الأحد ٢ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم عبد الرحمان الصباغ

مكة المكرمة مركز التخصيب اللغوي

مكة ذلك الاسم الجميل الذي يردده الملايين، ذلك الوادي المقدس، ومن ذكر مكة ذكر الكعبة الشريفة وتذكر سيدنا إبراهيم عليه السلام ومحمد صلوات الله عليه وسلامه، مكة أم القرى، ومهبط الوحي، متلازمات لا تنفصل. ولكن لماذا...؟ لماذا هذا التلازم وهذا المكان بالذات وذلك الزمان بعينه...؟ نحن كبشر لن نستطيع الإجابة عن سؤالا بهذا الحجم وخصوصا والأمر ههنا يتعلق بالإرادة الإلهية. ولكننا سنحاول أن نسلط الضوء على جزئيتين متعلقتين بهذه المسألة الأولى تتصل باللغة وهي ما يهمنا بالدرجة الأولى هنا والثانية بالجانب الروحي.

ففيما يتعلق بمكة كمركز روحي لمئات الملايين من البشر اليوم كما البارحة وغدا فهذا شيئ معلوم بعد أن تم اختيارها من سيدنا إبراهيم وأسكن فيها أهله في ذلك الوادي الغير ذي زرع وطلب من ربه أن تهوي أليها أفئدة الناس فحقق الله له أمنيته فأصبحت محجا للناس يأتوها من كل فج عميق. وهناك من يقول بأن الموقع قديم جدا يعود لفترة تاريخية سحيقة بالقدم. ومهما يكن من أمر فأن الموقع يتميز بأهمية كبيرة فالبلدة ليست بعيدة كثيرا عن ساحل البحر وموانئه كما أنها تتوسط الطريق التجاري البري الرابط بين شمال الجزيرة وجنوبها في جزئها الغربي ذو الكثافة السكانية الأعلى نسبيا من بقية المناطق أي بين العراق وبلاد الشام ومصر للغرب منها شمالا، واليمن وحضرموت وبلاد الحبشة التي تليهما غربا نحو الجنوب. أن الموقع المتميز لمكة جعلها موضعا للصراع من قبل العديد من القبائل المهمة التي تنازعتها على مر العصور ذلك أن من يسيطر على هذا الموقع يسيطر على تلك الطريق التجارية التي هي عصب الحياة لسكان غرب الجزيرة وما حولها فهي تعتبر مركز تجميع وتوزيع البضائع والمواد التجارية لسائر القرى والنجوع التي ترتبط بها عضويا لذلك كانت هي أم القرى بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

ومن فرض هيمنته على أم القرى فرض هيمنته الاقتصادية والسياسية والمعنوية على سائر القرى الأخرى. ولما كانت مكة ما قبل الإسلام هي أيضا مركزا دينيا كبير الأهمية بالنسبة لسكان الجزيرة في منطقة الحجاز بشكل خاص أصبح مناطا بالقبيلة أو العائلة التي تهيمن عليها أن ترعى هذا المركز وتهتم بأمر الحجيج وتضمن لهم الأمن والسلام وكذلك المأكل والمشرب أثناء تواجدهم في حضن الوادي المقدس لذلك بات لابد من تواجد ثقة متبادلة مابين أهل مكة وزوارها أكانوا حجاجا أم تجارا أو الاثنين معا فكانت مكة بالرغم من قوتها وثرائها مدينة سلام وأمان في محيط من قبائل متناحرة فهي اذن مدينة محايدة صديقة للجميع لا تستطيع التفريط بهم ولا يستطيعون هم الاستغناء عنها. وكانت العرب وبناء على ما تقدم تحتفظ بآلهتها في الكعبة تحت رعاية سدنتها وبعهدتهم خوفا عليها من الغازين وعبث العابثين وتقربا من الله بجعلها في بيته أو حوله وبهذا كانت القبائل قد أودعت أعز ما تملك في هذه المدينة ولأهلها وائتمنتهم عليه لما يتمتع به أشراف مكة وسدنتها من مكانة عندهم. في مكة أيضا يسكن أصحاب ديانات كتابية من يهود ونصارى وعلى قلتهم.

وهي تقع في موقع وسط مابين نجران ويثرب وما حولها حيث يسكن الأولى مجاميع نصرانية والأخرى يهودية. أي ان أهل مكة لم يكونوا بجهل وعدم دراية بالتيارات الدينية في مدينتهم وما جاورها سواء كانت وثنية أم كتابية بالرغم من غلبة الطابع الوثني عليهم، ولابد والحالة هذه وفي بلدة كمكة متحضرة ومنفتحة نسبيا مقارنة بما حولها أن تحدث حالة من التصارع الفكري بين هذه التيارات الثقافية الروحية أو المجموعات الدينية. أن تعاظم دور مكة التجاري والروحي،والذي جلب عليها نقمة أبرهة وجيشه في عام الفيل قبيل مولد الرسول، جعل منها مركز ونقطة التقاء العديد من القبائل المتباعدة في مواقع سكناها جغرافيا واللذين لن يلتقوا لولا وجود هذا المركز الحيوي. وهم بلقاءاتهم العديدة يحملون معهم عدا تجارتهم وما جاءوا من أجله، خصوصياتهم اللغوية التي ستكتشف ما عند الآخر من خصوصيات وهذا كله سيدور في مكة وعند أهلها أضف لذلك أن بعض هؤلاء آثروا أن يسكنوا ليس بالبعيد عن مكة. هل يمكن القول بأن أهل مكة لم يتأثروا بلهجات القبائل وأن لهجة قريش هي لهجة خاصة بها فقط، يبدوا لنا ان الأمر سيكون مستحيلا على مدى عقود فكيف وهو على مدى قرون. فالملاحظ أن أكثر المدن الدينية التي يحج إليها الناس أو حتى السياحية يجيد أهلها التحدث بعدة لغات.

نعم لقد أصبحت لغة أهل مكة تدريجيا لغة تجمع الكثير من المفردات للعديد من القبائل المتباعدة، لقد اغتنت وخصبت وصارت تستطيع مخاطبة كل العرب، وكل قبيلة باتت تجد لهجتها في لغة قريش الثرية بمفرداتها وتعابيرها. ولغة القرآن فيها العديد من المفردات والمرادفات التي تبين مدى الإخصاب والإثراء اللغوي الذي تضمنته لغة قريش حيث تجد فيها مفردات تعود لقبائل وشعوب عديدة أشار إليها العلماء الأجلاء نذكر منها هذيل وكنانة وجرهم وسليم وثقيف وغسان وحمير ولخم وتميم ومدين وقيس غيلان وبني حنيفة ومزينة وهوازن ومذجح والنبط وسبأ وخزاعة وعمان وحضرموت والسريان وأزد شنوءة وطيئ ولغة الحبشة وكندة وغيلان والقبط وأنمار وجذام والأشعريين وعذرة وخثعم وتغلب والأوس والخزرج..... هكذا وببطء نشأت لغة نوعية جمعت فهذبت واختارت، لغة جامعة شاملة هي لغة قريش تلك اللغة التي وحدت لهجات الجزيرة المهمة في لحظة كانت فيها الأنظار تتجه لضرورة تصحيح مسيرة التيارات الروحية والدينية نحو الدين الحق هذه اللحظة كانت قد حانت وقت أن حانت ساعة البشرى ببزغ نور الإسلام بنزول أول سور القرآن العظيم، ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه والذي جسد بعد اكتمال نزوله الانجاز الرباني الكبير بتحقيق وحدة اللغة العربية ووحدة الدين على يد سيدنا خاتم المرسلين.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى