السبت ١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٥
بقلم كمال الرياحي

من أثر رواية أمريكا اللاّتينية

في "حارسة الظلال" لواسيني الأعرج

راهنت رواية أمريكا اللاّتينية على الواقع الذي أنتجها بما فيه من خصوصية أغرت كتّاب هذه الرواية باتخاذه قبلة في تشكيل عوالمهم السردية،فالتفتوا إلى تفاصيل الحياة اليومية وإلى الموروث الشعبي ومخزون الذاكرة،ليعثروا في ذلك الواقع على خامات بكر تعد بعوالم حكائية مغرية لما تحمله من غرابة ودهشة تمخّضت عن واقع حضاري مخصوص وواقع اجتماعي وسياسي مأزوم.فكانت رواياتهم روايات ثائرة ومحمّلة وعيا شديدا بقضايا راهن أمريكا اللاّتينية ناشدة بطابعها الالتزامي والنضالي الكشف عن بشاعة النظم السياسية الديكتاتورية ومآسي المجتمعات المدقعة والمقموعة. وقد مثّل هذه الرواية خاصة خوان رولفو (المكسيك)وميقال آنخل أستورياس(قواتيمالا) و خوليو كورتاثار(الارجنتين) وأخيرا غبريال غارسيا ماركيز(كولومبيا).

ولئن اتّفق النقّاد على ادراج روايات ماركيز ضمن تيار الواقعية السحرية فإن نصوص الآخرين وخاصة روايات أستورياس ظلّت عند عدد من الدّارسين أقرب إلى التيّار السّوريالي منها إلى تيار الواقعية السحرية.ولكن الذي يجمع بين روائيي أمريكا اللاّتينية على اختلاف انتماءاتهم العرقية و توجّهاتهم الفنّية هو ذلك الايمان بالمحلّية التي توحّد رواياتهم وتميّزها عن غيرها وهو ما حقّق لهذه الأعمال خصوصيتها وأهّلها لانتزاع مكانة مضيئة في خارطة الأدب العالمي.فكان أدب أمريكا اللاّتينية،و الرواية بوجه خاص،وجهة كثير من الرّوائيين العرب الذين تأثّروا بعوالمها وبنائها الفنّي فتطلّ من بين رواياتهم نصوص أستورياس وماركيز…

(***)

يبدو أنّ الروائي الجزائري واسيني الأعرج بحكم ازدواجية لسانه_ إتقانه الفرنسية والعربية _كان أوفر حظّا من غيره في الاطّلاع على هذه المدوّنة. كما كان لإقامته بالمشرق (سورية) حيث ترجمت هذه الرّوايات دورا في اطّلاعه على تلك الأعمال التي انعكست عوالمها في نصوصه الإبداعية. فقد وجدت تلك العوالم السحرية صداها في نفس واسيني الأعرج وفي ذهنية الطفل التي يحملها بما ترشح به من عوالم الأسطورة والخرافة [1] وظهر ذلك التأثّر في كثير من أعماله الروائية.

وقد رصدنا هذا التأثّر منذ روايته "نوّار اللّوز "التي لوّنت عوالمها بعوالم مشابهة لعوالم رواية أمريكا اللاّتينية حتّى أن الأعرج لا يتردّد في تحويل عنوان رواية ماركيز "احتفالات موت معلن"إلى عنوان الفصل الثالث لروايته "حارسة الظّلال "بشيء يسير من التحوير:"احتفالات موت غير معلن " [2]

أمّا في روايته "أحلام مريم الوديعة" فتستبدّ بالنص بين الحين والحين مشاهد سحرية تذكّرنا بأعمال ماركيز فوالد مريم ينتحر على طريقة الساموراي ف"سكر حتّى العمى ثمّ انزلق داخل قنينة النّبيذ،تكوّم كالجنين ثمّ سدّ على نقسه [3] بينما حشر الروائي في دماغ الراوي _و هو شاعر _ شرطيا سمّاه سفيان الجزويتي.ظلّ يحول دونه ونظم قصيدته ولم يخرج من دماغه إلاّ في نهاية الرواية في جوّ عجائبي [4]. وقد لاحظنا تأثّرا واضحا بالروائي القواتيمالي ميغال أنخل أستورياس (1899_1974) صاحب جائزة نوبل للآداب سنة 1967.

ويؤكّد واسيني الأعرج هذا التأثّر حين يقول "في منتصف السبعينات اقتربت أكثر من الرواية اللاّتينية خصوصا على يد روّاد مثل أستورياس و أليغو كاربونتي وصولا إلى غابريال ماركيز […] وهذا التأثّر وجد صداه في كتاباتي الرّوائية " [5] ويرجع ذلك التأثّر إلى ما اكتشفه من تشابه بين الذهنية العربية والذهنية التي تقدّمها تلك الروايات لشعوب أمريكا اللاّتينية وهو ما جعلها قريبة من قلبه مقارنة بنظيرتها الأوروبية. [6] وقد ورد اسم أستورياس في رواية "أحلام مريم الوديعة" إذ يقول الراوي "من يكون مايكوفسكي ؟[…] وسعدي يوسف وعليفيك و أستورياس وأدونيس …" [7]

كما استعار واسيني الأعرج عنوان رواية أستورياس "عيون الموتى les yeux enterrés " [8] لتكون عنوانا للفصل الثاني من روايته.

ولم تخل " نوّار اللّوز"،قبلها،من بصمات أستورياس فقد كان الفصل الثّالث " ناس البراريك" يتنفّس من أجواء رواية " السيّد الرئيس"Monsieur le Président [9].فناس البراريك أناس متراصّين في "بيوت التنك" يعيشون في قذارة وجوع وفقر "تقودهم أحيانا عواطفهم فلا يفكّرون لحظة في العاقبة،يتقاتلون من أجل أتفه الأسباب " [10] وهو حال ناس رواق الربّ porte de Seigneur في رواية " السيد الرئيس" [11].

ينتزع أستورياس لنفسه أمكنة عديدة في رواية "حارسة الظلال "يمكن أن ندلّل عليها بالإشارة الصريحة وبتماثل العوالم والاسلوب.فعنوان الفصل الثالث "ناس من تبن" مثلما يذكّرنا بالتعبير الفرنسي الشهير Homme de Paille فانّه يذكّنا برواية استورياس " ناس من ذرة"Homme de Mais (11) غير ان ما يشدّنا فعلا إلى عوالم الروائي القواتيمالي هو ذلك الصراع الذي يخوضه بطل رواية واسيني الأعرج (حسيسن) ضدّ الجماعة الدينية المتطرّفة والمؤسسة السياسية الفاسدة،فقد أدانت نصوص أستورياس استبداد الدكتاتور استرادا كابريرا الذي حكم قواتيمالا لمدّة عشرين سنة استبعد فيها أهلها وأجهز على الحرّيات ونكّل بالمعارضين فعذّب كثيرهم وفرّ بعضهم إلى المنافي وكان أستورياس أحد هؤلاء الذين طلبوا اللجوء السياسي في الأرجنتين.و قد انعكست ملامح هذا النفي في مؤلفات أستورياس مثلما انعكست ملامحه في روايات واسيني الأعرج منذ مجموعته القصصية " ألم الكتابة وأحزان المنفى" [12].

ويمكن أن نرجع افتتان الأعرج بكتابات أستورياس إلى ذلك الشبه بين الحكم الدكتاتوري في قواتيمالا مع الدكتاتور استرادا كابريرا والحكم الشمولي لبني كلبون _ كما يسميهم الكاتب _في الجزائر والذين خدمتهم الصدف فاستولوا على السلطة وخرّبوا البلاد وجعلوا من عاصمتها "كل يوم نزحف نحو الموت بخطوات حثيثة" [13] إذ افرغت من محتواها وفقدت حاضرها وماضيها وتحوّلت إلى جثّة مدينة يحيطها الرّعب والخوف حتّى أصبح المشي فيها نوعا من التحدّي الصارخ [14] وحالة من الفانطازيا [15].

وهذا الاحساس بفقدان المكان لهويّته هو ما يفسّر رجوع واسيني الأعرج في حارسة الظلال "إلى تاريخ الجزائر محاولا فهم واقعها الحاضر.فلم تكن عودته إلى تاريخ القرون الوسطى وعهد القراصنة سوى عودة مقنّعة لنقد الأوضاع الراهنة في جزائر التسعينات و كأنّ الروائي يجد شبها كبيرا بين القراصنة في التاريخ وقراصنة الواقع الواقع السياسي بالجزائر الراهنة والتي تقاسمته السلطة السياسية والجماعة الدينية المسلّحة،فكانت عمليات تدمير المكان وتشويه هويّته وسحق ذاكرته شبيهة بما جرى لحضارة شعوب المايا بقواتيمالا التي أبادها الغزاة الإسبان والتي قضى أستورياس عمره الأدبي بحثا فيها واحياء لها،وتمثّل رائعته "ناس من ذرة " علامة على ذلك الاهتمام الكبير بتلك الحضارة الهنديّة البائدة.

(***)

أمّا في مستوى الأسلوب فقد استفاد واسيني الأعرج من تقنية تكبير المنظر والتي تعرف في الغة السينمائية باللقطة الأمريكية وتعتبر هذه التقنية احدى أهمّ خصائص الكتابة الروائية عند أستورياس الذي وظّفها بشكل كبير في روايتيه" السيد الرئيس" و" ناس من ذرة" فيعمد إلى تشويه شخصية الدكتاتور استرادا بحيث "يبدو مثيرا للاشمئزاز والسخرية" [16] وقد وظّف الأعرج هذه التقنية في وصف الشخصيات التي تمثّل السلطة في الرواية فعمد إلى ابراز عيوبها الخلقية والتركيز على ما يجعل منها موضوع للتهكّم والضحك.فتحوّل الوصف إلى رسم كاريكاتوري ساخر عمّقته تلك التشابيه التي يعمد إليها الرّاوي عند نقل الصورة،فيقول واصفا "زكي "ممثّل السلطة في مقرّ الأمن المركزي بالجزائر عندما قصده للسؤال عن صديقه الصّحفي الاسباني:

"لم يستقبلني زكي الاّ على الساعة التاسعة والنصف.كان غارقا في أوراقه،لا تظهر إلاّ صلعته التي كان ينكسر عليها الضوء العمودي النازل من الشفق.لا أفهم لماذا قصيرو القامة يصرّون دائما على المكاتب التي تتجاوزهم" [17].

ويضيف في موضع آخر "عيناه الفسفوريتان كانتا تلمعان كعيني قطّ وسط هذا الديكور العميق والمغلق " [18] ولم يسلم حارس المبنى من نظرة الرّاوي الساخرة فيصفه بقوله"حارس المدخل […]ظلّ منغرسا في مكانه،مسمّرا كالخرّوبة اليابسة، نظر إليّ بعينين مدوّرتين مثل الصولدي المخروق" [19].

تناغمت هذه التقنية مع الأسلوب السّاخر الذي ميّز الرواية وعمّق نفسها النّقدي.كما كان التوسّل بالعامية في وضع تلك التشابيه يجعل المتلقّي يقترب أكثر من الرّاوي ليشاركه تلك النظرة التّهكّمية لممثلي السلطة.وهذا الاسلوب من شأنه أن يخفّف من ضغط الفضاء المثقل بالخوف والخراب والقمع ويفتح ثقبا من الضوء في تلك العتمة التي تتحرّك فيها الشخصيات وتدور فيها الأحداث.والحقّ أن السخرية هي أحد مظاهر الكتابة السردية الجزائرية لمسها المتلقّي منذ زمن في أعمال المعلّم الأول أحمد رضا حوحو [20] والسّخرية،في العموم،هي هزل أسود يعمد إليه الرّاوي المثقّف في رواية "حارسة الظلال" لمواجهة قمع السلطة وجهلها. فتكون الإبتسامة بمثابة ضوء الشمعة الذي يكسر سديمية الواقع اليومي.

في الختام. نشير إلى أنّ ما سبق وقلناه حول أثر الرواية اللاّتينية في أعمال واسيني الأعرج يمكن أن تدرج ضمن ما يسمّى في السر ديات بلاوعي التناص. [21]

في "حارسة الظلال" لواسيني الأعرج

[1انظر حديث واسيني الاعرح ضمن كتاب :الرواية العربية الجزائرية لبوشوشة بن جمعة.دار سحر.تونس ص 78

[2واسيني الأعرج.نوّار اللّوز،دار الحداثة،بيروت 1983 ص 159

[3واسيني الأعرج،أحلام مريم الوديعة،دار الفضاءئ الحر،الجزائر ص12

[4المصدر نفسه ص220

[5انظر الرواية العربية الجزائرية ص82

[6المرجع نفسه الصفحة نفسها

[7واسيني الأعرج،أحلام مريم الوديعة ص 34

[8نشر les yeux des entérres سنة 1960 وترجمت إلى "عيون الميّتين"و"عيون المقبورين" و"عيون المدفونين"

[9Monsieur le Président كتبها في العشرينات ولم تر النّور الاّ سنة 1946 بالمكسيك و أعيد نشرها في الأرحنتين سنة 1948 وفي باريس سنة 1952

[10واسيني الأعرج،نوّار اللّوز،ص 106

[11Monsieur le Président. GF. flammarion. Paris. 1987 p 22

[12واسيني الأعرج،ألم الكتابة عن أحزان المنفى.المؤسسة العربية للدراسات والنشر،بيروت.1980

[13واسيني الأعرج،حارسة الظلال،ص27

[14المصدر نفسه ص 27

[15المصدر نفسه ص 28

[16حامد أبو أحمد.الواقعية السحرية في أمريكا الاّتينية.مجلو القصّة،العدد104،2001 ص 53

[17واسيني الأعرج،حارسة الظلال ص109

[18المصدر نفسه ص114

[19المصدر نفسه 117

[20أحمد رضا حوحو من مواليد 1911 ببلدة سيدي عقبة (بسكرة) استشهد في 29 |03|1956 م ترجم وكتب في المسرح والقصّة والرواية والأدب الساخر.من مؤلفاته :صاحبة الوحي،نماذج بشرية،غادة أم القرى،مع حمار الحكيم…(عن كتاب "موسوعة العلماء والأدباء الجزائريين"دار الحضارة.الجزائر 2003 صص158.159

[21انظر حوارنا مع واسيني الأعرح بمجلة عمّان الثقافية (الأردن)عدد96.حزيران 2003


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى