الاثنين ١٠ آذار (مارس) ٢٠٠٨
مشاهد مختارة من أفلام
بقلم رانية عقلة حداد

مقدمة مدينة الله

عن إحدى ضواحي ريودي جينيرو الفقيرة ستينات وسبعينات القرن الماضي، يتحدث الفيلم البرازيلي "مدينة الله" انتاج عام 2002، للمخرج (فرناندو ميريليس)، وحيث يسود الفقر ... يسود معه العنف، الجريمة، وتعاطي المخدرات، ولكن تزداد قسوة هذا الواقع حين يكون الاطفال متورطين في عالم الجريمة وفي تشكيل العصابات، بطل الفيلم روكيت (الكساندر رودريجو) وهو احد اطفال هذا الحي، لكنه من القلائل غير المتورطين في تلك العصابات، فعشقه للتصوير جعل منه شاهدا بكاميرته الفوتوغرافية على ذلك الجحيم، الذي يروي احداثه بعد ان اصبح شابا.

على سطح أحد منازل أحياء ريودي جينيرو الفقيرة تبدأ مقدمة الفيلم، ومن اجواء الاحتفال واعداد الطعام على انغام تعزفها فرقة الحي، نتابع هرب احدى الدجاجات قبل ان يأتيها الدور لتلحق برفيقاتها؛ حيث نتف الريش، ثم الذبح بالسكين، فالماء المغلي، ونزع الاحشاء ... ثم ترتيبها على المائدة بعد الشواء، فتفك الدجاجة قيدها وتهبط من السطح على الارض، وما ان تمضي بعيدا حتى يبدأ فتيان احدى عصابات الحي بمطاردتها، لكنها تنجو من جديد، وتهرب الى الازقة فتواجه الموت مرة ثالثة، ايضا تنجو هذه المرة من عجلات سيارة، لتجد روكيت امامها على الطريق فيصبحان محاصرين معا؛ فمن جهة فتيان العصابة باسلحتهم، ومن الجهة الاخرى رجال الشرطة باسلحتهم ايضا، في تلك اللحظة يشعر روكيت - كما الدجاجة – انه عالق ولا مخرج، فتعود به الذاكرة الى ايام طفولته عندما كان محاصرا من اطفال حيه المتورطين في العصابات، ثلاث دقائق وعشرون ثانية تستغرق هذه المقدمة، باجوائها الاحتفالية وايقاعاتها الراقصة التي لا توحي ابدا بالفقر، او بؤس العيش، ولا بقسوة الحياة التي يعيشها روكيت انما بالبهجة والمرح ... لكن العين المتفحصة ستدرك ان هذا ظاهريا وحسب.

في اللحظة التي يُحاصر فيها روكيت والدجاجة، يصبحان في كفة واحدة؛ فحال روكيت حال تلك الدجاجة الشاهدة على طقس ذبح رفاقها الاحتفالي، الذي يشبه تمام ما يحدث في احياء ريو الفقيرة، والتي اصبح روكيت شاهدا عليها بكاميرته منذ طفولته محاولا كشف الحقائق، وكما تسعى الدجاجة للهرب من هذا الجنون قبل ان تصبح جزءا منه وضحيته في آن كذلك يسعى روكيت، بهذا تعمق المقدمة البهيجة – المناقضة لطبيعة فعل القتل– الاحساس بالواقع المأساوي وتفضحه.

وهناك اشارات يمكن التقاط مستوى اخر من الدلالة لها، فالمقدمة تبدأ بمجموعة لقطات قريبة جدا وخاطفة يلتمع ويتلاشى فيها نصل السكين وهو يتحرك على حجر الجلخ، كفيلة باشعارنا انها تُشحذ لمهمة الذبح، فحجم اللقطة يجعلنا على مسافة قريبة من صوتها الحاد ومن الاداة وفعلها القاسي والخشن، وترتيبها كلقطة اولى في بناء مشهد المقدمة ينبئنا باهميتها الخاصة، كذلك ايقاع حركة السكين وصوتها يحركان الحدث والموسيقى فيمنحان لايقاعاتها اللاتينية الحياة، وحين تبدأ لقطات حركة السكين بالتبادل مع لقطات العزف على الات موسيقية، تصبح حركة السكين وما يليها من ذبح وتقطيع جزءا من النسيج الموسيقي الجميل –وهنا تكمن خطورة الدلالة- الذي تشهده الدجاجة -او روكيت- فتقرر الهروب، لكن الهروب لا يعني النجاة ...فهي وروكيت في النهاية عالقان، وتعبر حركة الكاميرا بشكل جميل عن هذه الحالة، حيث تتحرك بشكل نصف دائري مرتين باتجاهين متعاكسين تستعرض من يحاصروه، ثم تستمر بالالتفاف حوله اكثر من مرة ممتزجة بصورته ايام الطفولة، وكأن روكيت يدور في حلقة مفرغة فالحاضر استمرارية للماضي ولا مفر للخروج من هذا الكابوس.

لنتذكر معا هنا ان السكين وفعل القطع هي مفردة بصرية صوتية مشتركة بين مقدمتي "مدينة الله" و "فتاة بقرط لؤلؤي" -الفيلم الذي تحدثت عنه في عدد سابق- للتعبير عن قسوة الحياة والفقر والبؤس الذي يعيشه ابطالهما مع اختلاف المعطيات، لكن كل ببناء مشهدي ومعنى مختلفين تماما.

وبالاضافة الى بناء المشهد، الموسيقى، ومحتوى الصورة في مقدمة الفيلم، هناك عوامل اخرى تشارك في صياغة المعنى، فالاضاءة مبهجة توحي بالتفاؤل بما يتناسب واجواء الاحتفال، لكنها تتناقض مع لون الفيلم المائل الى الازرق والموحي بالكآبة، لندرك انها بهجة زائفة وسخرية من هذا الواقع، كما ان مختلف اللقطات منذ البداية حتى هروب الدجاجة جميعها بحجم قريب جدا تفاصيل مقتطعة من محيطها لها دلالة العزلة.

أما العنصر الاخير والمهم (الايقاع) فهو حيوي ولاهث ويأتي من عاملين؛ زمن اللقطات القصيرجدا، والكاميرا غير المستقرة بحركتها في اغلب اللقطات، حيث المقدمة التي تستغرق ثلاث دقائق وعشرون ثانية تحتوي على (135) لقطة وهذا عدد كبير جدا، ولندرك ذلك نجري مقارنة سريعة بين الدقيقة الاولى من مقدمة "فتاة بقرط لؤلؤي" التي يتسم ايقاعها بالهدوء، حيث تحتوي على (12) لقطة، مقابل (65) لقطة في نظيرتها " مدينة الله"، حيث يتلائم هذا الايقاع مع اجواء العصابات والمطاردات.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى