الجمعة ١٨ تموز (يوليو) ٢٠١٤
بقلم محمد نجدة شهيد

مـروان المنتقـم

فشل مروان في استكمال مراحل دراسته بعد الابتدائية ، فجاء به أبوه لتعينه في المخزن الكبير الذي يعمل فيه وسط المدينة كما يفعل البعض عادة . ورجا مدير أحد أقسام المخزن أن يعمل عنده كسائق . كان مروان طويل القامة حسن البنيان ، ولكن ملامح وجهه المربع القصير كانت تفضح على الفور إمكانياته السطحية وضعف قدراته الذهنية . وقد استجاب المدير للطلب ، ولولا ذلك لبقي مروان من المهمشين الذين يعيشون على حافة المجتمع المظللة بالخوف .

2- ولم تمضي فترة طويلة من الوقت حتى سافر المدير للعمل من جديد في أحد فروع المخزن الخارجية حيث قام باصطحاب مروان الذي بقي معه هناك لفترة عشرسنوات متواصلة . وكان من اللافت للانتباه أن مروان لم يتمكن طيلة هذه الفترة أن يتعلم لغة البلد . آخرون في ظروف مشابهة ليس فقط تعلموها بل حتى اتقنوها . وبعد انتهاء فترة العمل هناك والعودة إلى البلاد ، لاحظ معظم الموظفون وجود استعداد لدى مروان لأن يتجاوز حجمه وامكانياته السطحية أثار الحيرة في نفوسهم ، واستعصى عليهم تفسيراته مما ترك المجال مفتوحاً أمام تكهنات مختلفة كان بعضها يُجافي العقل في الوقت الذي بدأ فيه المدير يترقى في المناصب حتى أصبح سيد نفسه وسيد الآخرين في المخزن .

3- و شكل خوض بعض الموظفين في هذا الموضوع وجعلها سيرتهم المفضلة في جلساتهم ولقائتهم إلى خلق مشاعرمختلطة في النفوس يُمكن تفهمها بسهولة وصلت حد الكراهية لدرجة الحقـد بدون أن يكون هناك ، لأسباب مفهومة ، قدرة للمعنيين على المواجهة ، أو رغبة في معالجة المسببات ، لأسباب غير مفهومة ، وبما يحول على الأقل دون استمرار هؤلاء في الحديث بهذه السيرة . وكان مروان طيلة هذه السنوات حاله مثل حال الطائر المكسور الجناحين يـدب متنقلاً بين الصخور ولكنه لا يستطيع أن يسبح محلقاً في الفضاء .

4- وبدأ الموظفون يُدركون بأنفسهم سبب تعمد بعض مدراء الفروع الخارجية تعيين سائقين لهم من جنسية البلد المضيف ، فلو عيّن الواحد منهم سائق له من أبناء البلد مثل مروان لربما أصبح هـذا بعد فترة هـو مدير الفرع أمام العاملين فيه وأمام الجالية وغيرها . وجرى بعد ذلك انتقال المخزن إلى مقر جديد جنوب المدينة اتخذ فيه مروان لنفسه في الطابق الأخير غرفة كبيرة ، أطلق عليها الموظفون إسم بيت الشيطان ، أخذ يصب منه الأذى على جميع الموظفين بلا استثناء . كان مروان في هذا البيت المظلم رهين الأوهام وخداع الذات ينظر إلى نفسه سيد المخزن بالوكالة ، ويرفع بصره إلى الأعلى أكثر من رؤيته لما حوله ، وهكذا أصبح منفصل عن الواقع الذي يعيشه .

5- احتار الموظفون في فهم الأسباب التي تدفع بمروان إلى التصرف بهذا الشكل المقيت . البعض يعتقد أن مروان ربما يُعاني من أمراض سمعوا ببعضها تنكد عليه حياته ، وتقلل من قيمته . أو إنه تعرض إلى تجربه قاسية اثرت في مسيرة حياته وأدت إلى فشله في تكوين أسرة بمعنى الكلمة وإن أُصبح يُدعى بأبو صفعان وهو على أعتاب الحلقة الخامسة من عمره ، وإلى فشله في استدراك ما فاته من مراحل تعليمه بعد المرحلة الابتدائية لكي يُعدل وضعه في المخزن كما فعل الكثيرون على الرغم من توفر كل الظروف الخارجية وفي مقدمتها الوقت ، وكان لو فعل لربما أصبح من كبار الموظفين . في حين يعتقد البعض الآخر أن مروان مسكون بهاجس الخوف الشديد من انكشاف أمر ما وأن يصبح كبش فداء في نهاية المطاف . وربما يُفسر طريقة تعامله التي تنضح بالحقد والكراهية مع الجميع بلا استثناء هو هذا الشعور بأنه معرّض للخطر طيلة الوقت .

6- وهكذا بقي مروان يغط كمستخدم في الفئة الخامسة طيلة فترة وجوده في المخزن ، مكنسة بيد وسطل بالأخرى . وبات الموظفون يُطلقون عليه إسم الفاضي مروان ، ويصعب عليهم عندما يروه واقفاً في أي مكان إلا أن يتصوره مع مكنسة على يمينه وسطل على يساره . ربما كان مروان يعلم في أعماقه أنه لا يُمكن للحياة أن تمضي بلا طموح ، وإنه يؤمن بمبدأ العمل والسعي للتقدم ، ولكن من المؤكد أن ضعف إمكانياته وقدراته حالت دون ذلك . وهنا عادة ما يختار المرء الوصفة السهلة والمختصرة برمي اللوم في الفشل على الفرد الناجح في الأسرة . فمن هـو الناجح في أسرة مروان ؟ لا أحـد فيما نعـلم . فوالده وشقيقته كانا يعملان في المخزن بنفس الصفة من قبل . ولذلك كان لا بد أن يرمي هذا اللوم على من هم حوله ، ويتحول ذلك مع الوقت إلى كراهية خفية لهم مثل كره الخروف للعيد .
7- وقد تكون الحقيقة أو لا تكون في كل هـذه الأمور مجتمعة ، ولكننا في النهاية نجد أمامنا شخص محبط ، فاشل في الحياة يعيش في عالم من الأوهام تكشف الفجوة بين صورة الذات عن نفسها وصورتها لدى الآخرين ، يُحاول أن يجد من بين الموظفين من يُحمّلهم مسؤولية ما ألم به من فشل وإحباط . وهكذا باتت صورة مروان ، وعلى جبينه ندب من ندوب الزمن يُخفي ما يُضمره من النقمة في سريرته ، والعيون الخوصاء المتقاربة والأجفان المرتعشة ، والأذن الكبيرة اللاصقة بالرأس والمجوفة مثل الصًدفة دليل الغباء والعناد ، والذقن الزاويي الشكل ، والرقبة القصيرة الممتلئة كرقبة الثور، والجسم المترهل والأوداج المنتفخة ، تروي لوحدها حكاية كل المظلومين في المخزن الغارق في الظلم والصمت .

8- وأورث هذا الفشل المذري في الحياة في نفس مروان كراهية مزدوجة . الأولى خفية لمن حوله تظهر من وقت لآخر في طريقة التعامل معهم وكأنه استحوذ عليهم وأصبح ولي أمرهم ، زاد من حدتها كون شخصيته بطبيعتها خشنة ذو نزعة بليدة جامدة تنسجم مع شكله . والثانية كراهية للذات كانت أشد عمقاً وأكثر إيلاماً . وأدت هذه الكراهية المزدوجة إلى خلق عقـدة الانتقام لديه من الجميع أصبحت متأصلة في أعماقه مع مرور الوقت .

9- وكان مروان لا يهتم في البدايات بشكل كبير بالأمور التي تتعلق بشؤون الموظفين إلا في بعض الحالات الخاصة . وهـو لو أستطاع أكثر من ذلك لفعل ، ولكن حال دون ما يرغب وما يريد وجود معاون قدير للمدير العام لشؤون الموظفين ذو شخصية متزنة لا يستطيع أحد أن يجد فيه عيباً يُمكن أن يُقلل به من شأنه . وكان مروان يحسب له بشكل واضح كل حساب بدون مبالغة في القول ، ويعمل على استرضائه والتقرب منه بكل سبيل .

10- وكثيراً ما كان مروان يعمد خلال حديثه أمام الآخرين إلى تصغير فتحة عينية الصغيرتين شبه الزرقاوتين دليل البلادة والكسل ، وزمزمة شفتيه العريضتين اعتقاداً منه أن ذلك يحول دون تمكن الآخرين من استشفاف عفونة نواياه . كما كان يعمد أيضاً في بعض الأحيان ، عند دخوله إلى غرفة معاون المديرالعام ، وخاصة بوجود رؤساء أقسام آخرين ، إلى جلوس القرفصاء أمامهم بـدل البقاء واقفاً أو الجلوس على كرسي مثل الآخرين . وهـذه الوضعية ، التي تناسب الحوامل عند تعسر الوضع ، فيها تكلف ورياء واضحين . ويعكس هذا التواضع الزائف حقيقة ما يشعر به مروان من قيمة نفسه أمام الآخرين . لم يتمكن مروان طيلة حياته من التخلص من عقدة الدونية تجاه الآخرين .

لما لا يسأل أحد لماذا يبدو المخزن بمثل هـذه القسوة ؟

ولكن هـذه الظروف تغيرت كثيراً مع انتهاء خدمة معاون المدير العام لشؤون الموظفين لبلوغه سن التقاعد حيث بات مروان يتحكم من حيث الواقع والممارسة الفعلية بكل شؤون المخزن الداخلية ، ولا يُمكن بالتالي تجاوزه في أي شيء مهما كان صغيراً . وهكذا أصبح مروان المستخدم يُمارس مهام معاون المدير العام لشؤون الموظفين بحكم الواقع ، ويقوم في كل يوم باللجوء إلى مراعي خياله السقيم لاستفراغ عقله السطحي في كيفية أذى الموظفين .

12- وصار يتوجب على مدير قسم شؤون الموظفين ، حاله في ذلك مثل حال بعض رؤساء الأقسام الأخرى ، عرض البريد على مروان في بيت الشيطان المظلم في أوقات محددة اسبوعياً لأخذ التوجيهات الشفوية بشأنه وهو يتضمن كافة شؤون المخزن الداخلية والعاملين فيه الصغيرة والكبيرة من تعيين وتسريح للموظفين ، وتسمية رؤساء الأقسام في المخزن أو عزلهم ، وتخصيص أو عدم تخصيص السيارات العامة لهم ، وتوزيع الموظفين على الأقسام ، وعلى الفروع الخارجية وحتى الموافقة على الإجازات العادية وغيرها . وبذلك اختزل مروان كل شؤون المخزن الداخلية بشخصه السقيم ، وألغى أي دور مهما كان للآخرين بحكم مراتبهم الوظيفية وتسمياتهم الرسمية . وهكذا أصبح مروان أحد الصغار الذين يقومون بأعمال المناصب الكبيرة في المدينة ، ويكونون في ذلك كالذي لبس جلد النمر، ونسي أن يُغطي أذنيه الكبيرتين .

13- وإزاء هذا الخلل الكبير الذي بات يفرض نفسه كواقع خاصة في الآونة الأخيرة في هيكلية وألية عمل المخزن ، الذي تُرك لمستخدم لم تكن سمعته في مأمن من الظنون والتأويل يُديـر شؤونه الداخلية ، أبدى الآخرون حصافة وتبصر بعواقب الأمور فاختاروا أولاً ، بوعي مهني وحرص وطني ، النهوض بكفاءة واقتدار بمهام المخزن الخارجية مكرسين له كل أوقاتهم بدليل حركتهم الديناميكية وتمثيلهم المخزن في كل المناسبات وهـو ما يليق بهم شكلاً ومضموناً . وثانياً التعايش مع هذا الواقع لما فيه المصلحة العامة للمخزن حتى ولو تطلب الأمر ممارسة الدهـاء .

14- وهذا ما رأيناه في حديث معاون للمدير العام ، عندما قام ، في اجتماع عُقد في العام الماضي في المخزن بمناسبة يوم التسوق العالمي ، بإجراء تقييم لأداء المخزن ماضياً وحاضراً ، فقال إن المخزن كان في الثمانينيات يُعتبر مخزن فلان الفلاني ، وبعدها مخزن الفلان الفلاني ومدير مكتبه بدون أن يُسميه ، الآن يشهد المخزن أعظم أيامه ، ويرقى في أدائه التسويقي لحجم المنافسة الشرسة التي يتعرض لها من بلدان طريق البخور بدون أن يُوضح كيف ، أو يقدم أمثلة للدلالة على ما يقول . ومن الواضح أن الرجل كان يُمارس الدهاء في حديثه ، ولا أقول النفاق لأن هذه الخصلة غير معروفه عنه ، ويشهد له الجميع ، حتى قبل أن يلتحق بالمخزن ، بكونه رجل مواقف . وكان المُخاطب الحقيقي هو مروان لا غير ، وإلا لكان قد قال ، استكمالاً لنمط حديثه ، أن المخزن أصبح الآن مخزن الفاضي مروان ، ولصدق في ذلك .. يكلمون الناس على قدر عقولهم .

15- وهكذا وجد مروان نفسه فجأة الآمر الناهي بلا منازع في أحد أكبر مخازن المدينة الرئيسية يُدير بنفسه بلا تخفي أو مواربة من بيت الشيطان المظلم شؤونه الداخلية من الباب إلى المحراب بدون مبالغة في هذا القول . ولكن المشكلة هنا كانت أن مروان غير مؤهل لمثل هـذا العمل أو حتى غيره ، ولا يتطلب الأمر أكثر من كتاب إحالة إلى لجنة فحص الموظفين للكشف على قواه العقلية وقدراته الذهنية للوقوف على هذه الحقيقة . وكنا قد رأينا كيف عاش عقد كامل من الزمن في أحد الفروع الخارجية بدون أن يتعلم لغة البلد ، وكيف أنه لم يتمكن طيلة خدمته في المخزن التي تجاوزت الثلاثين عاماً من الحصول على أي شهادة دراسية تمكنه من تعديل وضعه . ثلاثون عاماً كانت غير كافية ، فيما يبدو، بالنسبة لمروان ليُعيد النظر في البديهيات ، وليتألف مع الوقائع بدون أن يفقد توازنه ، ويبالغ في أذى الآخرين تحت سمع وأنظار من حوله .

16- ربما يبدو هذا القول للوهلة الأولى فيه شيء من المبالغة بل وحتى غير معقول أن تكون الأمور قد وصلت إلى هذه الدرجة في المخزن . ولكنها حقيقة واقعة مثلما كنا نستغرب لدرجة الشك عندما كنا نقرأ أن شخص مخصي من رقيق الحبشة إسمه كافور كان يتحكم في مقدرات بلد كبير كمصر منذ ألف عام تقريباً . وربما ما كنا لنسمع بإسمه لولا قصائد المتنبي والكتب التي أرخئت للمرحلة والتي تشير إلى أن كافور كان صاحب عيوب عظيمة ونقائص خطيرة وجرائم كبيرة .

17- لقد أسرف مروان في كراهيته وحقده الذي لا يُحتمل على الموظفين في المخزن ، ولحق العديد منهم بسبب ذلك أذىً كبير وصل حد خروجهم منه . وباتوا ولأول مرة يرون المستقبل قاتماً أمامهم بعد أن أُصيبوا بهاجس الاقتلاع بدون سبب . وجعل مروان من العمل في قسم خدمة الزبائن ، أو التهديد به ، محطة لإذلال من يريد من الموظفين في المخزن بشكل دوري مهما علت مراتبهم الوظيفية . وها هـو يقبع في بيت الشيطان المظلم كالمخدرين لا يترك أي فرصة أو مناسبة صغيرة كانت أو كبيرة تأتي بها الظروف إلا واستغلها لتحقيق نواياه العفنة ، والتي ظهرت على شكل النيل من الموظفين لدرجة تدمير مستقبلهم وبما يُشفي حقده وكراهيته لحد التمتع بإذلالهم كما يتوهم بخياله السقيم . والشكل الثاني تحقيق ما لا يُغني عنه من الله شيئاً متوهماً بأن ذلك المال الأسود الذي يتدفق بين يديه ، والذي مكنه أن يُقيم عرسه بعد فترة خطوبة امتدت لأكثر من ثلاثة سنوات في أحد أكبر فنادق المدينة ، يُمكن أن يهبه كل شيء ويُعوض له فشله المزري في الحياة .

18- ومن المؤكد أن مروان لو كان يعرف أن يتصرف على غير هذا النحو لربما فعـل . وهـو من المؤكد لم يرث أو يتعلم عـن أحد الحاجة إلى ممارسة ضوابط تحد من المغالاة والتدخل في كل شيء . إن التعالي على اساءات الآخرين والصفح بعد الإساءة والغفران ، على الرغم من شدة الأذية ، هي من أخلاق الناس الأسوياء عقلياً ونفسياً . لقد اضاع مروان فرصة العمر ليُصّحح صورته في المخزن ، ويسير بالناس سيرة حسنة تضفي على هذه الصورة ما يريد من محاسن ، ولكن هذه الفرصة ضاعت بعد أن تغلبت عليه كراهية الذات وكراهية الآخرين . وهـو لا يعلم أن في الإذعان للكراهية والحقد انحطاط بالقيم وتدني بالأخلاق وتدمير للذات ، وأن الانتقام هو أسوأ الدوافع السلبية للبشر، وإذا ما تملكت مشاعر الانتقام من شخص فقلّما يتَعَافى منها . هـذا عن مشاعر الانتقام إذا تملكت شخص ، فماذا لو كان هذا الشخص وضعته الظروف في موقع التحكم في مخزن كبير على سبيل المثال ؟ وماذا لو أن هذا الشخص لا يعلم بأن رغبته تلك ليست سوى معركة خاسرة بكل المقاييس ، قد تنجح جزئياً في إشباع روحه القلقة غير المتسامحة بوهم التشفّي ، ولكنها تتركه وراءها أرضاً يباب ونفساً خاوية مضطربة ومحطمة كما سنرى في حلقة قادمة .

19- لقد قرر مروان أن يُعاقب جميع الموظفين وفق لائحة اتهامية ـــ تنفيذية معدة مسبقاً . فكان سلوكه في ذلك سلوك من عزم على الحقد على جميع الموظفين حتى النهاية ، والانتقام اليائس منهم حتى النهاية أيضاً على الرغم من إحساسه في العمق بأنه الطرف الخاسر الذي سينحدر في نهاية المطاف إلى القاع . وكان في هـذا مثل العبد جلاد الحقد والكراهية الذي لا يعرف الرحمة ولا يُخطئ في العـد يُمزق لحم ظهور الموظفين الذين أدمن لذة إذلالهم كما يتوهم . لقد تجاهل مروان كل مشاكل المخزن التي خلقها وعمقها وأوصله بذلك الى حالة يرثى لها حتى أصبح مشلولاً وفي العناية المركزة ، وتفرغ للانتقام بقسوة من جميع الموظفين مهما كان الثمن حتى ولو كان على حساب مستقبلهم ومستقبل أبنائهم ، وكأن الهدف النهائي الذي يسعى إليه مروان هو تدمير المخزن نفسه قبل أن يحمل مكنسته وسطله ويرحل تلاحقه اللعنات الباردة والساخنة .

20- ويكفي للدلالة على ذلك أعـداد الموظفين الذين تُنهى خدماتهم تباعاً بشكل انتقائي في الوقت الذي لم تنتهي فيه بعد مسؤولياتهم في الحياة تجاه أبنائهم ، وبلغت أعدادهم لغاية الآن بالعشرات ، وكاتب هـذه السطور أحدهم ، أو الذين يُكرهون على تقديم استقالاتهم بطرق شتى كأن يتم تجاوزهم لسنوات في قوائم الدور، أو يُتركون هكذا بلا عمل في المخزن لأشهر وحتى لسنوات وغير ذلك من طرق ووسائل اضطهاد ومحاربة الموظفين الذين فضلوا أن يُعانوا بصمت خشية أن يقع عليهم المزيد من الظلم ، وهم يتساءلون فيما بينهم لما لا يسأل أحد لماذا يبدو المخزن بمثل هـذه القسوة ؟

21- وبات الموظفون مع مرور الأيام يرقبون بإشفاق الحالة المزرية التي وصل إليها مروان ، وكيف أخذت أظافر يديه تنمو وتنمو حتى تتحول إلى مخالب مدببة يغرُسها في أجساد الموظفين بلا اكتراث ، وكيف يتملكه الإحساس الخادع والمزيف بنشوة مبتذلة بالانتصار، وبرغبة وضيعة في السيطرة ، وبجعل الجميع بلا استثناء يدفعون ثمن إحساسه الخاص بالظلم ، إن كان صدقاً أو افتراء ، في الفترة الماضية عندما رُفض طلب عودته للعمل بعد انتهاء وجوده في الخارج ، وحتى منعه من دخول المخزن نهائياً . وكان يزيد من نشوته الخادعة أن يكون ضحاياه من الأبرياء ، أو من بلدياته بالذات لإدراكه بأنهم يعرفون تماماً ماضيه . ولعل أرذل ما فيه هو أنه يُحاسب الموظفين على نواياهم . وينظر إلى الأصحاء منهم مجرمين وكبار النفوس متمردين . لقد اسرف مروان حقيقة في اتخاذ كل الإجراءات الانتقامية ضد كل من كان على خلاف معه في يوم من الأيام ، بل وكل من تحدثه نفسه بأن يختلف معه الآن كائناً من كان .

22- وهكذا اكتملت مع الأيام حلقة الكراهية والانتقام الأعمى لدى مروان لدرجة التشفي من كافة الموظفين بلا استثناء وليشمل حتى موظفين ، أحدهم كان بمرتبة معاون للمدير العام ، جرى ضمهم للمخزن منذ سنتين تقريباً بعد إغلاق المخزن الذي كانوا يعملون فيه غرب المدينة بشكل نهائي . هؤلاء ما كانوا يعرفون شيء عن ماضي مروان وما كانوا يخوضون في سيرته ، وربما لو رأوه صدفة لما عرفوه ، ولتصوروه من شكله من الحمالين . ولكن لم يكن هناك ، فيما يبدو ، أفضل من مروان ليُطلق كقوة جامحة تُشبع الموظفين رفساً وتلطيشاً ، وهـو بدوره لم يوفر ولا مناسبة مهما كانت ليكون عند حسن الظن به . ولو أن رذائل مروان التي كبلت روحه اقتصرت على البعض ، الذين يعتقد أنهم ظلموه في وقت من الأوقات ، لكان هذا ربما هو المعقول الذي تطمئن إليه النفس . لكن عدوانيته التي تميل إلى الحقد وسعت الجميع بلا استثناء .

23- كان مروان ، وقد تقمصه الشر والأذى ، في حيرة متمادية في أعماق نفسه يستحق الرثاء والشفقة لا الحسد . فهو لا يريد بكل تأكيد أن يتورط في معرفة ذاته على حقيقتها ، والتي تفهم حجمها وتعترف بضآلتها . ولكنها الظروف التي وضعته في إطار أكبر منه بكثير يفوق حجمه وامكانياته السطحية التي لا تساعده على أن يكون أكثر مما كان . ومن يتحدث إليه يشعر بريبة في عقله خاصة عندما يتحدث كتاجر أخلاق وأمانات بالجملة والمفرق يُلاحق المفسدين في المخزن والسارقين ويُهددهم ويُنذرهم . ومن المؤكد أن الله سبحانه وضع له شيئاً آخر غير العقل في رأسه ، وإلا لكنا قلنا أن مروان منيح ما جن ، وأنه لو جن بيكون معه حق . الحلقة القادمة : مـروان المنتقـم يبكي ضعفه وهزيمته (2) .
ـ

مروان شخصية قلقة عابرة للحياة موجودة في كل مخازن المدينة ولكن بأسماء مختلفة . وما يُميز مروان هنا عن غيره هو أنه كان يختزن في أعماقه شحنات هائلة من الكراهية والمشاعر الحاقدة ، وأصبح لديه الاستعداد لأن يتجاوز حجمه وامكانياته السطحية وليتحول إلى كائن مجرد من الإنسانية .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى