية بهؤلاء المرضى النفسيين.. كيف تفتح هذه المريضة بيتاً، كيف تؤتمن على نفسية طفلٍ تنجبه للحياة؟ من يتحمل من الرجال شريكةً دمامتها تسكن روحها؟.. تنضح سواداً ومرارة مع كل زفرة من حديثها.. حاولت أن أهدهد روحها.. قلت لنقترب بالحوار من أرواحنا.. أوهمتُها بالكثير.. كان إطرائي على جمالها الذي لم أره مسهباً.. لم ترسل لي صورة لها، بيد أني كنت أتخيلها رثة، دميمة كجثة في صفرة الموت.. دمامةُ الواقع الذي تركها نهباً للهواجس أبشع.. الانترنت هويس الأنفس الحائرة، أكذوبة الواهمين بحلم التواصل.. صَنَع ثورةً لكنه لم يصنع إنساناً بعد.. غابة من أصابع مجنونة، وخلجات مشتتة في فراغ الوهم الشاسع.. سهَّـلَ لها الاتصال بالعالم.. فتح أمام هواجسها شوط الأمل الكذوب.. علاقة مفتوحة على هويس المشاعر مع رجال افتراضيين.. يتيح حواراً مفتوحاً حول مشاعر مغلقة.. كان بإمكانها أن تقيم علاقة حيَّة قريبة لولا سياج العزلة وخوف التقاليد.. الكوابح الاجتماعية تصنع الجريمة أحياناً.. ربما لافتقادها القدرة على المبادرة.. ربما تعنُّتها المَرضِيّ جعلها مكابرة، عنيدة ضد رغباتها.. ربما كآبتها حالت دون نظرة أمل إلى شاب تبادله الإعجاب.. نظرات حية إلى عيون تأتلق، لكنما قد يكون عماء بصيرة الأنثى عن فهم أنوثتها، عن الاستجابة لفطرتها التي تلح بداخلها.. سألتني : كيف أُشْعِر الشاب بمشاعري؟.. كنت أجيب بما في خاطري.. رغم ثقافتي الذكورية تخيلتني أنثى، ورحت أجيب معتمداً على مشاهداتي وتأملاتي في عالم النساء، الإنسان بداخلنا سواء كنا إناثاً أو ذكوراً، لكنما قد يختلف الأسلوب أحيانا عندما يقترب من النوع.. تذكرت كيف كانت صديقاتي تعاملنني ونحن في الثانوي.. كنت كمن يَعْبُر بها قارة مجهولة لأول مرة.. أعرف أنها تعطلني عن أعمال كثيرة ملحة، ولكنني رأيت أن أمارس نبلي مع حالة من مخلفات العصر البغيض.. دوافع إنسانية.. مشاعر رجل شفوق.. حياة مثالية نعيشها أحيانا في خيالنا نتحين الفرصة لتجسيدها في واقع بليد.
وكما اتصلت بي اعترفتْ أنها اتصلت بآخرين من قبل.. قالت إنها قرأت لي مقالاً في إحدى المجلات.. كانت قارئة بالفعل.. طلبت بعض أعمالي الأدبية.. أرسلت إليها كثيرًا من الملفات.. كانت تقرأ وتناقش برأي يركز على تفاصيل الحكاية.. نقاشها يشف عن ارتجاف روحها وكآبتها.. قراءتها من أجل الهروب إلى عالم الشخوص وتفاصيل الحكاية....الانشغال بتفاهة التفاصيل.. ممارسة الأسى.. السقوط مع سقوطهم في الكآبة.. معايشة الافتراض على أحسن احتمال.

قلت لها: أنت ملهمتي.. شعُرتُ أنها تطير فرحاً.. كيف تهدهد الكلمات أرواح العذارى ؟!.. أعرف وقع الكلمة على الأنثى حتى إن كانت بليدة.. كيف لرجل مثلي خط الشيب رأسه أن يعيد برمجة روحها؟!.. لقد أكلتني انشغالات الحياة عن عالم الأنوثة.. سألتني : بماذا ألهمتُك .. قلت : سوف تقرئين يوما ما.

كانت زوجتي قد عادت إلى البيت.. لاحظت انشغالي بالحوار على النت لساعات طويلة.. لاحظت شرودي أحياناً.. سألتني:

ـ ما الذي يشغلك؟
ـ أعيش حالة روائية
ـ كلبة ولا تسوى
ـ ولكني على أية حالة أمارس نوعاً من النبل.
ـ أنت تعيش الخيال
ـ لا.. بل أعيش التخييل
ـ وما الفرق بينهما؟
ـ التخييل هو صناعة الخيال عندما نُحَوِّل الواقعَ إلى فن
ـ قوم استحمى
ـ حاضر

.......

كيف يستسلم رجل مثلي للنساء؟

........

قلت لها عندما اتصلت بي في المساء:
ـ أنتِ في خيالي دائما.. وإنني أشعر بالوحشة إليك عندما تغيبين.
ـ للدرجة دي؟
ـ نعم.. أنت لا تعرفين قدر نفسك.. لست أدرى كيف أغفلك طالبو الزواج حتى الآن ؟
ـ هذا هو المؤسف

 أنت عاقلة جدا.. ولكن ربما أنهم لا ينظرون في شخصيتك.. عقلك.. لباقتك.. الحكمة التي تقطر مع حديثك أحيانا.

وأتذكر أن حوارنا ذات ليلة بدأ هكذا:
ـ وحشتيني
ـ طيب
ـ ليس هكذا يكون الرد
ـ إذن ماذا أقول ؟
ـ هو أنا ها علمك؟
ـ وليه لأ ؟
ـ أنت كبيرة على التعليم
ـ يموت الإنسان وهو بيتعلم
ـ قولي : وأنت كمان.. أو قولي وحشتك العافية
ـ وأنت كمان

لم تكن هكذا أكثر من فتاة لا تعرف كيف تقترب من مشاعر الآخرين، لا تعرف كيف تستقبل المشاعر الدافئة.. كيف ترد التحايا.. كيف.. كيف .. قالت مرة إنها ـ كما يقولون ـ قفلة.. غشيمة. قلت : لا.. أنت حلوة الروح.. رائعة كأسطورة ضالعة.
لا تجيد غير ترديد كلمات الحرمان.. ثقافة الفقر والحرمان.. سياج التقاليد العبيطة حول الأنثى.. أصداء كآبة الواقع المحبط البليد.. فقْرُ الفكرِ وفكرُ الفقرِ.. خامة بحاجة لمعاودة مسيرة عمرها من جديد لتكتسب ثقافة الحياة.

كنت أعرف أنها واحدة من جيل تسيَّده رجل يدعك الآن أنفه وراء القضبان، بعدما همَّش حياة الشباب وأفضى بواجبه تجاه الموات، وعندما قدَّم له جيلاً كاملا من شباب مصر.. قالت إنها خريجة كلية العلوم، وقالت إنها تعمل منذ فترة وجيزة بوظيفة مؤقتة متواضعة، تتيح لها راتباً متواضعاً، كما تتيح لها الجلوس الطويل من التاسعة حتى الخامسة مساءً أمام شاشة الكمبيوتر، تعايش إحساساً كذوبا بوهم الحياة، فيما تتيح لها قدراً من قسوة الواقع الذي فرض عليها أن تكون هنا مع "الشغل فون".. مجرد صوت يتصل بأرقامٍ لأشخاص مجهولين في الغالب، إنه الافتراض عندما يزاحم الواقع ليحوله إلى افتراض، بعيداً عما يجب أن تكون الحياة.

ثمة من قاده إحساسه بالكبت والظلم إلى الثورة والميادين وثمة من قاده الشعور بكآبة الحياة إلى الانزواء واعتناق الكآبة وانتظار ما لا يجيء.. لعله الموت المؤجل، أو تأجيل الموت بترديد أنفاسٍ خفيتة في جُنَّاز الواقع البليد.
كلما أردت أن ألفت نظرها إلى شيء مهم في الحياة قالت: كَبِّر دماغك.
ثقافة تكبير الكبورة !!!.. نفس ما قاله المخلوع وهم يضعون أمامه بعض ملامح الكوارث الاجتماعية.. قال بغباء: كبِّر دماغك.. البلد مش هاتقع. لقد وقعت في الكثير: الفقر.. كساد الاقتصاد.. ضياع الشخصية المصرية.. انحدار الثقافة.. اللامبالاة.. الفساد، وهَلُمَّ جرّا.. كان من الممكن أن تقع في الضياع لولا الثورة التي تحاول استنبات البلد من جديد.

قالوا له المعارضة شكَّلت برلماناً شعبياً كرد على إفشالهم في الانتخابات الأخيرة المزورة.. قال : كبِّر دماغك.. خليهم يهزَّروا شوية.
كواحد ممن تتصل بهم عبر الإنترنت اتصلت بي في ساعة من هدوء الحياة الذى أُصَـنِّعه وفْقَ مشيئتي في واقع يعج ببلاطجة النظام وصخب الثورة المضادة وهتافات الميادين والجُمَعِ المتوالية للثورة المستمرة، واللهو الخفي، وشكوى زوجتي من خلو البيت من الغاز.. أسطوانة الغاز التي ارتفع ثمنها من خمسة إلى خمسين جنيها في السوق السوداء.. الدكتور عاطف طبيب الأسنان صديقي الذي اختطفوه وطلبوا فدية تتجاوز المليون.. حتى السوق السوداء لم أعد أعرف لها طريقاً.

المجلس العسكري الشائخ يجلس مثل جلوسها مع "الشغل فون" يستشعر عجزه وكآبته في لحظات تتهدده بوجوب مغادرة السلطة الشرعية التي آلت إليه بأمر رجل غير شرعي.. إنه الصراع بين الشرعية واللاشرعية، عندما تجلس الأنثى بين شرعية مؤجلة مفترضة، ولا شرعية يتيحها واقع مضطرب.. الحرمان من ممارسة السعادة، لم تمنى من الحياة بزوج أو أسرة، أو وظيفة.. يتهددها شبح العنوسة في سن الثالثة والثلاثين.

ـ لماذا لم تتزوجي حتى الآن ؟
ـ نصيب.
ـ نصيب أم عدم إرادة
ـ ليس عدم إرادة.. قدَر
ـ أفهم أن مشيئة الله عند مشيئة العبد متى ما أخلص النية والعمل.
ـ دعنا من هذا الأمر.. أنا لن أتزوج.. هذا إحساسي.
ـ إحساس كاذب
ـ ليس كاذباً
ـ هل اطلعتِ على الغيب؟
ـ قلت : دعنا من هذا الأمر

ليس في صدرها مكان لاستقبال الأمل.. بإمكانها أن تمارس متعتها مع رجال وفق شرعية ذكورتهم ولا شرعيين بحسب مروءتهم.. ربما أن الكابح الضميري هو ما يعذبها أكثر.. تداعيات الواقع الاقتصادي السيء أصابت جيلاً كاملاً بعنوسة الحلم، أو انتظار الذي لا يجيء، أو ربما أنه صدأ الأحلام التي صَـقَّعها النظام الحاكم كما صَقَّع أرض هذا البلد، واستشرى في الطقس هذا الصقيع، لم تتفجر أنوثتها تحت حرارة عشق حقيقي، ولم تلامس الرجال إلا في كوابيس نومها، واحد من الشباب حضر في إحدى كوابيسها في هيئة كلب، وفي واقعها كخيال مسعور.. نعم الوفاء من طبع الكلاب، لكنما كلاب البشر أوفياء لدناءة مشاعرهم.. أورثها شعوراً، كأية عذراء تستوي لوهم الفارس والحصان الأبيض.. وكأي أنثى، والغواني يغرهن الثناء!.. عشقتْ حديثة واستسلمت لغواية الوهم.. قالت إن حديثه عذب وشيق ودفيء، عَبِقٌ بعبارات الثناء، حتى سقطتْ على شاطئ الحب في لحظة جزر طالت وطالت، حتى أن المد لم يعد حلماً وقد اكتسي الأفق بسواد الليل وروعة الخيال الضرير.. كلما هفهف طيف حبيبها في براح روحها تحيا كي تموت ثانية في الصقيع.. أحبته حباً حقيقياً مَلك عليها روحها.. وسَّعَ به وهْمَ بطولته المرضِيَّة التي تسعى إلى استشراف عناصر تكوينها عند تخوم العذارى وسيدات المجتمع العفيفات.. قالت إن حبها له يعذبها وإنها تعاني.. طفرت الدموع من عيني.. لم يكن يسعى ـ عبر ست سنوات من الاتصالات المتوالية ـ إلى أن يؤسس لعلاقة تقود إلى زواج، كانت واضحة في فهمها عندما قالت : "أناني.. مغرور.. مش بتاع جواز" وكانت واضحة عندما قالت : "إنها تريد رؤيته واقعاً لا افتراضاً من أجل أن يخفت هذا الحب، أو ينحني العذاب على أعتاب لحظة ملامسة يديه أو رؤية ملامح وجهٍ نابضٍ بدماء الشباب.. وقالت إنها في كل مرة يتصل بها تصاب بضعفها وتستسلم لوهم حبها وتنقاد في دردشة طويلة بطول الإسفلت الذي يفصل بينهما من القاهرة إلى الإسماعيلية.. ست سنوات لم يكلف نفسه الحضور إلى الإسماعيلية لرؤيتها، ولم تجرؤ على الذهاب إلى القاهرة لرؤيته.. يقودها من قلبها ومشاعرها اللذين يملكهما هو، ولم تكن تملك منهما غير النفايات التي تحترق.. يدغدغ مشاعرها بكلماته؛ ليتركها مع كلب كوابيسها الذي يتشمم لحمها عندما تنام.. أظنه رقيع كبلاطجة النظام السابق الذين لا يزالون يشعلون حدائق أرواحنا بالعذاب، لكنه رغم هذا يبدو رائعاً كبائعة الهوى.. تخيلت صدغيه كصدغي حسني مبارك لحظة تسلمه مقاليد الرئاسة، وتأكدت أنه هو عندما لم يشعر بنار قلبها المحترق.

أي هذا العذاب والإحباط والحرمان؟!!.. أي هذا الوطن الذي تحول فيه الإنسان إلى نفاية بشرية تحترق؟!.. ثمة ما يجب أن يكون على نحو صحيح.. أرجحت مشاعرها عبر الإنترنت نحو رجل آخر في الهزيع الأخير من العمر تجاوز السادسة والخمسين، بَيْدَ أنه على أية حال رجل تلتقي به كبقية إخوتها خلف باب موصد بالتقاليد.. قد يوفر لها تعويضاً واهياً عن حرمان طويل بطول أنوثتها التي تخطت الثالثة والثلاثين، وبحجم شوقها إلى حلم دفيء مؤجل منذ طفرت أنوثتها كنهدين بيضاوين يتأرجحان على ترس صدئ.. قالت إن كل شيء سوف يكون رسمياً، فاستفسرتُ : قالت وقد استشعرتُ نبرة الموءودة في لحظة الدفن: سوف أذهب معه إلى المأذون، وأضافت : لكن من وراء أهلي.. ولم لا ؟.. جميعهم اختلسوا حظوظهم من الحياة.. كانوا كرعيان يأكلون أغنامهم الجائعة، واستباحوا أعراضنا بغير قانون.. كانت تبدو أنظف منهم جميعاً عندما قالت سوف أذهب معه إلى المأذون.. كان يذهب حسني مبارك إلى مجلس الشعب بحثاً عن الشرعية أيضاً.. كانوا جميعا بغير عذاب، ربما لأنهم كانوا بغير ضمائر.. الأمر عندها مختلف قليلاً.. هو الضمير إذن عندما يهادن الحرمان بالقبول والإيجاب.. الشكلية التي ينقصها الإشهار، ولكنها بدت لي أفضل ممن اغتصبوا هذا الوطن بشكلية مشهرة.. قالت سوف يتم كل شيء في سرية تامة.. سألتها: ولم لا يذهب معك إلى أهلك ويطلب يدك ؟.. أظنها قلَّبت يدها النحيلة وقالت: ضعف ذات اليد.. أهلي لن يوافقوا على زواج ابنتهم كزوجة ثانية لرجل عنده عيال، ولا يمتلك الإمكانات.. طفرت الدموع من عيني.. تحسست ـ بعد لحظة ـ ذقني.. تنبت اللحية غزيرة لتلبد وجوهنا بالسواد.. ودَّعت مجلسي قليلا.. وقفت أمام المرآة للحظة.. تخلصت من لحيتي.. لامست بيدي جلدة وجهي السمراء.. حاولت أن أفاتش بياض قلبي بحبها.. مرت لحظة كأنها البياض بالفعل.. تراجعت.. تقدمت.. ثمة عصافير كانت تزقزق فوق أعواد خضراء أستنْبِتُها في الشرفة.. العصافير لم تفزعها حركتي حولها.. كانت بيضاء في لون الحلم الطفولي، وكانت الشمس مشرقة.. يا لهذا الدفء الذي يستلقى في الشرفة رغم صقيع الشتاء!!، غير أنني لمحت في الأفق غيمة تنقشع.. كل شيء أبيض لولا سوادهم.. كلهم يراهنون بغباء على قلبها وعقلها وجسدها، لقد راهنوا جميعاً على مصر لكنهم راهنوا في سواد الوقت.. الاستغلال الذي استبد بمصائرنا وأرواحنا وأموالنا.. هل هو الاستغلال طبيعة المرحلة ؟.. لكنهم لم يكونوا أذكياء.. ها إنهم جميعا في السجون.. كل فرد منهم يردد كالكآبة عندما يواجهه القاضي بتهمته بداية الجلسة : "أنكرها جميعا تماماً".. يستمر الرهان والكآبة تستفحل.. رغم سجنهم يراهنون، ورغم كآبة الواقع الذي خلَّفوه وراءهم حالمون بالبراءة.. رغم كل شيء يردد أنصارهم أمام أكاديمية الشرطة : "يا تحرير استنى شويه.. البراءة جايه جايه ".. البراءة كالبياض.. فهل ألبسوا مصر البياض حتى ينتظروه منها؟!.. يقيني أنه لن يُلْبِسَها الفستان الأبيض، وسوف لن تجلس كأية عروس في ثياب العرس، ولن تعزف الموسيقى.. أي هذا الزواج يا هناء؟!.. هناء الاستقرار الأسود، وليس في الإمكان أبدع مما كان، أنا أو الفوضى.. طظ.. الفوضى أن يستقر الوطن في حضن الكوابيس، و" اللى تعرفه أحسن من اللى ما تعرفوش"، وصاحب الضربة الجوية.. تعطل الفرح ثلاثة وثلاثين عاما!!! يااااه.. كبلادةٍ في حضرة الشمس نمضي للظلام.. استمر بوجهه الكئيب مستقراً كالجريمة الفادحة.. لماذا تستقر هناء في روحي كفرحة معطلة؟!.. لماذا إذا فاتشها البياض اكفهرت كغيمة يابسة؟! .. يقيناً سوف تغضب عندما تقرأني هنا، كما أنني قد قرأتها هاهنا أيضاً.. سوف تهب روحها كعاصفة مارقة.. لا بأس.. لست أكثر من رجل شفوق رغم هذا.. أعرف أنني صادم أحياناً، لكنها الصدمة المطلوبة.. ربما استفاقت روحها من جديد كأرنب برئ تفلَّت من وحش أيامها.. ثمة وعي جديد يجب أن يكون.. ليس من الحكمة أن أخادعها كثيراً.. جريمتنا أننا استمرأنا المخادعة واستسلمنا لوهم "اللى تعرفه أحسن من اللى ما تعرفهوش".. الدعم يا ريس.. برود أعصابه.. ضربته الجوية في قلوبنا.. صفقنا للكآبة.. من قال إن ما لم نكن نعرفه هو الأسوأ؟.. ومن قال أن المستقبل في استقرار الكآبة؟.. كان يجب أن تقوم الثورة، لقد هرَّبوا أحلامنا.. وصل منحنى الفساد إلى قمته، وكان الهبوط حتمياً.. حتما سوف أُفيقها بالصدمة.. اهبطي يا هناء من صهوة الكآبة.. ألم يقل الله تعالى: "اهبطوا مصر..." ؟.. اهبطي.. ها هنا مصر.. اهبطي بإرادتك.. ليس كما هبط حسني مبارك اضطرارياً من فوق العرش.. ليس المستقبل كئيباً إلا تحت وهم الاستقرار الكئود.. ربما هبتْ كهبة اللوتس في صباحات الربيع، وربما رأيتها كالحمامة البيضاء ترفرف في دفء مشاعرها الجديدة هابطة نحو حلمي، لقد كانوا كالحمامات التي تهدل بعد أن تنحى، أو تخلَّى أو غار إلى غور تاريخه الأسود.. نظفوا ميدان التحرير.. دهنوا أعمدة الإضاءة وهشوا للحياة.. من الخطل أن نستمرئ الكآبة، أحيانا تتلخص الحياة في قدرتنا على استيعاب الصدمة.. على نفض الكآبة.. هزيمة الخوف .. صدْمَتُنا بمشروع التوريث كانت فادحة.. صدمة ما قبل التغيير.. أتمنى أن تستوعبي صدمة الإفاقة يا هناء..أحياناً يصدِم الطبيب العصب بالعصا الكهربائية كي لا يموت.. أفيقي يا هناء !! لا تخذليني كثيراً أو قليلاً.. هبي كيفما تشائين في وجهي.. سبي رجلا لن تستوعبي نبله قبل أن تشفي.. تماماً كنا لا نستوعب نبل النبلاء وهم يهتفون : كفاية، كفاية.. عندما اتهمونا بالشلل والجبن اتهمناهم بالمجازفة.. من المجازفة أن نهادن الكآبة... لقد ثاروا ضد كآبتهم، كان وعيهم فوق أحزانهم لا تحتها.. آمالهم فوق إحباطات واقعهم.. هيا يا هناء... لا يجب أن ننكر قدرتنا على استيعاب الحياة بعيوننا لا بعيون مبارك البغيض.. ورب صدمة يعقبها شفاء.

عادت إلى حديث الرجل العجوز في لحظة داهمني فيها البياض.. هذا صباح كالفل "اللى نوَّر في جناين مصر".. أنا أكثر منه مالاً وأصغر سناً، ومستعد للذهاب إلى أهلها.. سوف تكون الأمور غير شكلية وسوف أذهب بها إلى المأذون، ولعلها تستعذب الصدق معي.. سوف أُجْلِسها كأي عروس في"الكوشة" البيضاء وسوف تستلقي الزهور حولها وتتضاحك البنات، وهن يقرصنها في ركبتها.. أي هذا الخيال الجميل؟.. هي ليست مشروعاً للتوريث بغير شرعية... سوف تمضي الحياة كثورة بيضاء.. سلمية، سلمية.
قصصت لها بعض الحكايات القديمة عن تجارب الحب التي مارستها في الشباب، وبعض التجارب الحديثة نسبياً، قلت لها إنني كثيراً ما أجدد عواطفي بقصة حب عابرة مع أنثى جميلة، وقلت إنني الآن أعيش فراغاَ عاطفياَ أستشعره.. املئي يا هناء الفراغ.. ابتعدى قليلاً عن سوادهم.. تعالي ذات اليمين يزاور الحزن ذات اليسار.. أكيداً ستخضر أحلامنا.

صحيح أنني أب لستة من العيال، وصحيح أنني أحب زوجتي التي تحبني وتحترمني فوق حدود ما يتصور الرجال الحالمون بامرأة نادرة.. كل هذا صحيح، والصحيح أيضاً أن عاطفتي يمكن أن تتسع لعروس من جديد.. الحياة حولها تمضي كمحاكمة مبارك، كل يوم تتأجل لليوم التالي.. التوقعات كثيرة، والضمائر لا تزال مغموسة في وحل أيامنا.. قد ينتشلون ضميراً من سواد الوحل.. وقد يتيبَّس الوحل فيطمر تحت اليَبَاس جوهرةَ الضمير.. لست متفائلاً بعدالة واحلة.. إنها هناك تمضي في بطء كآبتها، ولا يزال مبارك يدعك أنفه.

سألتها عن البحر، قالت: أمشي علي الشاطئ وأنا عائدة من عملي.. قلت: علاقتي بالبحر قديمة منذ تركت دراستي الجامعية خضوعاً لسطوة الفقر، وسافرت إلى الخليج، لحسن حظي كانت إقامتي في فيلا على الشاطئ.. وثقت علاقتي بالهدوء والبراح والبحر الذي بدا لي مساحة زرقاء آسرة.. الشاسع المجهول العميق.. كل ما كان ينقصني الخضرة والوجه الحسن.. أظن الإسماعيلية لا تخلو من الخضرة. علاقتي بالخضرة أيضاً قديمة حيث نشأتي في غيطان الصعيد.. أجمل الصُّدَف صدفة أعادتني إلى ذكرياتي القديمة: طفولتي، فترة المراهقة الزاخرة بفورة الأحلام.. سألتني: قدرٌ أم صدفة ؟، قلت : قدر بالأساس، وصدفة بالنسبة إلينا.. صمتُّ لفترة بعد الإجابة.. حائراً بين الصدفة والقدر.. هل كان اعتلاؤه كرسي الحكم قدراً أم صدفة؟.. لا أعرف تحديداً، ولكنه في الحالتين انتهي نهاية سيئة.. هل ستكون نهايتي سيئة كذلك ؟.. توجست قليلا.. غير أني لم أستسلم للحظة الخوف.. قلت : نهاية سيئة لكنه استمتع بالحياة على بساط المصريين الكرماء.. لكنها تفخر ببخلها؟.. نعم، ولكن سوف تكون في حياتها الجديدة سخية كالبحر.. وسوف تودع طبعها.. ولكن الطبع يغلب التطبع!.. نعم ولكن..... لم أضف جملة بعد "ولكن".. غير أني همست في نفسي بعد قليل : ولكنني على أية حالة لابد أن أمارس نبلي.

أحيانا نصاب بالكآبة عندما نفقد الحب.. هل هناك أنبل من الحب؟.. كان يكره شعبه وبادله الشعب الكراهية ربما لذلك كانت الحياة كئيبة... قلت لها: أحبك.. ربما أن كلمة كهذه محملة بالصدق قد تزيح قليلا كآبتها، سألتني: لماذا تحبني ؟.. فأجبت إن أصدق الحب هو ما لا يُفسَّر.. هو ما لا نعرف أسباباً له، هو يداهمنا كالدفء في لحظة الشروق.. قالت: صح.. قلت في نفسي : قد تَشرق روحها، كما أشرقت روح الشباب لحظة قال عمر سليمان : أعلن الرئيس حسني مبارك تخليه عن منصب رئيس الجمهورية.. نعم، كانوا كمن يعانق روعة الحياة للمرة الأولى في حياته، ولقد قادتهم اللحظة الرائعة إلى روعة الفكاهة فظلوا يبحثون لأيام طويلة عن سر الرجل الذي كان يقف متجهماً خلف عمر سليمان لحظة إلقائه خطاب التنحي.. ودَّعتُ تجهم المواعظ المباشرة التي كنت ألقيها أمام عينيها في مربع الحوار.. قالت إنها تحب نصائحي وخبرتي بالحياة، وقالت إنها سعيدة بمعرفتي، وإنها سوف تتعلم مني.. وقالت أيضاً: "أنا من إيدك دي، لإيدك دي" وأتذكر أنني قلت : الثقة في الله أنه عادل، وكريم.. كوني كريمة يحبك الكريم ويعطيكِ الكثير.. يحقق أحلامنا بقدر إرادتنا وإخلاصنا... وقلت : إن الله عند حُسْنِ ظنِّ العبدُ به.

نعم هي مواعظ إيمانية أجد أصدائها في روحي وحياتي وألمس صحتها على أرض الواقع.. لكن يبدو أنها ـ رغم أنها كانت تستأذن بعد كل أذان للصلاة ـ ضعيفة الإيمان بالله.. لم تعد تثق في جدوى النصائح الشفوية.. درجة عالية من اليأس.. قلت لها: إيمان ناقص.. استكملي إيمانك بالثقة بالله، وقلت كلاماً كثيراً كانت تتهرب منه إلى أسئلة أخرى أكثر تشويقاً.

سألتني عن رأيي في موضوع الرجل المسنِّ الذي تقدم لها من خلال النت، سألتها: هل رأي صورك، قالت: صورة واحدة.. لم تكن قد أرسلتْ إليَّ صورها، وقالت سوف أرسل لك واحدة يوماً ما، وقلت: دعيها للآخرة.. إن الناس يهتمون بالأشكال والصور وأنا أهتم بالنفوس والأرواح والمشاعر.. قلت لها: الحب كالإيمان، يجب أن يملأ حياتنا وألا أصبحت كاليباس.. وقلت لها: في موضع الزواج استفتي قلبك.. يجب أن نؤسس علاقاتنا وخاصة الزواج على الحب.. صحيح أن "قرنفلة" الراقصة بطلة رواية "الكرنك" قالت : طالما تمتعنا بحب من نحب، ولكن لا يُخَلِّد حب من نحب إلا الخيبة، وقالت : الخيبة هي الحب الذي ينجو من مخالب الواقع ويبقى أملا خلاباً... يا لك الخيبة يا قرنفلة!!.. أتسعين إلى حب غير مجسد على أرض الواقع خشية الفشل؟!.. ولماذا الفشل ؟.. قالت حبيبتي "جلاديس" الجميلة اللاتينية ذات حوار معي على النت: الحب بغير لقاء جسدي حب ناقص، لابد أن يُترجم الحب إلى شيء حسي.. إلى ورطة جسدية، تماماً كورطة الحياة نفسها..الحياة كالحب، ومهما تكن شعوراً إلا أنها ليست وهماً مجرداً.. وقالت: أنا لا أخشى من التورط في الحياة التي تغنيني عن تَخيُّل الحياة.. صحيح يا جلاديس... يبدو أننا غَرِمنا كشرقيين بحب الروح واكتفينا به.. انتشينا بصوت عبد الوهاب: "حب الروح مالوش آآآآآآخر، وحب الجسد فااااااني".. إننا نعيش وهم الحب لا الحب ذاته.

وكنت قد قلت لجلاديس: إنني لا أمانع الحب على الطريقة الغربية وإن كنت أبحث عن شرعية علاقتنا، أتذكر أنها ردت سريعاً بقولها: "الحب الصادق يضفي على العلاقة شرعية غير منكورة".. العالم يعيش بشرعية الحب.. يرون أن شرعية العلاقة هي الحب، ونحن نرى شرعية العلاقة ما يضفيه عليها المأذون.. نعم ثمة فارق ثقافي.. ومع ذلك أنا أميل لرأي قرنفلة التي قالت في موضع آخر من الرواية: "عندما تحب حقاً فإنما تستغني بالحب عن الحكمة والبصيرة والكرامة ".. صحيح يا قرنفلة.. الحب كما يقولون: أعمى وأطرش، وكما يقولون أيضاَ: لا كرامة مع حب.. ولكنك أضفتي أنه بديل الحكمة.. لست أدري لماذا أضافت قرنفلة الحكمة، جاهدت فهمي وعجزت، لكنني وجدت الإجابة قبل النوم ؛ فهتفت كما هتف أرشميدس: وجدتها وجدتها.. ليس من الحكمة أن أبحث: لماذا أحببت هذه البائسة البخيلة المتشائمة.. قد يكون الحب هو حكمة الموقف.. أحيانا يقودنا نبلنا إلى الحب وأحيانا الشفقة، غير أن أدني مراتبه هو ما تقودنا إليه الغريزة وحدها.. لماذا أستشهد بقرنفلة في موقف كهذا وأنا أعلم أنها راقصة؟.. هل من الحكمة أن نستقى الحكمة من صدور الراقصات ؟!.. الله يرحمك يا عمنا نجيب محفوظ.. عشت قرابة دهر وأنت تَقْـلِب الراقصة أو الساقطة منبعاً للحكمة.. ربما لأنها ترى الرجال على حقيقتهم الكاملة بدون حجاب.. ولكن يقيني أننا نستخلص الحكمة من المأساة أيضاً.. لا توجد راقصة مثل مأساتنا التي تهتز في نشوة صعوداً وهبوطاً، مخلفة نشوة الحرمان، إنها تزيد نشوة السكارى، لكنها تبيت إذ يبيتون مع الحرمان.. العين وحدها ـ كما قالت جلاديس ـ لا تُشبع المحروم.

صاحبتي ترى الدنيا بعينيها، لكنها تبيت مع الحرمان، لا مانع أن تبيت في حضن العجوز.. لكني سأعرض الزواج عليها.
مأساتنا راقصة فعلاً، لم يعد أحد قادراً على السيطرة عليها.. كيف أُعيدُ لها الزمن إلى الوراء لأبدأ معها حياة نقية خاليةً من الكدر.. يكاد قطار الزواج يفوتها إن لم يكن قد فاتها بالفعل.. لقد طمر النظام السابق التيارات الإسلامية بجملتها في السجون، وأعطى كل سبل التواجد لليبراليين ومتَّعهم في حظيرته كيفما شاءت لهم المتعة، ولكنه ربَّاهم لكي يكونوا له عدواً وحَزَناً!!.. انقلب السحر على الساحر في لحظة فارقة،عندما صدمهم مشروع التوريث، ثاروا عليه.. ها هم الإسلاميون في السلطة والليبراليون يصارعون الأنفاس للتواجد.. هي المأساة أن نجنى ثمرة غباء مبارك السياسي صراعاً بغيضاً، و الحرائق التي تشتعل كل لحظة في مصر، اللهو الخفي، قطع الطرق، السطو على البنوك.. مذبحة الأهلي وجمهوره في بور سعيد.. مأساة راقصة تهتز في نشوة أمام أعين الجميع، لا يفعل العسكريون شيئاً والجنزوري كعطار يحاول أن يُصلح ما أفسده الدهر.. أية مأساة أعظم من هذه.. لكنها مأساة لا تخلو من الحكمة التي سيفهمها الشعب مؤخراً.. سألتني عن رأيي في زواجها بالرجل المسن.. أعلم أن روحاً يائسة يمكن أن تؤول إلى السقوط، وخير من السقوط في وحل المجتمع أن تسقط في شهوة العجوز.
قلت لها: الحكمة أن تستفتي قلبك ؛ فإن خَفقَ خَفقةَ الحب فلتكن الخفقةُ هي البصيرة، وامضي إليه فإنه الكرامة.. هو ما يهب الكرامة مصحوبة باللذة، بعيداً عن ذل الحرمان وعذاباته التي تثقل الروح.. استدفئي بعناق بقايا حيوية شائخة خير من الحرمان.. تنطلق الشهوة من معاقلها.. يترنح الجسد تحت سطوة نشوة سحرية كروعة الروح عندما تسري في جسد الحياة.. يخضر حلمك ليلة أو أسبوعاً أو شهراً أو عاماً بَيْدَ أني أخشي الفشل.. ابحثي عن الضمانات، إن زواجاً مشمولا بالسرية وعجز الإمكانات المادية غير مضمون، قالت: لا شيء في هذه الحياة مضمون، هل يضمن الإنسان عمره ؟ قلت: العمر بيد الله، لكن الزواج بيدي.. قالت: حتى ما بيدي ليس مضموناً.. أعرف أنها متشائمة، وأعرف أنني كالطبيب عليه أن يكون صبوراً مع أدواء مرضاه.

الروح المعنوية المرتفعة هي التي تتقبل الأفكار الجديدة للحياة، بل هي سبب للتغيير، لو كانت روح الشباب محبطة لما صنعوا ثورتهم، صحيح أن ما رأيناه هو انفجار الكبت والقهر ولكن الروح التي أشعلت الثورة كانت وثابة ومفعمة بالتفاؤل.

والحقيقة أنني ـ رغم كل شيء ـ لمست خلف الكآبة روحاً حلوة تهفو إلى معانقة الحياة.. تقذف بالحكمة أحيانا وهي تحاورني، كما تتساقط الجواهر من البراكين لحظة الانفجار.. قلت لها إن روحك حلوة , وأنك عاقلة حكيمة.. وتساءلت كيف أغفلك طالبو الزواج المغفلون؟.. يقيني أنهم يحكمون بغرائزهم على الفتاة التي يتقدمون لها، غير أن اليقين الأكبر أنهم يحكمون عليها من كعب رجلها لا من رأسها.. ربما لأني من عشاق الحكمة رأيتها فاتنة، لم أكن مجاملاً رغم قصدية المجاملة..أحياناً كثيرة نجامل الآخرين بما هو فيهم ونحن نزعم أننا نَمُنّ عليهم.. حقيقة كانت حواراتها ممتعة أحياناً، رغم أنها كانت تصاب بنوبة الكآبة أحيانا فيسقط الحوار في الكآبة مثلما سقطت مصر في كآبة مبارك : إنتو بتخلفوا كتير.. السكر غالي متستعملهوش، الفاكهة غالية.. بلاش تاكلها.. أجيب لكم من فين؟!.

كنت أستعذب الحديث معها رغم ذلك، وكانت تتجسد لي روعة المأساة مجسدة في روعة الأنوثة.. هل لأن الكآبة أنثى نحن نستعذبها أحيانا؟ لست أدري.. اليقين أنني أعشق الحياة، وربما لذلك أنا أعتنق التفاؤل لأزيح كآبتها.. كيف نصفق أحيانا للكآبة؟.. لقد كان وجهه كئيباً ومع ذلك صفقوا له أكثر من ثلاثين عاماً.. وكانوا يتهافتون على التقرب إليه.. ياااااااه... كيف أن الكآبة عندما تطول تسطو على وجه الحياة حتى يصعب الفصل بينهما ؟ لقد طالت كآبتنا حتى خلناها الحياة نفسها!.

سألتها عن مشاعرها نحوى فقالت كلاماً طيباً عذباً ولم تستثنِ الحب، تذكرت ما قالته قرنفلة في حبيبها (حلمي حمادة ) من كلام رائع.. صحيح أن قرنفلة كانت فتاة ليل مترعة بالمآسي وكثيرون انحرفوا بسببها، لكنما الليل ما نحن فيه، وشبكة النت أخطر من راقصة، ماذا بقي أمامنا غير أن ننحرف؟!.. أحيانا ننحرف إلى أقصي اليسار، وأحيانا إلى أقصى اليمين.. لماذا لا يكون انحرافنا هذه المرة نحو الحب يميناً كان أو يساراً.. لقد عشت كثيراً من قبل قصص حب عبر الإنترنت.. وهي أيضاً تعيش قصة حب مأساوية من خلال النت؟.. قلت لها: هل يستوعب القلب اثنين ؟.. قالت: يستوعب مائة.. يقيني أنها مجازفة، لكنه رد يتناسب مع حجم كآبتها.. لأن شيئا حقيقياً في حسبانها لن يكون غير هذا الوهم الذي يربطها بالفتي الرقيع الذي استبد بمعسول كلامه بمشاعرها وقلبها وانزوى خلف شاشات الكمبيوتر.
قالت مثل فرنقلة : الحزن يقتلني!، وقلت أنا هنا.. أعرض عليكٍ الزواج.
كنت أتوقع أن تناقشني في التفاصيل، أو على أسوأ احتمال تطلب مهلة للتفكير.. تذكرت فتاة ربطتني بها علاقة قديمة، لم أكن أعلم أنها مخطوبة، جمعتني بها الأيام في حوارات طويلة متكررة، فتشجعت وطلبتها للزواج، أتذكر أنها قالت كلاما جميلا أشبه بالشعر، رغم مرور أكثر من ثلاثين عاما ما زالت كلماتها تعزف في أذني: " أنت إنسان أتمنى أن أقف طوال عمري أتحدث معه.. كلامك لا يُمل، وأنت تشعرني بروعة الحياة، لكنما ـ للأسف ـ لن أستطيع إسعادك، لأني مخطوبة.. لكني أعدك إن لم يُكمل خطيبي مشواره معي، فلن يكون أحد غيرك فارسي النبيل" كلمات نبيلة في لحظة نبيلة.. ترى كيف سيكون رد صاحبتنا؟.. قالت بعد كلام لم أتفهمه جيداً، أشبه بحشرجات الروح الصاعدة من جسد بهيمة في نزعها الأخير قبل الموت : لا. لا.. ردي : لا.. لا.
بعد فترة صمت كتبتْ : ـ هل غضبت؟

ـ لم يغضبني الرفض، بل أغضبني أسلوب الرفض.
ـ ألم أقل لك إنني قفلة.. لا أجيد الكلام ؟.
ـ لا بأس
ـ أعتذر لك

كان ردها سريع الطلقات : لا. لا. لا. لا.. تماماً مثل رد رجال العادلي على "سلمية سلمية"، بيْدَ أنها لم تكن في خبثهم عندما قالوا : محصلش.. وعندما قالوا: ننكرها جميعا تماماً.

كنت أتوقع كذلك أن ترفض.. ثمة مكابرة دفينة.. رغبة في الرفض بدافع إثبات الذات.. لا لأنها لا تريد، ولكنها رغبة الرفض في وجه واقع عصيٍّ يتأبَّى عليها.. كما يرفض الميت العودة إلى الحياة التي استعصت عليه في حياته, قالت:لا.. ليس لأنها لا تريد الحياة، ولكن لأن وهم الحياة يبقى في رفض الحياة نفسها.. رفض العبيد أن يكونوا أحرارا.. ليس لأنهم لا يريدون أن يكونوا أحراراً، ولكن لأن الرفض يوفر لهم وهم بطولة كاذبة.. ادِّعَاءٌ واهِمٌ بأن ما لديهم من بقايا إرادة تمارس الرفض أفضل مما لم تمنحه الحياة لهم.
كنت سعيداً بأني وفرت في طريق العلاج بعض الدواء.. ليتني استطعت أكثر من هذا.. ليس مهماً أن نتألم من أجل المرضى.. حينما تُجسِّد الكتابةُ الدواءَ، وحينما يتصنع الأديب العماء من أجل أن يوفر للآخرين وهم إبصارهم.. ظننت أنها تستشعر نشوة الرفض، ووهم البطولة.. ظننت أن كوابيسها سوف تودعها ليلة.. سيموت الكلب الذي يتشمم حول لحمها.. ستشرق شمسها غداً على قارعة جديدة.. ظننت وظننت حتى أتى الموعد التالي.

ـ ها.. كيف الحال؟.
ـ عادي
ـ غداً يأتي العريس على حصان أبيض، وتكون الحال غير عادية
ـ أنا لن أتزوج أبدا.. هذا إحساسي
ـ إحساس كاذب
ـ لا.. أنا متأكدة
ـ سلام قولا من رب غفور رحيم..قولي إن شاء الله
ـ إن.....
ـ أكمليها 
ـ من غير ما أكملها
ـ أعوذ بالله
ـ أنت شخص غريب

هكذا المتشائمون لا يقولون "إن شاء الله " على سبيل الدعاء.. لا يقولونها إلا للتجمُّل الديني الكذوب.. يرفضون الخضوع لها في لحظات الاختيار الحر.. يتهمون المشيئة بالوقوف خلف حرمانهم.. رغم أنهم عميان عن إدراك أنهم من يصنعون بأيديهم حرمانَهم.. رغم ذلك تلتفت السماء لهم.. تماماً مثلما أنهم يرفضون الخضوع لاحتمالات الشروق، كالغرباء يرون كل شيء غريباً.. طول الظلام يعمي العين عن الرؤية على نحو أكيد.. العيون كالنفوس.. حالة مستعصية.. لا أظن أن الطب النفسي سوف يقدم علاجاً مثل الذي قدمت.
أتذكر أنني نمت مبتئساً.. الإحساس بالفشل وقعه مؤلم.. رأيتني في حضرة الكوابيس.. كانت كلبة تعوي.. لم أشأ أن ألقمها حجراً واستسلمت لوقع عوائها.. لم يكن منفراً أو مفزعاً أو مخيفاً، بيد أني شعرت بالقرف، والاختناق.. انحبس النَّفس فجأة.. قمت مفزوعاً.. رأيتهم على شاشة التلفاز وكان لا يزال يدعك أنفه ويردد: "هذه الاتهامات أنكرها كلها تماماً".. كان يراهن على غبائنا وكنا نراهن على غبائه.. انتقلت إلى قناة أخرى.. كان الحوار عن اللهو الخفي الذي يشعل الحزن في النفوس.... حاولت النوم مرة أخرى.. تأبَّي النوم.. رحت أقلب بين صفحات الكتب، وكنت أقرأ:
"وكرَّت الأيام والأسابيع حتى أوشكت قرنفلة على الجنون، وحزِنْتُ لها حزنا بالغاً حتى قلت لها:
ـ أنتِ تهلكين نفسك بلا رحمة.
ـ لست بحاجة إلى الرحمة ولكنني بحاجة إليه."

.......................
ربما أنها سوف تنتحر يوماً ما
.........................
ما لم تقله قرنفلة : (إن الحياة على علاتها تسير)
بعض التفاؤل هو ما يجعلنا نتقبل هذه الحياة.
لعلها لم تعش عصر مبارك، ولم تسمع قوله: البلد مش هاتقع
أحيانا ـ بغير ما يقصدون ـ ينطق الأغبياء والمجانين والمرضى النفسيون بالحكمة.
.........................
أحيانا يكون نُبلنُا هو ما نصنعه، أو حتى ما نحاول أن نصنعه
.....................
"وكانت قرنفلة تتابع الحديث بذهولٍ كالبلاهة، وترفض أن تفهم شيئاً أو تقتنع بشيء."

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى