الأربعاء ٢٥ آب (أغسطس) ٢٠١٠
بقلم مي محمد أسامة

مرايا الظلام

فالسّاكِتُ عن الحُلمِ
يا أنا
أحْمَقْ

ترجّلت من الحافلةِ بهدوئها المعتاد، سلكتْ مَنحى الطريقِ متّجهةً لبيتِ والدِها. بدا وجْهها مجلّلاً بالتعبِ، و شعورٌ بالجوعِ و الإعياءِ خيّمَ على ساعتها. وضعتْ يَدها على الجرسِ، ما كانتْ تُريدُ اِنْتزاعها حتّى تَستبقَ الوقت و تختصرَ الأفعال. أطلّ وجهُ ابنتها زُهى الصغير المحبّبِ من خلف الباب..

 ماما عادت، ماما هُنا ..

وأخذتْ ابنةُ الرابعةِ بالقفزِ غيرَ آبهةٍ بثقلِ أفعالها على والدتها المُستنزفةُ من التعبِ:
 جهّزي أشياءكِ زُهى، أنا مُستعجِلة.

 (الآنَ ستقولُ لي أمّي اِبقي للغداءِ، و قبل أن أجلسَ ستبدأُ بغناءِ طلباتها المُلحّة: يا ابنتي لا عزاءَ للراحلين، اِصحي لنَفسك؛ قِطارُ العُمرِ لا ينتظرُ أحداً، حتّى أنتِ.

مَصيرُ ابنتك للكِبرِ ثمّ استدراكَ حياتها، الوحدةُ شعورٌ قاتلٌ ستعجزينَ عن مواجَهته..).
أعرفُ أنّ الإنسان مُصمّم لتحمّلِ الكثيرِ من الأشياءِ، مِثلَ الحُزنْ، الجَرح و الألم، لكنّهُ غيرَ مُصمّمٍ للتعايشِ مع الوحدةِ، صحيحٌ هذا، لكنّني فقط لا أستطيعُ سماعَ وعْظِها اليوميِّ بما لا يُجدي معي نفعاً.

لملمتْ زُهى حاجِياتها، و أجْهزتْ أملُ على حديثِ والِدتها قبلَ أن يَبدأ خَاتمةً إيّاهُ بـ شكراً أمّي،أراكِ قريباَ، وانطلقتْ بابنتها إلى بيتها غيرِ البعيدِ.

 ماما، جدّي يقولُ أننا سَننتقلُ لبيتهم قريباً، هلُ هذا صحيح؟هل سَأتركُ غُرفتي و سَريري و ألعابي و حِصاني الأبيض، و سأنضمّ إليهم؟

تابعتْ وكأنّها تُناجي نفسها: بَيتُهم كبيرٌ وجميلٌ لكنّ بيتنا أجْمل، فيهِ مكانٌ لكلّ أشيائي. ثمّ أنني ألعبُ هناكَ دونَ خشيةٍ من صُراخ جدّتي عنِ الفوضى التي أحدِثُها، ولا الألعابِ المُبعثرةِ هُنا وهناك..

ماما، لا أريدُ تَركَ مَنزلنا! إنّه بيتي!

ضَغطتْ أملُ دونَ قصدٍ على يدِ ابنتها و كأنّها تكبتُ القهرَ الذي سَيخرجُ توّه مع كلماتها: لا تَخشي شيئاً يا زُهى، لن يحدُثَ هذا أؤكّد لك. لن أفعلَ شيئاً لا يُرضيك..
وكأنّها أعطتْ ابنتها جَرعةُ اطمئنانٍ فانتشت و تلاشى خوفها، أفلتتْ يدَ والدتها وبدأتِ الوثبَ و التنقّلَ على جنبات الرصيف مُدندنةً أغنيةً بلحنٍ طفوليّ بسيط..
كم يُمزّق الطفل بعثرة انتمائه، والتهديدُ بتجريده من ملكيّته، فهو حريصُ عليها ليسَ من بابِ علمٍ بماهيّتها، إنّما لأنّه لا يزال طِفلاً جاهلاً لطعمِ الفقدِ وحاجتهِ كدرسٍ مُلازمٍ للحياة.

دقائقٌ ماجَت فيها الأفكارُ في رأسها ثمّ ألفت الباب أمامها، وزهى تدفعه برجلها لتجتازَ الحديقة و تبدأ القفزَ على الدرج.

أدارتْ المُفتاح في ثقبِ البابِ و دخلتْ تُسابقها الطّفلة، نَسمةٌ مُثلجةٌ تلفُّ المكانَ بوحشةٍ غيرَ مقيتةٍ بقدرِ أساها. وضعتْ حقيبتها و تأهّبت لصلاتها، فقضتها .
دلفتْ إلى المطبخِ لتستدركَ صُراخَ مَعِدتها فأعدّت طبقَ الطعام. سألت ابنتها أن تشاركها الأكل..: أُريدُ أن ألعبْ. كانَ جوابُ زُهى المختصرْ..فتابعتْ طعامها بصمتِ المنهوك.

..

" أحتاج للقليلِ من الراحةِ الآن، الصُداع يشتدّ عليّ. واحتاجُ بعدها للذهابِ إلى السّوقِ، فزُهى بحاجةٍ لبعضِ الأشياءِ و المطبخِ أيضاً.
لا أدري كَمْ مِنَ الوقتِ سأحتملُ هذا الوضع، ربّما لو كنتُ هانئة البالِ أكثر لكان الأمرُ اختلفَ، أو هان بعضُ الشيء؛ يا ربّ أنا مرهقة، ما عُدتُ احتمل.
يقطعُ سَربَ أفكارها صَوتُ طِفلتها: ماما، الخالُ محمّدٍ على الخطّ، ألم تسمعي رنّة جوّالك؟..

 نعم يا محمّد، خير؟

 هل هاتِفُكِ معطّلٌ أم أنّك لمْ تَسمعيه؟

الهاتفُ؟ لا حسناً دعني أرى..اِلتقطتِ سمّاعةُ الهاتف، لتجدهُ أبكمَ كالحائط.
 حسناً محمّد، لا أريدُ إحداثَ مُشكلة، هل هُنالك مِن شيء؟

لا كُنتُ أطمئنّ عليكِ، هل أنتِ بخير ؟

نعم شكراً لك، سأتّصلُ بكَ حالما أُصلِحُ العطل..

أغلقتْ السمّاعةُ بهدوءٍ لا يُشبِهُ داخلها، الصفعاتُ مِن حولها تزدادُ، مجبرةٌ هيَ على الوقوفِ صامِتة، إن لمْ يكُن مِن أجلِها فمن أجلِ ابنتها.

مدّتْ رَأسها خارجَ النافذةِ لترى سِلكَ الهاتفِ يتأرجحُ مَقطوعاً للمرّةِ العاشِرة.
سكونٌ فظيعٌ اجتاحها، غَرِقت في مَقعَدِها و الهواجِسُ تنتابها كالحُمّى، لا تعرفُ مِن أينَ تأتيها الفِكرةُ لتنبُذَ أُختَها، شللٌ تامٌّ ضاعَفه التّعب، أفقدَها القُدرةُ على التركيزِ.
.."بعضُ المشاعرِ أوهى من بعض، كلّها تقفُ حائلاً بين المرءِ و مداركـه. كلّها تلوّنُ واقعاً ما مُجبرٌ الإنسانُ على خوضهِ بأطيافٍ ما كادَ خياله يتصوّرها"..لن أدع مشاعري تعترض قدرتي على الحكم الصحيح أبداً!

ابتسامةٌ عَلتْ مُحيّاها فجأة، تذكّرتْ جارتَها الألمَـانيّةُ جانيت، و حديثُها مَرّة: أنتم المسلمون تعيشون في تناقضٍ مَرَضيٍّ مُضحك. آويتُ منكم مُستأجرين كُثر، راقبتكم جيّداً طوالَ سِنين، لم أعرفْ قطّ أينَ العيبْ، أفيكم أم في تعاليمكم. تقولونَ المرأةُ و حِجابها صونٌ لها و إعلاء لقيمتها، ولا أراكم إلّا تكذبون.لا قيمةَ للمرأةِ عندكم،لا قيمة و لا ثمن.

فحين تكونُ المسكينةُ ابنةَ رجلٍ ما، ترى الأبّ أو الأخّ يتحكّم في عددِ أنفاسها فيحسبها كي لا تُسرف فيها، وحين تتزوّج، إمّا أن تُصبح رجلاً تقوم بكلّ أعباءِ المنزلِ و الأولاد لانشغال زوجها عنها، أو تصبحُ جاريةً يسومها القهر في إلزامها بالكثيرِ من الأشياء التي لا قِبل لها بها، وشبحُ الطلاقِ أو الزواج بأخرى دائماً يتقافز أمامها. و يا لسوءةِ عُمرها إن طُلّقت أو ترمّلت، و أنتم تقولون عن هذا " شرع" ليس فيه حرام و لا إثم، لكنّكم تُلبِسون المرأة ثوبَ الخطيئةِ و تبدؤون برجمها إن كنتم غرباء عنها، إنّما لو أنتم أهلها، لن تفعلوا أكثر من مجرّد "وأدها" تحت التراب، حتّى و إن كانت مظلومة!
أنتم مُرضى حقّاً، وحالتكم مستعصية!

تَذكُرُ وقتها كم جادلتْ، وكم استلّتْ من براهين لتثبتَ لها خطأ معتقدها، وكم تمثّلت بزوجها خالد طِيبَ طباعِ المسلمينَ و جمال أنفسهم. لكنّ جانيت، رغم احترامها لخالد، قالت أنّه "بوهيميّ " و ليس مسلماً. فهو يعيش على "الفِطرة" أو على هامش الحياة، وكأنّه طارئ عليها. كان كلّ كلام جانيت صحيحاً، حتّى عن خالد. فقد كان هكذا حقّاً، بِعُمرِه القَصير.

كان عديمَ الإحساسِ بالمسؤوليّة، لا يَشغلهُ إلّا إثباتُ نفسه بلا شيء، يتنقّلُ دائماً من عملٍ إلى عملٍ بحجّة ُتعب نفسيّته. يحيلُ نهارهُ ليلاً و يُشَرِّكُ الليلَ حتى لا يَشعُر به. ثمّ تراه و قد آبَ إلى ذاتهِ و اعتزلَ الدنيا في لوحاتٍ يرسُمها و يركِن إليها. كم مرّت عليها مِن أيّام معهُ و هي تبيتُ على الطّوى، تشتهي كسرةَ الخُبزِ الحافِ .
كم كانت غُربتها الأولى إلى جانبهِ قاسية، حتّى وَجَدَت عملاً، وصارتْ بالفعلِ هي الرجل. من عَملِها أكلا، ومن مالها بَنَتْ هذا البيتِ الذي يضمّها مع ابنته، وجهّزته. لكنّه كان يصحو من عمههِ كلّ حين، فيُحصّل بعض النقود ليرميها أمامها.
كانتْ ترفِقُ به دائماً، فقد كانت تحبّه. بكلّ المساوئِ فيه، بكلّ طفولته المفرطة، بكلّ أنانيّته. لمْ تسمحْ لحظةً لنفسها بإزعاجهِ، حتّى عندما بكى وقتما صارحهُ الطبيبُ بِضُعفِ قُدرَتِه على الإنجاب، شدّتْ من أزرهِ. و أقنعته بعمليّة يحصلان من خلالها على "ضنا "، ثمّ تكفّلت هي بالمصاريف و الولدِ أيضاً.

و حتّى بعدَ موتِه لم يَهُن عليها. لم تقلْ لأحدٍ لماذا المنزلُ مسجّل باسمها.
لماذا، و خلالَ عشرِ سنواتٍ مِن الزواجِ لم تُنجِب إلّا زهى. حتّى كيفَ مات، حين دهسهُ القطار، وهو نائمٌ مُفرطُ الثمالةِ على سِكّته.
احتفظتْ بتاريخهِ لنفسها، لم تُشرك بِه أحداً. ضنّت على صورتهِ من الاهتزازِ أمامَ الجميعِ، أوّلهم ابنتهما.
لم تنطقْ هي بحرفٍ لأحد، رغم الحربِ الشعواءِ التي تخوضُها مع أهله. رُغمَ محاولاتهم المستمرّة لإهانتها، لنزعِ ابنتها منها، لتحميلها ذنبَ خسارتهم لابنهم، وماله معه. لإلقاءِ تُهمة "قلّة ذريّته " على عاتِقها بدعوى انشغالها بعملها وعَدمِ اهتمامها بتكوينِ أُسرة..

كلّ هذا بسببِ المال. فابنهم رَحلْ، و هم أحقُّ بمالهِ، هكذا يقولُ المشرّعُ الإسلاميّ، ليسَ لهُ سوى ابنةٍ واحدة. كيفَ يُعطي زوجته و يَحرم ابنته و إيّاهم ثمرةَ غُربته؟
رَغمَ كلّ الذي لا يزالُ يحدث لها، بَخُلتْ على راحَتِها بالحقائقِ. و أغلقتْ مزلاج التناسي عن عمرٍ مرّ وانتهى.

...

كانتْ تُريدُ دائماً أن تَصرُخَ في وجوهِهم، أن تُخبِرهم أنّه مالها، تعبها، وأنّ ابنهم لمْ يتعبْ يوماً في شيء، اللّهمَ إلّا إذا اعتبروا ذهابهُ إلى عملهِ مرّةً أو اثنتين أسبوعيّاً تَعَب!

ذكّرَتهُم بوصيّةِ اللهِ ورسولهِ في اليتيم، وأنّ هَذهِ الطفلةُ تَحْمِلُ اسمَ ابنهم واسمَهُم. حنّنتهم أنّها أيمٌ، بحاجةٍ لدعمهم لها حتّى و لو بالكلامِ، لا لعدائهمِ الغيرِ مسبّبٍ. فلا يلبثون إلّا قليلاً، ويعودون.

ساعةً برمي الأوساخِ أمامَ البابِ، وأخرى بِقطعِ سِلكَ الهاتِفِ عَنها، وثالثة بشتمها أمام ابنتها و نعتها بأقبح الصفات. الكلامُ معهم لم يعدْ مُجدياً، فقد ازدادت آثامهم في سِجلّاتي حَتّى ما عادَ هنالكَ من مُتّسع.

و بسرعةِ البرقِ، دونَ وعيٍ لما تفعل، ذهبتْ إلى دولابها حيثُ الأوراق جميعها، لململتها على عجلٍ، فتحتِ البابِ و انطلقتْ صاعدةً إليهم.

عِندَ ظهورِ أوّلَ وجهٍ خلفَ البابِ الموارِبِ، بدأتِ الصراخ:

إليكم إيصالاتُ رواتبي و قسائمُ السحبِ البنكيّة، أقساطُ بناءِ هذا البيتِ و كِساءُه. كُلّها تُثبِتُ انتماءَه لي، ليسَ كعَطيّةٍ من أحد.

وهذهِ أوراقُ أُخرى، تُثبِتُ أنّ ابنكم كانَ عاطلاً عنِ العملِ، و هاكم ما يؤكّدهُ كعاطلٍ عَنِ الإنجابِ أيضاً. كلّه بمالي و تعبي و سهر لياليّ أنا، أنا ليس هو. هل يرضيكمُ نهشَ لحمي؟..؟

هل تعرفون شيئاً؟

جارتي المسيحيّةُ كانتْ أشفقَ مِنكُم عَليّ، رَعَتْ ابنتي حينَ جُعت و جاعتْ وَلم أجد محيصاً سوى العودةِ إلى العملِ حتّى أعينها على الحياة.

أنتم لستم إلّا وحوشٌ تزيّنُ رؤوسكمُ الأغطية و وجوهكمُ الذقونَ و أسماءَكم الألقابَ ظانّينَ بها العِصمةُ من غضبِ اللهِ و أنتم لا تستخفونَ من معاصيكم.
أخجلُ من انتماءِ ابنتي لأمثالكم. أكرَهُها لأنّها مِنكم و تَحمِل اسمكمْ، أكرَهُها.
أنهتْ كلامها، و دونَ انتظارٍ لردّ من أحدٍ أدارتْ ظهرها، ليقعََ بَصرَها على وجهِ ابنتها الشاحبِ، و قد تَبِعتها!

كانت قدْ نسيت بابها مفتوحاً فلحِقتِ الصغيرةُ أمّها ..

زهى لا تصدّقي كلامي أنا أحبّك ..

لم تكد تتمُّ عبارَتها حتّى خَطفَ العمُّ الطّفلةَ بعنفٍ، مهدّدا الأمّ أنه سيشكوها لتهجّمها عليهم، وأنّها غيرُ كفءٍ لتربيةِ الطّفلة فهي إنسانةٌ مريضةٌ تريدُ الانتقامَ بتشويهِ صورةَ ولدهم الميْتُ بِحقدها.

لحِقتْ أملُ به، تَمدّ يدها إلى زهى: لا، خذوا كلَّ شيءٍ إلّا ابنتي. أنا لا أريدُ شيئاً مُطلقاً، فقط زهى..

إنّها ابنتي و لن احتملَ الدُنيا دونَها ..إنّها ابنتي..يا ظَلَمَة.. يا ظَلَمَة..
..
ماما..ماما، أنا أعرفُ أنّني ابنتكِ ولن أصدّق غير هذا الكلام لأنني أحبّك و أنت تحبّينني!
ماما ..! أنا زُهى..

استيقظي لا تخافي.. فالدنيا لم تُظلم بعد!


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى