الاثنين ٣ تموز (يوليو) ٢٠٠٦
بقلم إدوارد خراط

محمود البدوى شاعر الحدوتة المصرية

أقرأ قصص محمود البدوى كلها كما قرأتها طوال ثلاثة عقود من الزمان على الأقل ، باستمتاع خالص ، وفرح لا أجد مثله إذ أقرأ لأى كاتب آخر من عندنا ..

حفزنى ذلك إلى أن أنظر قليلا فى سر هذا الفنان العظيم ، ما الذى جعله يحتفظ بهذه النضارة الغضة ، وهذا الشباب المتجدد ..؟

ما الذى يستثير عندى ، على الأقل ، وإن كنت واثقا أننى لست وحدى فى هذا المجال ، كل تلك البهجة والتشويق والسرور الخالص ، إذا أقرأ قصصه الجميلة الصغيرة ! ما سر هذا التدفق ، هذا الفيض من الفن الخالص ..!

أول ما تلاحظه أن قصص البدوى كلها بلا استثناء تتناول مصائر الناس فى لحظات تقاطع أو ارتطام ، تصطدم بعضها بالبعض ثم تمضى ، فى حركة سفر مستمرة وحركة لا تتوقف أبدا ، غياب وعودة ورحلة ونقلات ووقفات قصيرة ملهوفة كتلك القصص العابرة عن الحب التى لاعداد لها فى عمل محمود البدوى ، كلها تدور فى القاطرات والطائرات والسيارات والفنادق ، كلها مؤثرة وسريعة ..

لست أذكر قصة واحدة له تدور فى موقف سكونى أو يتوقف الفنان فيها أمام نقطة ثابتة ، نراه دائما على جناح السفر ، بكل معانيه ، بين الحياة والموت وحوادثهما وفواجعهما ، دون أن يقر له قرار ..

لعل فى هذا جانبا من سر سحره لنا ، ولكنه قطعا ليس كل شىء ..

ولعل بعض ما يعيننا على تفهم هذا السر ، أن نرى كيف يعالج الفنان هذه التيمة الأساسية ـ تيمة تصادم مصائر الناس فى رحلتها المستمرة ـ وطرائقه الفنية وأسلوبه القصصى .. التشكيلى ..

أول مايبد هنا ويمتعنا ، عند محمود البدوى ، تلك البساطة العفوية فى اسلوبه ، اختياره لأوضح الكلمات وأقربها منالا كأنه يلتقطها من تيار الحياة نفسه ، مندفعا فى تعرجاته السهلة وسقطاته وسكناته وجيشانه ، من فرط بساطتها يخيل إليك أنها صيغ قالبية ، كليشيهات جاهزة ، قطع من الحصى مدورة لامعة يأخذها من مجرى مياه الحياة ـ وهى كذلك فعلا فى نهاية الأمر ـ ولكنها موظفة توظيفا فنيا فى سياق ليس قالبيا ولا جاهزا ولا مألوف السنن .. ومع ذلك فهى ليست مبتذلة ولا تفهة الطعم ، الفنان بحس مرهف وباهر البراعة ، ينسج من هذه الشبكة ، من كلمات الحياة اليومية وبنفس مادة الحياة اليومية ، تعبيرات نافذة أصيلة مفاجئة تضفى على كل ما حولها نورا جديدا ووديعا ومشعا ..

خذ مثلا هذه العبارة :
" خلعت سترتها وأخذت تنظفها .. وبدا لحمها من تحت القميص الأخضر متسخا كأن به آثار جرح "

لم يقل جسمها ، أو كتفها مثلا ، لم يقل به آثار جرح فقط ، لم يقل متسخا فقط ، هذه التشكيلة من الكلمات العادية المألوفة ، فى هذا السياق ، تعطى صورة حية شديدة الحيوية ودقيقة جدا ومضيئة جدا . وليس هذا إلا مثالا واحدا نأخذه عفوا من ركام ضخم لانجازات صنعة الفن عند هذا القصاص الكبير . وليس هذا الأسلوب نتاج العلاج الواقعى السوى التقليدى ـ كما يخيل إلينا لأول وهلة ـ إن الدعوى التى أتقدم بها هنا أن محمود البدوى ليس على الاطلاق كاتبا واقعيا من الطراز المألوف المطروق ، بل هو أساسا ينتمى إلى كتاب الفنتازيا ، ولن أتحدث أيضا عما يسمي بالشاعرية ـ وقد ابتذل هذا المصطلح النقدى حتى أوشك لايعنى شيئا ـ ولكننى سوف أصل إلى ذلك ، بعد أن أفرغ من الإشارة بسرعة إلى خصائص اللغة الفنية عند محمود البدوى ، أى إلى قدرته الخارقة فى الايجاز والقصد ورسم الصورة أو الفكرة بأوجز أداة وأقطعها ، ان الأغلبية الساحقة من فقرات لاتتجاوز بضعة سطور وتقتصر أحيانا على جملتين أو ثلاث ، التقطيع الفنى عنده سريع ، متلاحق ، دقات متوالية قصيرة النفس ، والعبارات عنده تكتمل فى كلمات قلائل ، الرؤية والأسلوب معا جانبان منصهران فى وحدة ـ أو فى وحدات قصار ـ لاتتوقف ولا تركز ولا يصيبها أقل شىء من ركود وارتخاء ، كلها على سفر ، كلها متحركة أبدا ، ليس معنى ذلك أنها أحيانا ـ بل كثيرا جدا ـ غير مرتاحة ، ليس فى هذا العلاج حمى التلهف أو قلق التوفز أو نبو المضجع ، على العكس ، صحيح أن النقلات السريعة المتدفقة لا تتيح الغوص فى الأعماق والتقصى للخفايا الداخلية والاستبطان المتأنى الصبور أو الجوس داخل الخلجات والهواجس بأصابع متلمسة عارية الأعصاب ، لكنها فى الوقت نفسه تنبع من نفس متأن ليس فيه لهاث ولا فيه نار اللوعات واللواعج ، من بصر فسيح الأفق متمكن الزوايا ، وخطوط الرسم الفنى هنا خطوط قصيرة واضحة واثقة ذاهبة إلى قصدها وبالغة إياه مباشرة ، دون التفاف ودون أن تمزق اللوحة بحدة ليست مطلوبة فى هذا السياق بالذات ..

هذا بالضبط ما يدعونى إلى أن أقارن بين فن محمود البدوى وبين ذلك اللون من الفن الغربى الذى بدأ الآن يلقى قدرا متزايدا من الاهتمام فى الغرب ، على خلافات أساسية بين ما يفعله كاتبنا وما يجرى الآن فى العالم الغربى .. أقصد بهذا الفن ما يسمى بالشرائط المرسومة أو الكارتون ـ وهو شىء يختلف اختلافا أساسيا عن الكاريكاتير ، وله خصائصه الفنية المميزة بل هو نوع جديد تماما من الفن يثير الانتباه جدا هذه الأيام .. وأقصد به تلك الرسوم التخطيطية التى تحكى حكايات خرافية أو مغامرات عصرية .. هنا تجد الشخصيات ـ أساسا ـ أنماطا أو نماذج ، أو قوالب رئيسية ، ليس فيها سفسطائية التحليل الفردى ، بل الوضوح والسطوع فى التحديد والقطع ، وتبسيط القسمات والملامح إلى آخر حد ، الفتاة دائما نجلاء العينين جدا ، ناهدة الصدر جدا ، هضيمة الخصر إلى حد خرافى ، بأقل كلمات وأنفذها ، وكأنها كلمات قالبية ، تصل إلى الغوص وتدير الدراما . والفتى مفتول العضل ، شجاع دائما بل مقحام ، لا يتردد أبدا وهكذا .. هذه الأساطير العصرية ـ فى العالم الأوربى والغربى بصفة عامة ـ تمثل أوضح تمثيل تيارات المعتقدات " الشعبية الشائعة " فى العصر الحديث وهى فى الواقع شكل جديد من أشكال الفن يجد حفاوة جديدة من النقاد وعلماء الفن ..

الفرق الأساسى بين فن محمود البدوى وبين هذا الفن الغربى الجديد ، أن محمود البدوى فنان مصرى أساسا وعميق المصرية ، يستلهم روح الحدوتة المصرية الشعبية العريقة بل ويجرى عمله كله فى سياقها لا فى سياق الواقعية التى عرفناها من الغرب ..

أطرح هذه الرؤية على قرائه ونقاده ، وأظن أنهم سيجدون فيها شيئا كثيرا من تفسير سر المتعة التى نجدها فى فن محمود البدوى .. أنه دائما ينطلق من معتقدات شائعة تخاطب وعينا الجماعى ـ دون أن نحس ـ وهى فى الغالب معتقدات لها سطوة مسلم بها دون أن تقبل أو حتى دون أن تأبه لما يمكن أو لايمكن أن يكون فيها من الصحة والدقة العلمية ، فليس هذا هو مدار العمل ، هى معتقدات تخضع " كما لابد أن تخضع " للتحليل العلمى ، ولكنها لاتنبثق عنه ولا تتصل به ، مثال ذلك تلك المعتقات من الرصيد العام الشائع عن الفحولة الجنسية فى بعض المواقف ، عن الخيانة أو الوفاء ، عن هدالة السماء وتوافيق القدر ، عن أنماط من السلوك ومصادفات الأحداث ، بل ان هذه المعتقدات المأخوذة أو المستوحاة من الرصيد العام للناس لا تجد تعبيرا عنها فى أحداث القصص ـ وخاصة فى نهاياتها فقط ـ بل يعبر عنها الكاتب صراحة فى جمل تقريرية " فكرية " مباشرة تدخل فى صلب القصة على لسان الكاتب نفسه أو لسان الأشخاص ـ أو الشخوص ـ فليس فى عمل البدوى أشخاص أو شخصيات بل شخوص أى أنماط قد ترتفع أحيانا إلى مراقى الأنماط الرئيسية ..

فرق آخر وهام ، لايتميز به محمود البدوى وحده فى الواقع ، بين القصة القصيرة الغربية والقصة القصيرة كما تكتب الآن فى مصر ، ان قصتنا القصيرة تنبع حقا من طبيعة وجداننا وبصيرتنا الجماعية ، أنها تبتعد شيئا فشيئا عن الشكل الغربى التقليدى ، المحكم المدور على نفسه المتقن الصناعة وهى تطوع شيئا فشيئا لتراث الحدوتة الشعبية باسترسالها وعدم تقيدها بضرورة التجاوب الدقيق بين أجزائها، أى تتميز القصة عندنا بانسياب طولى ـ ان صح القول ـ وترسل فى الزمن لاتكون بؤرته شخصية واحدة أو أكثر ، ولا حبكة قصصية مغلقة الدورة ، بل يتدفق فى عملية متطاولة متعاقبة الفصول ، وهو شكل تزداد صعوبته الفنية عن الشكل التقليدى ، إذا يتعرض ـ مضاعفا ـ لخطر الوقوع فى الثرثرة والحشو ، إلا أن محمود البدوى ببصيرته الصافية وأداته النقية ، قد وفق فعلا فى أغلب الأحوال إلى النجاة من هذه الأخطار ، ووفق فعلا إلى الوقوع على هذه الكنوز الثمينة فى الشكل القصصى الذى يندرج أساسا فى سياق الحدوتة ـ أى سياق الفانتازيا ـ ومن هنا جاءت جاذبيته التى لا تقاوم ، وتلك المتعة الشائقة الفريدة ، تلك الراحة النادرة التى يستروحها القارىء معه ..

نشرت الدراسة فى مجلة " روز اليوسف " الصادرة فى يوم الإثنين 18 مارس 1974 ـ العدد 2388


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى