الثلاثاء ٢٧ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٩
قراءة لمجموعة الفنان رسول المرشدي (أشرعة اللون)
بقلم محيي الدين الجابري

ما وراء المعنى

أن تصلك قصيدة من صديق شاعر في رسالة، أمر عادي جدا، ولطالما انتقل الأدب بكل صنوفه من خلال رسائل وكتب منقولة من مكان إلى آخر، أو من زمن إلى زمن، ولطالما أيضا وجدنا أنفسنا مأخوذين بسحر الشعر، أو أسرى ذهول مؤقت، أو ربما دائم مستمر، تأخذنا إليه رواية ما، أو كتاب بلاغة ما، وهكذا كان دأب البشرية منذ فجر التاريخ، يرث فيها الناس آداب أسلافهم، أو يتناقلوا نصوص معاصريهم، متجاوزين حدود المكان والزمان، ومحتالين على عقباتهما، وما الشبكة العنكبوتية اليوم الا وسيلة اخرى لتحقيق التواصل، وتجاوز الحدود، وإذا كانت هذه الشبكة قد نجحت، بل وتفوقت، في نقل الآداب وحتى فنون المسرح والسينما، فإنها فشلت معي على الأقل في نقل اللوحة.

وصلتني قبل مدة ليست بالقصيرة مجموعة تشكيلية للصديق الفنان العراقي المغترب رسول المرشدي عنوانها " أشرعة اللون " تضمنت سلسلة من الأعمال التي يجمعها هو في رؤية واحدة تحت هذا العنوان، وكانت أزمتي مع هذه المجموعة تتصاعد كلما أمعنت النظر، وأجلت طرف التأمل في ثناياها، والسبب يعود إلى إحساس بالاغتراب دهمني وأنا أتفحص تلك المجموعة، وما زلت لا أدرك حقيقة هذا الإحساس حتى هذه اللحظة، لكني اكتشفت أن في الأمر أزمة من نوع آخر تتعلق بوسيلة النقل أو العرض التي علي أن أمد معها جسور اللغة البصرية وصولا إلى اكتشاف المعنى، أو ظلاله، فالانترنت مهما تفوقت في التوصيل تبقى عاجزة عن نقل الروح، هذا ما تيقنت منه، وأنا أتعامل مع هذا الجو الجديد الذي يفرض علينا أن نتلقى النتاج البصري، والتشكيلي منه بالذات، بواسطة شاشات الديجتال.

ينظر الواقف أمام لوحة في معرض ما، ليس إلى القماشة، وما عليها، أو اللون والحركة فقط، بل هو لاشك يحاول أن يتأمل في طيات كل ذلك بحثا عن جوهرة الروح التي يخبئها الفنان في لوحته، وللمكان، ومساقط الضوء على اللوحة، ودرجة الإضاءة، والحجم، واحتواء العين للمفردة، كما لرائحة الزيت، وسطح اللوحة، وتعرج الخطوط عليها، وضربات الفرشاة، وتباينها قوة وضعفا، ولبقايا شعرها الفاتن الذي ربما يغفله أو يتغافل عنه الصانع فيتركه يتناثر في ثنايا اللون، كل ذلك له دور مباشر في نقل ما يريد أن ينقله الفنان إليك بصريا، بوعي أو بما هو أبعد منه، فاللوحة ليست هي اللون فقط بماهيته المجردة، ولا بالشكل ومعناه، بل هي خلق، هي كائن حي أقرب في صفاته وكينونته إلى البشري، له وجود عليك أن تستشعر حضوره، وله صوت، عليك أن تنصت اليه، وله رائحة عليك أن تتفقدها، وله بعد كل ذلك روح ونفس تترك ظلها متحركا في اعماقك حين تلتفت عنها أو تتمشى مغادرا المكان الذي جمعك بها، اللوحة أقرب في كل ذلك إلى الانثى من أي شيء آخر، ولو كنت تمتلك روحا شفافة تؤهلك لمعرفة الانثى، فأنت لا شك تستطيع أن تتعرف إلى اللوحة كذلك.

ترى هل تحقق شاشة الديجتال لك شيئا من كل هذا، نعم هي تنقل إليك اللون والحركة، وتقنيتهما، لكنها لا تستطيع أن تنقل إليك الحضور والكينونة والوجود، والماوراء، ومن هنا يأتي فشل التواصل مع لوحات منقولة على الانترنت، خاصة إذا كانت جديدة، لم تألفها عينك من قبل، تنطوي على ظواهر فنية لم تعهدها، وتخاطبك بلغة متطرفة في عصريتها، وتناولها لواقعها، كما هو الحال مع أشرعة المرشدي.

وبالرغم من كل ذلك يبقى أن معرفتي الطويلة ومتابعتي الدؤوبة لأعمال المرشدي تساعدني في التوصل إلى الكثير مما عناه في أشرعته وما انطوت عليه، أو نشرت به، فهي أشرعة لا كالأشرعة، تنشر ليس إلى سفر في الآفاق، بل إلى محاولة للإقامة داخل المكان وتكريس حضوره في اللون، بل وجرّك إليه بالحركة، هي محاولة تقنية فنية، أكثر منها استدراجا للمعنى، تجربة في إطلاق ثورية اللون والحركة، أكثر منها تجربة في استكناه مفردات الموضوع، وهي بالتالي أشبه بسجع الكهان منها بالشعر الخالص، بل أقرب إلى التعبير الصوفي ومحاولة حشد الرؤية في ابعد نقطة من المكان دون أن تحتاج إلى تقريب المعنى، وتداوله.

منذ زمن بعيد عرفنا المرشدي مغامرا طائشا في استكشاف إمكانية اللون التعبيرية، منذ أيام النجف الاشرف كنا نعرف أنه لا يقتنع بالمعنى التقليدي، بل هو روح هائمة في سماوات تختزن في الضوء واللون لغطا وثرثرة ذات أبعاد سحرية، وكان هو من القلائل الذين يفهمون ذلك اللغط، ويترجمون تلك الثرثرة إلى بُعد ولون وحركة على سطح اللوحة، وهو اليوم يجازف - مطمئنا إلى قدرته - في الذهاب بعيدا، والتحليق عاليا في تلك السماوات، ناشرا أشرعته اللونية أجنحة تطير به في ملكوت غيب سرمدي، يطول فيه بحث الإنسان عن أجوبة لتساؤلاته الازلية.

اللون في أشرعة المرشدي الأخيرة تضييع متعمد للمعنى التقليدي، بل هدم لعمارة السائد وصروحه وقوالبه الجامدة، هو محاولة مستمرة للكشف عن المتغير في واقع شرس يتقبل كل ما هو استثناء متوحش على انه قاعدة أخلاقية، بل ويؤسس على ذلك نظما ويسوس مجتمعات، هو انعكاس مدروس لما يكرسه الواقع،ويركن إليه، وهو تتميم متواصل لحركة تزداد شراسة، على الرغم من انسيابيتها الواضحة في منحنيات تتكرر دائما وترتبط ببعضها البعض من لوحة إلى أخرى داخل المجموعة كما لو أنها نسيج حركات متواصلة تشكل بمجموعها ما أراده المرشدي من قصد في الإيضاح، مع سحرية ناتجة عن تشتت المفردة الواحدة، وذوبانها تماما في المجموع العام، وعلى وفق ذاك لا يمكن للمتلقي أن يدرك المعنى في قراءته للوحة مفردة داخل المجموعة بل عليه أن يتعامل مع المجموعة بالكامل كأنها أوبرا متواصلة يكمل بعضها بعضا.

خلال قرائتي للوحات المجموعة منفردة، لم استطع أن أقع على منعكس يمثل الذات، أو حتى الآخر، في كل لوحة على انفراد، وهو تحد أرادنا المرشدي أن نقبله، وأن نتوصل إلى أسراره في المجموع الكلي لأشرعته وليس في الجزء، كأنه يقول للمتلقي أن هذه الأشرعة هي لسفينة كبيرة واحدة، وليس لقوارب صغيرة تبحر وحيدة في بحر الرؤية، علينا إذن أن نقبل تحدي المرشدي، وأن نجمع أجزاء المعنى من كل حركة ولون في المجموعة، وهنا، عند لحظة إدراكك للكل، في انضمام الجزء إلى الجزء، تتبدى أمامك واضحة خريطة المعنى في انحناءة الخط التي أصر عليها، وفي الأزرق الذي يتكرر كثيرا، والرمادي الذي يكاد لا يغيب، ولست أبالغ أو اشتط بعيدا إذا قلت انه يلح عليك في المنحني بشدة، وصولا إلى قطعة كبيرة من الدائرة الغير مكتملة، ثم في النهاية إلى الدائرة التي تكتمل، هنا عليك أن تصنع لنفسك تراتبية تقنعك في التوصل إلى مواجهة تحدي الإبداع بتحد آخر هو تحدي الإدراك، والأمر لا يختلف مع اللون، فهو يأخذ بيدك متدرجا، حتى يصل إلى هتافه الأقوى، الذي يتردد صداه في كل أرجاء المجموعة، وعليك أن تلحظ بنفسك، أو بدقة أكبر، أن تسمع بأذنك أنت وحدك المتلقي المنفرد، أين هي صيحة المرشدي، وأين هي ذروة هتافه.

وليس هذا فقط، فهناك أيضا مفردات أخرى تحاول أن تتكامل على امتداد العمل الكبير الذي أنجزه المرشدي في هذه المجموعة، هناك أيضا الشكل الرباعي، الذي يكرره المرشدي في أكثر من شكل ولون، كأنه يحاول أن يحيل المتلقي إلى هندسة خادشة، بل جارحة شرسة، لانسيابية المنحني، وهي بالتالي انعكاس متوتر لهندسة المحيط، والواقع، وهكذا هو يكرر الشكل الرباعي في ما يقرب من 85 % من مساحة المجموعة، فهو تارة جزء من الكادر الأساس، أو هو خلفية له، أو هو مفردة مهملة في الجانب، أو حد فاصل بين مساحتين لونيتين.

ومن مفردات المجموعة الأخرى أيضا أثر الحركة المحفور عميقا على سطح اللوحة مع غياب المتحرك، أو تغيبيه، يتكرر ذلك في نسج مدروس، يعيد إلينا جميعا صورة الأرض الطينية التي تحركت عليها العجلات، وهي صورة قد لا يكون المرشدي عناها بهذه الدقة، لكنها بالتالي إحالة واعية أو غير واعية إلى واقع عرفه المرشدي في تجربته الحياتية أيام الحرب.
يبقى أن ما يقوله المتلقي عن عمل تشكيلي ما، وخاصة أعمال المرشدي، هو خلاصة لما يتركه العمل في داخله من تحفيز للمعاني والمفردات، وقد لا يكون بالضرورة فهما تاما، أو تفسيرا، بل هو أسئلة عن الاحتمالات، وهروب من حتمية لا يريدها الفنان، ولا يحتاج إليها المتلقي، فاللوحة إيحاء متواصل، وليس نص تشريعي لا يقبل التأويل.
على أن المرشدي في كل ذلك يبدأ التأسيس لمرحلة مغايرة في تناول البصري التشكيلي لليومي المعاش، وهو في تجربته الاخيرة حضور متفرد، يقول بوضوح، ويعبر عن نفسه بقوة، بل ويتحدى بقوة اكبر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى