الجمعة ٢٠ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٢
بقلم هيثم نافل والي

من أجل الملاك

شاهدها في الحرم الجامعي وهي تسير كالفراشة وهي تتنقل بينَ الأزهار، أسرت لب قلبه من أول نظره ولم تفارقه صورتها أبداً طوال ثلاثة سنوات... ذابَ شوقاً وهو يتابعها أينما ذهبت، وأزداد لوعة وحرقة وهو يراها تتوسط الجلسات التي تجمعها معَ زملائها وزميلاتها في نادي الكلية، ولم يحاول في يوم أن يقترب منها أو يلفت انتباهها... فظلت هي حقيقة عالمه الذي يحيا من أجله، وطالَ ترديده لتلك الكلمات: من أجلكِ يا ملاكي سأنتظر العمر كله، بينما بقي هو كالشبح لا يعبر لها عن شيء سوى وهم أو خيال لا تفقه معنى له ولم يكن في حسبانها أبداً.

الصمت كانَ كل ما يفعله سعد حيال سعاد... تلكَ الفتاة التي دخلت الكلية معه في نفس السنة، لكنها تدرس في قسم آخر، حتى بقيت نظراته التي تلاحقها في فترات الاستراحة أو الصدفة أو المتابعة المقصودة التي دفعَ حقها محاضرات كثيرة لم يحضرها بسبب انشغاله برصد حركاتها وهو يستمتع بضحكتها الساحرة التي تجعل من روحه تفيض وجداً وعذاباً دونَ وصوله إلى بر الأمان ...

تحدثَ معَ زميله طه، وبكى كالطفل وهو يذرع قاعة المحاضرات من ركنٍ إلى ركن... ويقول مبتهلاً:

آه... لو استطعت محادثتها، كي أعبر لها عن هيامي وعشقي وشغفي بها، ولكن... صمتَ برهة، استغرقَ في تأملاته ثمَ تابع مكسور الخاطر، إنها كل شيء في حياتي... تصور يا طه، أنا لا أحب أن أغادر الجامعة بسببها، حتى دروسي أهملتها، وقد بدا تأثري هذا واضحاً لأهلي... حتى جعلَ أبي يتذمر من حالة النسيان التي تنتابني بقوة وكأنني في السبعين! ثمَ علت ابتسامة باردة على شفتيه اليابستين والتي سرعان ما تحولت إلى توسلات... وهو يثير الدهشة ويجذب انتباه صديقه بشكل مريب، فأستطرد بقلب راجف قائلاً:

أرجوك يا طه... ألست صديقي؟! قلْ لي ما يمكن أن أفعله؟ فإني أكاد أجن...

 لا عليك يا صديقي... فلكل مشكلة حل، ثمَ أردف بتوجس:

الرجل منا لا يكون رجلاً، إلا إذا أستطاع أن يسيطر على مشاعره، فتلك الأحاسيس هي القوة الكامنة التي تجعل منا شخصاً كالحجر لا ينكسر بسهولة، وإني أراك للأسف ساهياً، رقيقاً ومعذباً... حتى إنك وهبت أجمل ما عندك من مشاعر دون أن تعرف أي شيء عنها... إن كانت مرتبطة، مخطوبه وقد تكون متزوجة أصلاً؟

 قاطعه سعد بامتعاض وقد انهال عليه باللوم والتعنيف: لماذا تبشر بالشر وترسم لي صورة سوداء بلون الليل، أجئت بك كي تعصفَ بي ريح الدمار، أم لتخفف عني هول الحب وخطورته التي باتت كالمرض أعاني منه؟

 عزيزي، أنا لم أقصد ذلك تماماً... وكل ما أردت قوله هو...

لا تقل شيئاً... لنغادر القاعة، فالمحاضرة ستبدأ، ويبدأ معها عذاب الانتظار الذي يهز الأفئدة! وهو يدمدم بصوت مرتجف لا يسمع: صديق قال... يحاول النصح وهو خالي من البراعة والذوق، أجابه سعد ساخراً.

مضت ثلاثة سنوات متتالية على حياة سعد أثناء دراسته الجامعية... لا يشوبها الأمل ولا يطويها الارتياح... حياته أصبحت كالظلام في الكهف، باتَ شخص سلبي جداً، يشك في كل قول لا يراه من صالحه، ومضت أيامه تسري بسرعة الريح دونَ نجاح يتوقعه... فالإهمال كانَ بطل مسرحياته جميعاً، لا يأكل إلا ما ندر، بعدَ أن أهمل لبسه إلى درجة القسوة، في حين غادرته الفرحة منذ زمن بعيد... وما تبقى له على مواصلة الحياة هو إشباع عيونه من النظر إلى حبيبته التي لا تعي ما حولها وهي مازالت كالملاك تعيش الحياة وتسعد بلحظاتها حتى العادية منها.

عندها حدثَ ما لا أحد يتوقعه أبداً... معجزة في الزمن الراهن، حسب تصور سعد... تلك المعجزة التي كادت تنهي حياته من الفرحة والاغتباط...

سقطت نظراته على سعاد وهم ينتظرون الحافلة التي ستقلهم إلى مركز مدينة بغداد بعدَ خروجهم من الجامعة... وكما تعود لن يتجرأ الاقتراب منها، واكتفى بالتحديق وهو يتابع حركاتها وتموج شعرها وهي تروضه بأناملها...

فجأة تغيرت نواميس الكون عنده، وأصبحت الحياة لعبة على كف عفريت، إذ شاهدها وهي خائفة، ترتجف أطرافها وتحاول الاختباء... عيونها التي كانت ملاذاً للأمان أصبحت فجأة قلقة وساحة للاضطراب!

قالَ في سره ونظراته الملتهبة تتابعها كظلها: ما الذي يقلقها؟ إنها تحاول الهروب أو الانزواء؟ وإذا به يجد العلة التي جعلت من ملاكه، جسم محطم لا ينتمي إلى الحياة! شاهدَ رجلاً يتابعها بكل حواسه، يقتربُ منها ويبتعد، يسمعها كلاماً لا يصل إلى مسامعه... يحاول مسكها من ذراعها فتهربُ زائغة كالزئبق من يده! فأشتعل الغضب في رأسه، ولم يعد يرى سوى سعاد المحطمة أمامه بكل انكسار دونَ رحمة... وجاءت فرصته التي لم يخطط لها أبداً، ولم يجرؤ يوماً على اقترافها! لكنه في هذه اللحظة الحاسمة لم يفكر إلا في كيفية إنقاذ ملاكه من براثن الخطر المحدق بها...

توجه إليها بكل عنفوان وهدوء وهمسَ في أذنها باسماً:

 أنا سعد، ثمَ صمتَ لحظة كادَ يتقهقر فيها... ثمَ تابعَ بحزم: أنا زميلكِ في الكلية... لقد رأيت هذا الوحش وهو يريد التهامك... هل لي أن أساعدك؟

 أرجوك... قف بجانبي، أجابته سعاد بلهفة، ثمَ أردفت بحماس حقيقي، قد يفهم وجودك بأنك شخص قريبي ويبتعد ليعتقني... لقد أخافني جداً وشعرت بأني سأموت من الهلع والرعب... وأشارت له أنظر أنه كالأحمق الطائش الذي لا يعرف الخجل أو الوجل! ثمَ سألته برقة عجيبة:

ها... هل ستساعدني؟

لعنَ نفسه... واليوم الذي ولدَ فيه! وهو يغمغم بفرح عارم: طبعاً... أجل سأساعدكِ وأقفُ بجانبك، بل إذا أستدعى الأمر سأوصلكِ إلى داركِ إن رغبتي أو دعت الضرورة!

 آه... كم لطيف وشهم أنت! لقد كنتُ أنوي أن أقول لكَ ذلك... وخفت أن تحرجني.

لا... عليك، فأنا لا أفعل هذا دائماً... قالَ ذلك وهو يتنفس بصعوبة وبالكاد يبلع ريقه كمن يفسد لعنة أو يفضح سراً... وهو يجد نفسه أخيراً وبعدَ ثلاثة سنوات كاملة من العذاب والأرق والتفكير والوجد... جنباً إلى جنب مع الملاك الذي كانَ ينظر له ولا يجرؤ على التحدث معه... وها هي الآن تلهم وجدانه وتحفزهُ على الانطلاق والتسامي، ليستقبل الحياة وكأنه ولدَ من جديد...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى