الاثنين ٢٧ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٠
بقلم زياد يوسف صيدم

مناجم الحصى

اعتاد في كل ليلة أن يتسامر قليلا مع والدته، على مائدة عشاء متواضعة، قبل أن ينسل إلى فراشه طابعا قبلته اليومية على يد أمه التي ترملت بعد استشهاد أبيه، الذي نزفت دماؤه طوال تلك الليلة الرهيبة، بينما كان عائدا في المساء من عمله كمزارع في إحدى البيارات الحدودية، لم تصله عربة الإسعاف إلا في صباح اليوم التالي، حين أضحى جثة هامدة، وقد مزقت جسده قذيفة دبابة..ومذ ذلك الحين وأم احمد تقاسى وتعانى بصمت وكبرياء في تربية ابنتيها وولدها احمد..تعتاش على مرتب بسيط صرف لزوجها باعتباره شهيدا.. لكنها اعتمدت على فطنتها في التطريز، وحياكة أثواب نساء القرية، فأتقنت عملها، وبرعت فيه بمهارة فائقة، ذاع صيتها وتوافدت إليها النسوة من كل صوب...

يتقلب كثيرا في فراشه ..يمعن التفكير والتأمل، يعتريه سرحان الذهن وشرود العقل،هذا حال أحمد في الآونة الأخيرة.. يجافيه النعاس، فيمر أمام عينيه واقع مخضب بالأحلام الضائعة، والأمنيات التي أصبحت شبه مستحيلة، بانسداد الأفق أمام عينيه، فيبقى ساهدا حتى يرهقه السهر، فيذوى في ساعات متقدمة من الليل. لقد مضى على تخرجه ثلاثة أعوام.. لم ينل فرصته في الوظيفة الحكومية أو أي من القطاعات الأخرى، فتردى الأحوال الاقتصادية جراء الحصار، وتضييق شمل كل نواحي الحياة شل قدرته على السفر طلبا للرزق، كما كان يحدث قديما لأجيال سبقته .. فحالته تمثل نموذجا لآلاف الحالات المشابهة الأخرى..

بدا يشكو من صداع ليلى يكاد أن يكون مزمنا، فتفكيره ينصب في أمر معين؟ يستحوذ على فكره، وينبض له قلبه بقوة حتى تكاد تسمع دقاته، وهكذا بدت الأيام الأخيرة ثقيلة عليه، تنعكس على مجمل تصرفاته في النهار! مما لفت انتباه أمه، التي نادته ذات ليلة بعد العشاء مباشرة:

 ما بك يا ولدى ؟ أراك حزينا مهموما، شارد الذهن، ولست على طبعك!

 الوضع يا غالية.. وضيق الحال، وقلة العمل وانسداد الأفق..ثم يتأفف و....

 وماذا ؟ قل يا ولدى ..هذا ما أريدك أن تحدثني به.. لكن انتظر، لنشرب الشاي أولا، وكلى أذان صاغية، فانا أمك التي تحس بك أكثر من اى إنسان آخر.. كانت مصرة على أن يصارحها بكل ما يجول بخاطره وعقله..فقد يرتاح و يريح قلبها المعذب لأجله.

يرتشف الشاي بطعم النعناع الأخضر.. يثنى عليها، تبتسم.. تحس بطفلها وان أصبح شابا مكتمل الرجولة، فهو ما يزال طفلا في نظرها.. يتنهد، يشيح بنظراته عنها، ويفجر قنبلة مؤجلة: أريد أن أتزوج يا أمي.. قالها بمرارة وخجل، وبنبرة حزينة مفعمة بالألم يعتصر قلبه من ضيق الحال، وعدم امتلاكه لوظيفة أو عمل يؤهله للتقدم إلى أهل عروسه...

لم تنبهر بما سمعت، فقد كانت تشعر به، تحس بقلقه وبسرحانه وضيق صدره.. ولطالما سمعت جاراتها في الآونة الأخيرة يسألنها: متى تفرحي بأحمد؟ فكانت تجيبهن قريبا بإذن الله ..وها هي اللحظة المؤجلة قد حان أوانها، فكانت المصارحة ..وانهمرت دموعها جارية، وخرجت آهات حارقة من صدرها الحنون، فارتبك تفسيره ..أكانت دموع فرح أم دموع عجز وضعف؟ وخيم الصمت على المكان للحظات.. قطعه بجملة اندفعت منه دون استئذان: اعلم بأننا فقراء الحال، واعلم بان لا عمل بحوزتي، واعلم بالأوضاع الصعبة واستحالة العثور على وظيفة بشهادتي.. لكنى فكرت مليا، واهتديت إلى فكرة للحصول على عمل شريف.. ويقولون بأنه يربح كثيرا من المال ! وقد عزمت أمري، واتخذت قراري..

 ما هو؟ قل بربك، فانا الآن قلقة عليك .. إياك أن تقول....

 لا ..لا..أرجوك لا تذهبي بعيدا في التفكير، وتسيئي الظن بأحمد الذي تعرفينه.. إنما قصدت أنى وجدت عملا في الوادي! إنهم ينقبون عن الحصى، ويباع بأثمان مرتفعة تفوق أثمان الحديد والاسمنت في زمن الحصار ..هزت برأسها، ضمته إلى صدرها وقد استبشرت خيرا، ودعت له بان يوفقه الله مع رفاقه...

استيقظ مع الصباح على نداء رفيقه.. خرجا تلفحهما مسحات حزن وانطفاءه أفق لمستقبل باهت.. يوغلان في أحلامهما المبعثرة على ضفاف الوادي، المشرعة على أعين الأخطار المستيقظة في جنباته، الشاردة نحو أسجية الفقر والحصار.. الكامنة في غفلة الزمن المتحضر، بجفاء وغلظة عصور الظلام والرهبة..يدفعهما أمل مستجد، مستذكران شهادتيهما الجامعية، التي أضحتا براويز تزينان جدران قد تقشرت، ونخرها الفقر والوجع.

كان مجرى الوادي ينساب كثعبان بين الزرع والأشجار، فيبدو من بعيد وجها بلا ملامح، يمتزج فيه الحصى بالرمال مع أمنيات وأحلام في مخيلته قد تكسرت، كأغصان في مهب الرياح العاصفة.. فتضيع ملامح الوادي الجميل كما كان عليه ذات زمن بعيد أيام الطفولة..عندما كان يصطحبه والده الفلاح لمكان عمله عبر الحقول والأشجار المحيطة به..الآن يرى الماء يجرى في صمت مخيف، لكن أقدامه الغضة ما أن تطأه، حتى يكشر عن أنياب حجارة مسننة ملساء، تغرس الألم في الأقدام، و الرعشة في السيقان، كنصل من زمن الفتوحات والأمجاد الغابرة.. التي لم يتبق منها سوى أضغاث أمنيات.. وذكريات في كتب التاريخ...

وفجأة ارتسمت على وجهه ملامح سعادة، رفع حاجبيه نحو رفيقه مبتسما :قد نجد كنوزا من الذهب والألماس! فنعود كملوك نغير مجرى التاريخ .. يقهقهان حتى تداعت ضحكاتهما تجلجل أرجاء الوادي..فاشرأبت نحوهما رؤوس كانت مختفية داخل حفر التنقيب.. رؤوس بشرية مغبره، وجوه شاحبة منهكة ..فبدأ احمد بالتمعن في وجوههم واحدا بعد الآخر..ثم التفت إلى صديقه قائلا: الآن يا رفيقي نستطيع أن نتقدم لخطبة أجمل الجميلات في قريتنا.. فلا احد سيجرؤ على اتهامنا بالعاطلين، والأيادي العاجزة عن توفير لقمة العيش ...

على مجرى الوادي، يختارا مكانا مناسبا ويبدآن في الحفر بهمة عالية، وإصرار على تحدى الطبيعة والفقر، بحثا عن حجارة وحصى الوادي..تلك الكنوز الضائعة في زمن الحاجة والعوز.. يستخرجان الحصى التي تعرف بالزلط ..يجمعوه على مقربة من الحفرة التي أصبحت منجمهم الخاص.. ثم يقومان بتحميله لاحقا لمتعهد يأخذه إلى الكسارة، لتشكله متجانسا في الحجم لاستخدامه في عمليات البناء..أعمال مرهقة تشبه المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة، والتي طالما شاهداها في الأفلام.. لكن أحمد كان صبورا على قضاء الله وقدره..متحملا الأذى والتعب و الإرهاق..متحديا الخوف من انزلاق التربة والحجارة وانهيار الحفرة عليه ..فحادثة زميلهم ما تزال حديث العمال.. حيث أطبقت الحفرة وانهالت الرمال والحصى على ساق ذاك الشاب فبترتها.. وأقعدته في البيت معاقا ..لينضم إلى طوابير العاطلين...

مضت الشهور..كان يعود في كل مساء متعبا، يتناول لقيماته سريعا، ثم ينام منكبا على وجهه، لكنه كان متماسكا بعزيمة وتحد، لم يشكو أو ينحب حظه .. فقد كان يجنى أموالا لا باس بها، تعوضه عن قسوة ومخاطر عمله .. يدخرها مع أمه، حتى جاءته ذات مساء تخبره بان المهر وتكاليف الفرح قد اكتملت.. ويستطيع فرش غرفته بأثاث يليق لاستقبال عروسه .. فانشرحت أساريره، وبات ليلته تلك والبسمة تعلو شفتيه...

خرجت أم احمد متجهة إلى بيت أم محمود، وهى إحدى زبائنها بعد سماعها عن جمال وذكاء ابنتها سعاد، طالبة يدها لتكون عروسا لابنها الوحيد من الذكور..لحظات مرت، وإذ بصينية القهوة تأتى على خجل وحياء، محمولة بين يدي سعاد ابنة العشرين ربيعا ..ما شاء الله يا سعاد ..تبارك الخالق بجمالك وحسن تربيتك..قالتها وهى تتجه بنظرها صوب أم محمود..مبدية سعادتها ورضاها...

عادت وقلبها يكاد يطير من فرحته..وقد غمرتها السعادة.. تنتظر عودة ابنها على أحر من الجمر، لتعلمه بالخبر الذي يتوق إليه قلبه.. لكنه يتأخر عن ميعاد عودته؟ تحس بانقباض في قلبها ! هاجس خطر بفكرها بلمح البصر، بان شيء ما قد وقع لابنها؟ فاستعاذت بالله من الشيطان الرجيم ..حاولت تهدئة نفسها وإشغالها بتحضير عشاء متميز يليق بالخبر السعيد دون جدوى.. قلقها يزداد.. خوفها وهواجسها تتصاعد ..حتى خيل لها بان قلبها يخرج منتفضا من بين ضلوعها..الوقت يمر ثقيلا، وإذ بعربة إسعاف تقف أمام المنزل.. يندفع أصدقاء احمد وزملائه في العمل مقتحمين بوابة المنزل ..يدخلون متجهين صوب غرفته .. كان محمولا بين سواعدهم ..ينزلونه برفق..تشهق أم احمد صارخة: ما به ولدى؟ ماذا حدث؟ تنفجر في النحيب.. تضرب على صدرها بكفيها..يبهت وجهها، تغور الدماء منه ليشبه حبة ليمون صفراء...يكاد أن يغمى عليها، لولا سماعها كلمات وقسم رفيقه وهو يكررها:

اطمئني يا خالتي.. احمد بخير ..والله بخير ..لكن الحفرة أطبقت عليه وانتشلناه سالما.. بفضل الله ورضاك عليه.. مجرد كدمات ورضوض.. سيشفى منها في بحر أسبوع..هكذا أعلمنا الطبيب...

أسرعت تضمه إلى صدرها ..تقبله وتمسح على رأسه ..تداعب خصلات شعره ..تقرأ عليه آيات من القران الكريم، وبعضا من المعوذات.. كان شاحبا، متألما، لكنه بصعوبة نجح في الجلوس على السرير..وما أن استقر مستندا بجسده على وسادة وضعتها أمه خلف ظهره.. حتى همس لها بصوت خافت: تستطيعي أن تخبري أم العروسة، بان ولدك الآن صاحب منجم للحصى .. ثم أغمض عينيه على ابتسامة خفيفة، وذهب في نوم عميق.

 انتهت -

إلى اللقاء


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى