الخميس ٢٧ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٢
عبء النجاح:
بقلم حازم خيري

من الفتوحات الإسلامية إلى الربيع العربي

«النجاح معلم سيء للغاية»

بيل جيتس

فهرس الكتاب

مقدمة

1ـ عبقرية هيكل: عندما تكون الشجرة أهم من ثمارها!

2ـ التخريب الخلاق: حتى لا تموت الحضارة الإسلامية

3ـ نفسية الشعوب العربية: واقع ما بعد الاغتصاب

4ـ رسالة إلى أسامة بن لادن ورفاقه

5ـ رحلتي مع أدونيس(نص غير منشور لنجيب سرور)

6ـ ذكرى 11/9 والحشو بالديناميت

7ـ زمن الفن الجميل: حين تطأ الفن أقدام الهمج!

8ـ فكر الغد: ثقافة اللامصلحة واللاخوف

9ـ نحن والقرن ال21: ما بين الحقائق المريحة وغير المريحة

مقدمة

أنا من حضارة يحتفي أبناؤها بالنجاح، على نحو لا أظنه عند غيرهم. أنا من حضارة منازل الناس فيها مرهونة بمقدار حظهم من بلوغ الهدف، لا بمقدار ما يُقطع من الطريق وما يُبذل من جهد، حتى وإن لم يُبلغ الهدف. حضارتي لا يؤرقها ـ البتة ـ مسائل من قبيل: التأصيل للنجاح، وتحري مصادره، وشق مسارات مُبتكرة إليه.

حضارتي حضارة الضرورة العملية، النجاح فيها كالفشل، يجب ما قبله!

يشهد بذلك تاريخنا الممتد، ابتداء من الصعود الإسلامي الأول الدافق والمباغت والذي أُحيط ـ ولا أدري أكان عن قصد أم غير قصد ـ، بدروع واقية، مُزخرفة بنوع مُتشنج من الاعتداد بالنفس، أودت بمجتمعاتنا لهاوية الإفلاس الجارح للكبرياء.

الطريف أننا اليوم ـ مع فتوحات الليزر واللاب توب ـ، نكرر أخطائنا بدم بارد. وإلا ففيما هذا التشتيت لانتباه الشعوب عن أصول صناعة الدهشة وأبطالها المستترين، وأيضا فيما الحرص المشبوه على صقل الدهشة، وفرض حقائق رسمية!

هذا الكتاب رجم يائس لتبجيلنا المُراوغ والاستعلائي لمُعلم سيء..هو النجاح!

جميع مقالات الكتاب سبق وأن جابت الفضاء الالكتروني، على مدار عام 2012، فالنشر الافتراضي ـ برأيي ـ الأكثر ملائمة لثقافة اللامصلحة واللاخوف.

حازم خيري

القاهرة في 22/12/2012

الفصل الأول

عبقرية هيكل: عندما تكون الشجرة أهم من ثمارها!

"ماذا؟ أتبكي؟

كل شيء مضحك

حتى الدموع!"

نجيب سرور[1932ـ1978]

ربما يكون المفكر المصري محمد حسنين هيكل هو الشخصية العربية الأكثر ارتباطاً بل وتأثيراً أيضاً في الأنظمة العسكرية[أعني دولة العسكر 1945 ـ 2001] التى اُجيز قيامها لملء الفضاء العربي، والحيلولة ـ وفقاً لتحليل سمير أمين لثورة 1952 في كتابه "ثورة مصر" ـ دون استمرار المد الثوري "الشعبي"، بعد جلاء الاستعمار الأوروبي التقليدي، على خلفية انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبروز الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفيتي، كقوتين أعظم في العالم.

اهتمامي بهيكل بدأ منذ فترة غير قصيرة، فهو حاضر بقوة في الاعلام المصري ما قبل ثورة 25 يناير المجيدة وما بعدها! آراء الرجل تجري مجرى الأمثال على ألسنة مفكرينا البارزين! فهو "الأستاذ" كما يحلو لهم وصفه بافتخار!

إلى هذه الدرجة اللافتة يصل نفوذ مفكرنا المُخضرم محمد حسنين هيكل في المزاج الثقافي العربي، فضلاً عن أن عبقرية الرجل لا تزال على اخضرارها! وهو ما يعفيني من حرج التصدي لكتابه الأخير بالنقد، في ضوء فكرنا الأنسني!

دار الشروق المصرية[دار نشر] ـ والتي انحاز مُلاكها واسعو النفوذ للثورة المصرية في وقت مبكر جداً، حتى أن جريدتهم اليومية نطقت باسمها، إلى جانب قناة الجزيرة القطرية، على حد تعبير الناشط المصري عبد الرحمن يوسف في مذكراته "يوميات ثورة الصبار" ـ، صدر عنها مؤخراً العديد من الكتابات الخاصة بثورة 25 يناير، لعل أبرزها مُذكرات وائل غنيم، وكتاب هيكل عن اخر حكام دولة العسكر في مصر وعنوانه: "مبارك وزمانه/من المنصة إلى الميدان".

في كتاب هيكل، ومن السطور الأولى، يبدو واضحاً مدى حرص هيكل صاحب التفكير "الغائي/المصلحي" على الايقاع بفريسته "نصف الميتة"، مُستخدماً ما بيده من أوراق كان قد ادخرها، على ما يبدو، لموسم الصيد وقد حان موعده!

المُبرر الأخلاقي الوحيد الذى يُجيز ما دأب عليه الأستاذ هيكل في كتاباته الوثائقية "الانتقائية"، من هتك لستر الموتى أو حتى أنصاف الموتى، غائب! وأعنى هنا التعطش باخلاص للحقيقة، وعدم حبسها عن الناس لغرض! فضلاً عن تعفف العبث بها أو استغلالها في غيبة الفضيلة! آفة البحث اخفاء الحقائق غير المريحة!

تيجي تصيده يصيدك! لشد ما ينطبق هذا المثل العبقري على رواية هيكل لتفاصيل لقاء ست ساعات "ودي ـ على حد تعبير هيكل نفسه ـ"، جمعه بمبارك عقب اطلاق الرجل، بوصفه خليفة أنور السادات، لسراح معتقلي سبتمبر1981!

هيكل أورد، في سياق انتقاده لعدم تقريب مبارك للصحفيين واتهامه لهم بخدمة مصالحهم، افضاء مبارك: "محمد بيه أنت تقيس الصحفيين الحاليين بتجربة زمن مضى، ليس هناك صحفي الآن له علاقة خاصة بالرئيس[وكانت الاشارة واضحة ـ والتعليق لهيكل]". وهو ما رد عليه هيكل بقوله: "إن جمال عبد الناصر كان متصلاً بكثير من الصحفيين، ثم إن هذا لا يمنع قيام صداقة مع أحدهم بالذات، ولكن المهم أن يكون اصبع رئيس الدولة على نبض الرأي العام طول الوقت".

لم يلتفت مبارك على ما يبدو لكلمات هيكل، وانتقل ـ والدهشة عند هيكل تزيد ـ قائلاً: "على فكرة نحن نتصور أنك تجلس على حِجْر الرئيس، الرئيس جمال، لكنه ظهر أن الرئيس جمال كان هو الذى يجلس على حِجْرك". صدمة مُباغتة، لم تتوقف، حيث استطرد مبارك: "لم أكن أعرف أن العلاقة بينكما إلى هذا الحد حتى شرحها لي[أشار إلى اسم الأستاذ أنيس منصور ـ والتعليق لهيكل]".

الأستاذ هيكل استهول ما سمع، وبان ذلك على ملامحه، وربما في نبرة صوته ـ على حد تعبير هيكل نفسه ـ، حين قال لمبارك: "سيادة الرئيس أرجوك لا تكرر مثل هذا الكلام أمام أحد، ولا حتى أمام نفسك، أولاً لأنه ليس صحيحاً، وثانياً: لأنه يسيء إلى رجل كان وسوف يظل في اعتقادي واعتقاد كثيرين في مصر وفي الاقليم وفي العالم قائداً ورمزاً لمرحلة مهمة في التاريخ العربي".

صحيح..تيجي تصيده يصيدك! مبارك بضيق أفقه يفك شفرة "الناصرية"!

أذكر أني قرأت يوماً كتاب "قصة حياتي العجيبة!" للمعجزة الأمريكية هيلين كيلر، وأبهرني تعنيف النقاد لها، وهي الضريرة الصماء، لما تصوروه سطواً من جانبها على أفكار بعينها، تسربت إليها يوماً من معلمتها وأملتها عن غير قصد!

إلى هذه الدرجة يحرص مبدعو الغرب على ارجاع الأفكار لأصولها، تحصيناً لحضارتهم من كل عوار، قد ينتج عن خلط الغث بالسمين! غير أن الطريف هو سيرنا في عكس الاتجاه، فارجاع الأفكار لأصولها، لا يتفق وفهمنا للابداع! فالأفكار عندنا لمن يُجيد العزف عليها، وليس لأولي السبق في ابتكارها!

بعبارة أدق، نحن لا نهتم كثيراً، بل لا نهتم أصلاً، بتحري اصول الأفكار وردها لمنابعها، فلا محل عندنا للأبنية النظرية أو التأصيل! وهو ما يُفسر طبيعة أمزجتنا التى تجعلنا نقبل سياسة ما من شخص ما، ولا نقبلها من شخص آخر..

من هنا، يمكن لنا أن نُفسر احجام باحثي وطلاب الدراسات العليا عندنا طيلة العقود الماضية عن التصدي لفك شفرة الناصرية، رغم كثرة الكتابات والخطب والأحاديث حولها، خاصة في مواسم بعينها، كـ: عيد ثورة 23يوليو 1952، وعيد ميلاد الراحل جمال عبد الناصر، إلى غير ذلك من مناسبات ترتبط في وجدان الجمهور العربي بهذا الابتكار العبقري ـ أقصد الناصرية بالطبع ـ.

فالناصرية التي يتزامن ميلادها مع الميلاد "الفعلي" لدولة العسكر في مصر(23يوليو1952ـ25يناير2011)، اكتفى دارسوها، ومن باب أولى دراويشها، بتحليل بل وأحياناً التلذذ بأقوال وسلوكيات شخص جمال عبد الناصر، كونه تجسيداً للناصرية. لا أنتقد هؤلاء بالطبع، وانما أنتقد عدم ذهابهم إلى ما هو أبعد في تحليلهم للناصرية، فهي برأيي، وربما رأي الكثيرين في المستقبل، تتجاوز حدود "شخص"، كونها حزمة من الأفكار تخطف السُذج داخل الوطن، فيما يشبه التنويم المغناطيسي الشائع وقتها، وتخدم بعبقرية مصالح الحكومات لا الشعوب!

أنظر مثلاً إلى مُفردتي "العروبة" و"معاداة الكيان الصهيوني"، وهما من الأركان الرئيسية للناصرية، تجد في حديث هيكل عنهما في كتابه الأخير ما يُبدد الأوهام! فها هو هيكل بتمكن يُعري في حديثه مع مبارك مغزى البعد العروبي للناصرية، بعيداً عن التشنجات الحماسية لأم كلثوم، وعبد الحليم، وأشبال منظمة الشباب الذين نجحت ثورة يناير في تحرير المصريين من نيرهم! يقول "الأستاذ":

"سيادة الرئيس..إن الاحتياج لابد أن يكون متوازياً في السياسة الدولية، واذا جاء الاحتياج من طرف واحد ـ إذن فهو عالة على غيره، وحتى اذا قبل هو، فإن الطرف الآخر لن يقبل، ببساطة لأن السياسة الدولية ليست جمعية خيرية!!

"انه هنا أهمية موارد مصر الاستراتيجية، وقدرتها على ادارة هذه الموارد، وهنا مثلاً أهمية انتماء مصر العربي. بمعنى إذا لم تكن مصر من هذه الأمة العربية بالطبيعة، فلابد أن تكون منها بالضرورة. بصراحة أنا قومي عربي باقتناع، وبطبائع الأشياء فإن أحداً لا يستطيع الاقتناع إلا بما يتوافق مع مصلحة وطنه كما يقدرها ـ وفضلاً عن اقتناعي ـ مبدأ ـ بعروبة مصر، فإنني مقتنع بضرورة هذه العروبة أيضاً لمصر، وكذلك لكل بلد عربي.

"فارق ـ سيادة الرئيس ـ بين أن تتعامل مع أمريكا كمصر فقط ـ وهي بلد مثقل بحجم سكانه، محدود في طاقة موارده، وبين أن تتعامل معها وهي وسط العالم العربي ـ بكل قوة الأمة، وبكافة إمكانياتها ومواردها!!

"هذا أيضاً ـ سيادة الرئيس ـ هو ما يمكن أن يعطيك تأثيراً في العالم الثالث كله وفي العالم الأوسع، إذا كنت وحدك، فالتأثير محدود، وإذا كنت وسط كتلة كبرى، إذن فهناك حساب آخر لتأثيرك".

رؤية هيكل المذكورة تواً تكاد تتطابق، لفظاً ومضموناً، مع حديث الأمريكي مايلز كوبلاند في كتابه المهم "لعبة الأمم"، ولا حرج في ذلك، لولا أن تجربة دولة العسكر(1945ـ2001)، تُعضد للأسف الزعم الأمريكي، بأنه جرى توظيف مُفردة "العروبة" وغيرها من مفردات الناصرية، في اطار ما يسميه الغربيون بفن "صناعة الخصم"! التاريخ إذن هو من يتهم ويستصرخنا تطهيره من الأكاذيب!

خاصة وأننا نرى في الأفق الآن مساعٍ لتكرار السيناريو نفسه، على خلفية ثورة 25 يناير، مع فارق واحد، وهو: استبدال حزمة "اسلام سياسي/دولة خلافة"، يتولى زعيم ـ حُبلى مُحدثات ربيعنا الصامت باحتمالات ظهوره(*) ـ تسويقها، بحزمة "الناصرية" التى برع ناصر في تسويقها! أخطر ما في هذا السيناريو المشئوم، أنه "حلوى مسمومة"، بالتهامنا لها، تصبح الزعامة القوية في بلادنا عبئاً، على نحو ما تُعلمنا تجربة دولة العسكر، لا عوناً لنا، يجرفها الغربيون بأنانيتهم ومعارفهم الواسعة إلى حيث لا ينبغي لها ـ ولا لأبناء المنطقة ـ أن يتواجدوا!

على أية حال، رد فعل هيكل الانفعالي على حديث مبارك عن الناصرية، ومناشدته له بأن يكتم مثل هذا الرأي وعدم تكراره أمام أحد ولا حتى أمام نفسه، يعضد مُحاجتى بأن الناصرية تتجاوز حدود ناصر! هي جهد "مُتقن" لمحترفين!

ولو أن كلاماً خطيراً كهذا شاع، ومبارك في أوج القبول الشعبي والعالمي، لكان احتمال التفكر فيه غير معدوم، ولكان أغرى خصوم هيكل به، وهو ما زلزل هيكل وقتها! غير أن تحول مبارك من القوة إلى الضعف، أهدى هيكل فرصة لوأد ما ردده أنيس منصور وغيره! قرر هيكل أن يبوح بسره ليئده، كونه يعلم يقيناً أن مبارك في محنته لو نطق بحق لرآه الناس باطلاً، فالرجل لم تتبق له مصداقية!

تصرف هيكل هذا يُعيد إلى ذهني ما اعتادت فاشية العسكر أن تأتيه في حق شرفاء بلادي! يحضرني منهم اسم الموهوب "نجيب سرور" الذى اغتيل أدبياً عبر ايداعه مستشفي المجاذيب، ليفقد صراخه بالحق أي تعاطف، رغم أنه كان ضمن قلة لم ينطل عليها سحر الناصرية، ورأت في حكم العسكر ما نراه اليوم!

الأستاذ محمد حسنين هيكل، ومن واقع كلامه هو نفسه، ليس بمنآى عن أجهزة الاستخبارات، خاصة الغربية، حتى أنه تطرق في كتابه الأخير على استحياء، وتحت ضغط الحاجة لتعضيد وجهة نظره، إلى لقاءات وصلات جمعته بشخصيات استخباراتية نافذة، لدواعٍ قال عنها أنها ترتبط بمؤلفاته، ناهيك عن صلاته غير المحدودة ببارونات السياسة في جميع أنحاء العالم، خاصة الغربي.

وعليه، تطرق الرجل في كتابه الأخير لقضايا استخباراتية، لا رابط بينها سوى سعيه الضاري، لشيطنة تاريخ مبارك، تصريحاً أو تلميحاً، على نحو فج!

من تلك القضايا قضية "أشرف مروان"، وهي ترتبط بالناصرية، وبالتحديد مُفردة "معاداة الكيان الصهيوني"، تلك الفكرة المحشوة بالديناميت، ليس في عدائها ـ على الأقل بالإدانة والشجب ـ لقهر الصهاينة للفلسطينيين، وإنما في صلاحيتها كغطاء لفاشية العسكر لعقود عديدة، اختلط الأمر فيها على الشعوب، فلم تع مساندة اسرائيل لوجود دولة العسكر، كونها أبرع من غيرها في تدمير شعوبها بالمدح!

في كتابه، بدا واضحاً حرص هيكل على تبرئة أشرف مروان من تهمتي التجسس لصالح اسرائيل، واخبار "الموساد" بتوقيت نشوب حرب اكتوبر 1973، ولو أن هيكل اكتفى بتبرئة صديقه، ونفي زعم اسرائيل عنه، لأراح واستراح!!

لكن يبدو أن رغبة هيكل "المُسلحة" في الايقاع بالفريسة ملكت عليه أمره، فراح يزرع الشك في نفوس القراء، ويغريهم بصيد "نصف ميت"، ولنقرأ قوله:

"وفي كل الأحوال فقد أصبح الآن مؤكداً أن اسرائيل كان لها في مصر جاسوس على مستوى عال، وأن هذا الجاسوس أبلغها بما كان محظوراً ابلاغها به، حتى ولو كان الابلاغ عن يوم الهجوم،[وحتى لو اختلفت الساعة ـ والتعليق لهيكل]. وهذا الجاسوس ـ أياً كان ـ لم يكن عميلاً مزدوجاً، فليست هناك ورقة واحدة في رئاسة الجمهورية ولا في المخابرات العامة تحتوي إشارة عن نشاطه، وهذه نقطة حرجة. وكان وجود مثل هذا الجاسوس ظاهراً حتى في أول رسالة بعثت بها رئيسة وزراء اسرائيل جولدامائير إلى الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون وذلك قبل أن تنشب العمليات بعشر ساعات على الأقل، ولذلك فإنه من الحيوي أن يعرف كل مصري من هو؟! ـ ولماذا؟! ـ وكيف؟!!"

تهمة أخرى أراد هيكل الصاقها بمبارك، الطريف فيها هذه المرة انها جريمة اغتيال سياسي، تمت خلال فترة الرئيس جمال عبد الناصر، دون علمه!

وأصل القضية كما يرويها هيكل أن تمرد المهدية على نظام الرئيس السوداني جعفر نميري، اسفر عن نشوب صراع مسلح بين الفريقين سنة 1970، وأن مبارك ذهب الى السودان في صحبة نائب الرئيس أنور السادات، لبحث ما يمكن أن تقوم به مصر لتهدئة موقف متفجر جنوب وادي النيل، ولتعزيز موقف النميري في تلك الظروف العربية الحرجة ـ والكلام لا يزال لهيكل ـ. وكانت أول توصية من بعثة أنور السادات وقتها هي الاستجابة لطلب الرئيس السوداني، بأن تقوم الطائرات المصرية المتمركزة أيامها في السودان بضرب مواقع المهدية في جزيرة "آبا" لمنع خروج قواتها إلى مجرى النيل، والوصول إلى العاصمة "المثلثة"، ودارت مناقشات في القاهرة لدراسة توصية بعثة السادات في الخرطوم، وكان القرار بعد بحث معمق أن لا تشترك أي طائرات مصرية في ضرب أي موقع، وأنه لا يمكن لسلاح مصري أن يسفك دماً سودانياً مهما كانت الظروف.

ثم حدث بعدها بأيام أن زعيم المهدية السيد الهادي المهدي اغتيل. وراجت حكايات عن شحنة متفجرة، وُضعت داخل سلة من ثمار المانجو، وصلت إليه!

الأستاذ هيكل، وبعد أن روى لنا أصل القضية، كتب مُعلقاً: "قيل ـ ضمن ما قيل عن عملية الاغتيال ـ أن اللواء حسني مبارك[وهو الرجل الثاني في بعثة الخرطوم مع السادات ـ والتعليق لهيكل] ـ لم يكن بعيداً عن خباياها، بل إن بعض وسائل الاعلام السودانية وقتها ـ وبعدها حين أصبح مبارك رئيساً ـ اتهمته مباشرة بأنه كان اليد الخفية التى دبرت لقتل الامام الهادي المهدي".

قارئي الكريم، لست أدري لماذا يُذكرني "توثيق" هيكل لهذا الاغتيال الدنيء باغتيال آخر دنيء مسكوت عنه، تم في الحقبة نفسها، وبدون علم ناصر أيضاً!

فقد أوردت اعتماد خورشيد في شهادتها على انحرافات صلاح نصر "ملك التعذيب"، ما نصه: "اكتشفت ان صلاح نصر لم يبلغ الرئيس عبد الناصر بمهمة اغتيال فاروق إلا بعد تمامها وبعد أن اعتبرها احدى انجازاته العظيمة للمحافظة على النظام الجمهوري ومنع عودة الملكية التى كانت أمريكا تخطط لعودتها مع بعض الملوك العرب في المنطقة كما كان يقول ليبرر جريمته الشنعاء".

يُخطئ من يظن أن حكم دولة العسكر، برجالها ومؤسساتها، كان مقطوع الصلة بالحكومات والاستخبارات الغربية، وحتى الاسرائيلية! بل ان العكس هو الصحيح! فشعارات من قبيل: "معاداة الكيان الصهيوني" و"اليهودي الماكر" و"مناهضة التطبيع" إلى غير ذلك، أثبتت عقود حكم دولة العسكر(1945ـ2001) أنها محض أمراض وعُقد نفسية، تم غرسها بحرفة ودربة في وجدان الشعوب!

دلوني ـ بالله عليكم ـ على مفكر أو اكاديمي عربي ينطبق عليه مدح ادوارد سعيد للأكاديمي الاسرائيلي "اسرائيل شاحاك"، فقد وصف الأنسني الراحل شاحاك في تقديم لكتابه "الديانة اليهودية وتاريخ اليهود: وطأة 3000عام"، بقوله:

"اسرائيل شاحاك رجل فائق الشجاعة، وينبغي أن يُكرم للخدمات التى قدمها للانسانية. ولكن المثال على العمل الدؤوب والطاقة الأخلاقية التى لا تفتر، والتألق الفكري، الذى وضعه شاحاك قدوة تُحتذى، هو في عالمنا اليوم، احراج للحالة الراهنة ولجميع الذين تعني لهم كلمة[مثير للجدل] كل ما هو[مكدر] و[باعث على الاضطراب]"

الشعوب العربية لا تعرف شيئاً عن جيرانها اليهود ودولتهم، وهنا يكمن الخطر الحقيقي! تجربة دولة العسكر في استخدام اليهود ودولتهم "فزاعة" لتمرير الفاشية، لا ينبغي لها أن تتكرر! فلنُحصن أنفسنا بالمعرفة، عن كل شيء، حتى "اسرائيل"، بالانفتاح عليها من الداخل والتواصل مع الضمائر الحية هناك! ترك الأنظمة "وحدها" في مواجهة اسرائيل، يزيد احتمالات الاتجار بآلام "الشعوب"!

نحن عانينا من القرن العشرين دون أن نعيشه(**)، فلنمض بالثورة حتى "داخل حدود الضمير"! وهكذا نسترد في القرن الواحد والعشرين الحياة من جديد!

كلمة أخيرة، أظن الأوان قد حان ليلحق الأستاذ هيكل وتلاميذه، بدولة العسكر، فالجسد العربي العاجز حتى عن مجرد زفرات الموت، يستصرخ الأستاذ هيكل، ويُطالبه: إما أن يلقي إلينا بأسرار دولة العسكر التى عاصر قيامها وسقوطها "غير منقوصة"، لنستعين بها على القادم والذى أخشى أن يكون تنويعاً على لحن أساسي! وإما أن يصمتْ ويكفْ عن مُتاجرة تُذكرنا بكتبة تقارير التنظيم الطليعي السري، وقد كان هو نفسه أحدهم، بحسب دراسة "وثائقية" لحمادة حسني، بعنوان: "عبد الناصر والتنظيم الطليعي السري1963ـ1971"! وليعلم شيخنا أن كتابة التقارير وتتبع العورات، ما عاد يصلح في "زمن" معرفة وثورة اتصالات!

ليست الحياة إلا وداعاً مستمراً للأفكار

(*) تحضرني في هذا السياق طُرفة! فقد خرج علينا، بعد ثورة 25 يناير المجيدة، شباب فريق "كايروكي" المصري بأغنية: "مطلوب زعيم". كلمات الأغنية شديدة البساطة، غير أنها توقظ حنيناً ماضوياً لأمير صالح وليس مؤسسات حكم شفافة!

(**) العبارة مأخوذة من: جابرييل جارثيا ماركيز، ترجمة أحمد عبد اللطيف، ما جئت لالقاء خطبة، (القاهرة: روافد للنشر والتوزيع، 2011).

الفصل الثاني

التخريب الخلاق: حتى لا تموت الحضارة الاسلامية

"يا أمة ضحكت من جهلها الأمم"

أحمد شوقي

غريب جداً أمر حضارتنا الاسلامية هذه! حضارة عتيقة هي ولا ريب، لم تتوقف منذ ميلادها في كنف الدين الاسلامي وحتى الآن عن ابهار العالم، في البداية بقوتها وتدحرجها "المُذهل" في الأرض، ثم بعد ذلك بعقوقها "الأكثر اثارة للذهول" لناموس الحياة! ولنُدقق فيما يحدث اليوم من ثورات عولمية، ترمي باصرار لاسقاط دولة العسكر القائمة في أرضنا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية!

دولة العسكر هذه عبارة عن انظمة عسكرية، مُطعمة بملكيات استبدادية، تختلف في الشكل لا في العقيدة! إرث الألم: الحكومات تُخيف، والشعوب تخاف!

ثوراتنا العولمية لا مكان بداخلها لثورة الفكر ـ ثورة الانسان الداخلي المستقل ـ، ربما لحرصها "اللامُدرك" على التمكين للاسلام السياسي، على خلفية مُطالبة السبتمبريين بزوال حكم دولة العسكر، وبالتبعية حرصها "اللامُدرك أيضاً" على وأد اجنة الايقاظ الحقيقي لمجتمعاتنا، من باب أن الوقت متأخر جداً بالنسبة لها، وأن الخصم الأمثل في مباراة نهائية "غير متكافئة القوة" هو التفكير الفقهي، لاسيما إذا تحالف، في غيبة المعرفة والفضيلة، مع التفكير العلمي الما بعد حداثي!

حسناً! إذا كان هذا هو ما يريده الغربيون، ويدفعون ثوراتنا المجيدة ـ وربما أيضاُ بعض ورودنا الثائرة من بحاري الانترنت، وقد ضاقت بهم السبل ـ باتجاهه، مُستغلين خلو مجتمعاتنا المرعب من محبي الحقيقة، أعني من أصحاب التفكير الفلسفي اللاغائي! ولورودنا الثائرة ان هي مالت لأمر كهذا، بوعي أو بلا وعي، أن تنجو من اللوم! لم يرثوا سوى حضارة "شديدة الزهو باسباب اعتلالها"!

ثوراتنا العولمية أعادت اختراع الفوضى، فجعلتها منهجية ومأزومة، تتمخض باحترافية عن استبدال نظام حكم بآخر! ثوراتنا أعادت اختراع اللاعنف، فها هو لاعنف غاندي الأخلافي الحريص على ايقاظ ضمير الظالم وليس كسر ارادته، يُنجب اللاعنف البراجماتي والذى لا يخلو من مسحة لاأخلاقية، ربما تكون مُبررة! ثوراتنا أعادت اختراع الرأس! جعلته لا مركزيا! نقلته من أطراف الجسد!

فماذا ننتظر؟! لما لا نُحاكي مُنظري ثوراتنا العولمية في تخريبهم المنهجي الخلاق/الخصب للأفكار!! لما لا نؤكد جدارتنا بثوراتنا المجيدة، ونكسر الخوف من وضعها تحت المجهر! لما لا نتعظ من تجربة ثورة 23 يوليو 1952 حين اقتُرفت الخطيئة نفسها! "عولمية" ثوراتنا ليست عيباً يُخجل منه او جريمة تُنفى، بل هي بحق عبقرية هذا الجيل "الأعزل"! فرصتنا، ربما الأخيرة، لنُعيد اكتشاف أنفسنا ومجتمعاتنا وحضارتنا! من حق الشعوب أن تعرف .. الاختيار يقتضي المعرفة.

لنبدأ مثلاً بتاريخ دولة العسكر ونجاهد في تخريبه على نحو منهجي خلاق، ومن شظاياه المتناثرة نشيد صرح دولتنا الجديدة! لا يليق بمصرنا أن يقف ثائر بائس في ميدان التحرير يهتف بسقوط حكم العسكر، رافعاً فوق رأسه صورة ناصر أو السادات! لا يليق بشرف الثورة ترك بؤس كهذا يضرب على غير هدى!

ثمن الحرية أن تعي الشعوب أهمية الأفكار، لا أن تقبل من زيد ما لا تقبله من عمرو!! تضحيات ثورة 25 يناير المجيدة، وما اريق فيها من دم، في خطر!

لنكف من الآن عن "الفهلوه"، حتى ولو كانت مُربحة ومُريحة! لنكف عن القبول الجزئي بالجديد المُبتكر فقط تحت الحاح عدم ملائمة ما بأيدينا لجو عصر اللابراءة واللاعصمة! لنكف عن الاضطرار دوماً للاستيراد لرأب صدع افلاسنا الحضاري! لنكف عن ثورات رد الفعل، ونُبادر بغرس القلق الابداعي في النفوس! لنُناهض تدمير شعوبنا بالمدح! لنبن مستقبل حضارتنا من شظايا كنوزها المتناثرة!

الثائر الحق هو من يلحق بثوراتنا "العولمية"..

* لثورة 25 يناير المجيدة فضل عظيم، اتمنى له ألا ينضب! اصبح ممكناً أن تجد بين الشباب من يسعى إلى المعرفة! فكرة هذه المقالة جاءتني على خلفية نقاش دار بيني وبين الأستاذ/سعيد فاضل، وهو شاب ثائر، نجحت ثورة 25 يناير على ما يبدو في تحرير ملكاته الابداعية! فإلى صانعي ثورتنا "العولمية" الشكر كل الشكر!

الفصل الثالث

نفسية الشعوب العربية: واقع ما بعد الاغتصاب

"من هم قوى السوق؟"

محاضير محمد

ثمة أوجه شبه عديدة بين استقلال "قومي/مدني"، سبق وأن أحرزته بلداننا العربية بعد رحيل الاستعمار الأوروبي، وبين استقلال "ما بعد قومي/لامدني" نعيشه اليوم، على خلفية سقوط دولة العسكر[1945ـ2001]، وهي أنظمة عسكرية فاشية، مُطعمة بملكيات استبدادية، أجيز لها احتلال فضائنا بمشروعية الاستقلال الوطني.

أوجه الشبه هذه يساعد على حجبها عن ضمير مجتمعاتنا، تخلفها المُخنث، فضلاً عن ممارسات أصحاب الرأي فيها، كونهم ينتهجون "العمى الجزئي"، في تحليلهم الرديء، للماضي والحاضر، على نحو آية في الغموض. إذ ليس واضحاً ما إذا كان مفكرونا وساستنا على وعي كامل بتفاصيل المشهد ـ بحقائقه المريحة وغير المريحة ـ، أم أن تواضع المستوى وقلة المعلومات[ولا أدري كيف]، هو المسئول.

الاستقلال العربي الأول ـ أعني استقلال ما بعد الحرب العالمية الثانية ـ، أحرزته حكومات مشهورة لدى شعوبها بوطنيتها، برعت على نحو يفوق كل تخيل في إيقاف المد الثوري "الشعبي"، وكذلك في مزج البناء والإصلاح بالقمع والإرهاب، إلى جانب براعتها في التمكين لمدنيات "فاشية"، نالت بقوة من مصداقية الحكم المدني!!

استقلالنا الأول أنجب، بتخصيب شيطاني، اغتصاباً جماعياً لنفسية الشعوب!

أما استقلالنا الثاني ـ وأعني به الاستقلال العربي ما بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 ـ، فها هو يُجيز بمشروعيته للإسلام السياسي احتلال فضائنا العربي! فالإسلاميون في طريقهم لامتلاك زمام الأمور، هم ورثة العسكر بلا ريب، ولو أنهم ليسوا وحدهم، على ما يبدو! فثمة أمور عديدة تشي بحرص ثوراتنا "العولمية" ـ ربما غير المُدرك ـ، على غرس بذور مدنية "قوى السوق" الكونية..

مدنية "قوى السوق" الكونية الخفية هذه، يُتوقع لها أن تكون استنساخاً رديئاً للمدنية الأمريكية! هدفها ـ من واقع العديد من الأدبيات والتصريحات الغربية ـ هندسة وتأهيل ثقافتنا العاجزة عن النمو، لما بعد الاستقلال الثاني[ما بعد دولة الإسلام السياسي/الخلافة]! هذا على المدى البعيد، أما على المدى القصير، فقد يكون الهدف هو لجم التشظي القومي وتداعياته، وإيجاد مُعادل مدني "مصنوع" للطائفية بأنواعها!

ثوراتنا مصنوعة وليست مولودة، وفارق بين ثورة تُصنع..وثورة تُولد.

استقلالنا الثاني ما بعد صناعي، بمعنى أنه نتيجة للتحول الحاصل نحو "القوة الناعمة"! فبعد أن كانت مُنتجات عصر الصناعة "الصلبة" تُخاطب الجسد وحده، نجد منتجات عصر المعرفة وثورة الاتصالات تُخاطب العقل والقلب، عبر سلع وخدمات "لينة"، تدل على تعملق السيادة "اللينة" وزحفها الرهيب على حساب السيادة "الصلبة"، أعني الحدود المرسومة للدول، والبنى السلطوية الآمرة ـ كالجيش والبوليس.. ـ.

أعجبني كثيراً قول الماليزي الشهير محاضير محمد، في كتابه: "العولمة والواقع الجديد"، إنه على أبناء حضارتنا أن يتذكروا جيداً أنه قد فاتتهم الثورة الصناعية تماماً ـ بما صاحبها من إيقاظ للوعي ـ، وهم في نقاش مستفيض ومناظرات "لامجدية"! وأن قرون الثورة الصناعية شهدت كارثة تحطيم مجتمعاتنا!

والسؤال: إذا كان تحطم مجتمعاتنا قد تم في عصر الصناعة التنويري، فماذا سيحصل لنا في عصر ما بعد الصناعي، بكل استهلاكيته، وتحكمه الما بعد الحداثي "الفيديولوجي" في عقول وقلوب البشر، وحرصه على قتل الإنسان الداخلي المستقل؟!

الثائر الحق هو من يُكافح ضد الاغتصاب الجماعي لنفسية الشعوب.

الفصل الرابع

رسالة إلى أسامة بن لادن ورفاقه

""وأين إذا ضاق الفضاء نسير"

عبد الله النديم

يؤذيني كثيراً ما يحدث لكم أبناء حضارتي، ولمن تبقى منكم على قيد الحياة، من إرهاب وترويع على يد سجاني جوانتانامو وغيرهم! يؤذيني ما يحدث لكم من مُطاردات وكأنكم خطيئة وحيدة يحرص عالمنا المعصوم على التطهر منها ومحوها!

يؤذيني كثيراً أن أرى قوى الإسلام السياسي هذه الأيام في كافة الربوع العربية، تتنكر لكم وتسكت عما يحدث لكم من إرهاب وترويع، بينما تحصد بدمٍ بارد ثمار صرختكم المزلزلة في عرين الأسد الأمريكي! ثوراتنا "العولمية" ما كانت لتنفجر على هذا النحو المدوي لولا هجمات 11سبتمبر2001 والتي لجئتم إليها حين استقر في يقينكم أن التحرير يبدأ من الغرب وفي القلب منه أمريكا! لا نامت أعين الجبناء!

أخرجوكم من بلادكم لتحاربوا استبداد الحكومات العميلة في أفغانستان، وإذ بكم تكتشفون أن حكومات بلادكم ليست أقل عمالة ولاإسلامية وامتهاناً لكرامة الشعوب، من تلك التي نفرتم لمجاهدتها، تلبية لداعي نُصرة الإسلام. اكتشفتم أنه لولا عداء الغرب وفي القلب منه أمريكا، للاتحاد السوفيتي ما حُورب الاستبداد الأفغاني!

أدركتم حلمكم وحلم غيركم، وآن لكم أن تحلموا لبلادكم! ظننتم أن الغرب له قلب كالقلوب! ظننتم أن الغرب له ضمير كالضمائر! ظننتم أن الغرب له شرف! غير أن الظن سرعان ما خاب وبدا الغرب عارياً إلا من الغدر! طُوردتم وطُورد حلمكم!

لم يتبق في أيديكم سوى "قوة الضعف"! قلتم: ما جدوى الحياة حين تُغتال الأحلام! فجرتم بأجسادكم المُعذبة أجساداً بريئة كأجسادكم! أبناء حضارتكم غسلوا أيديهم من صرختكم، بينما يستقبلون ربيعاً يؤكد نجاحها في فك شفرة "دولة العسكر"!

الفصل الخامس

رحلتي مع أدونيس(*)

بقلم: نجيب سرور

"ولذلك قررت ـ منذ عدت للكتابة ـ أن أقول

ما أريد وقتما أريد وأينما أريد ولو في إمساكية

شهر رمضان وليأت الوقت أو لا يأتي سيان!"

ن.س

تنويه:

في أعداد سابقة من "الكاتب" رأينا نموذجاً من دواوين الشعر التي تهيلها المطابع على الساحة العربية تحت شعارات ورايات التجديد والغضب والتمرد والثورة الخ .. وذلك من خلال ديوان "شهادة البكاء في زمن الضحك" لعفيفي مطر. وهنا نتعرف على بعض المنطلقات الفكرية التي تصدر عنها تلك الموجه بالرغم من إصرار ركابها الأصليين والتابعين على التبرؤ من كل فكر وادعائهم التجاوز والتجرد والتعالي! وسنأخذ نموذجاً لذلك كتاب "الثابت والمتحول" لأدونيس وهو رسالة قُدمت إلى معهد الآداب الشرقية في جامعة القديس يوسف ببيروت لنيل الدكتوراه في الأدب العربي! .. ويعتبر المانفيستو الذي يدين به عدد كبير من الشعراء والنقاد العرب الناشئين والشباب أتباع موجة "التجديد" وإن كنت أؤكد أن أغلبهم اكتفى بقراءة شعر أدونيس دون أفكاره "التنظيرية" وأن القلة القليلة لم تقرأ تنظيراته قراءة جادة متأنية أو قرأتها ولم تحسن فهمها ولم تحاول أن تقرن بين تنظيراته وتطبيقاته الشعرية من خلال دواوينه التي تعمل أجهزة الطبع والنشر والتوزيع على فرضها فرضاً على القارئ العربي أسوة بساعات "ستيزن" و"سفن أب" وسائر المعبآت والمعلبات! .. ولقد قيل لي ليس هذا وقت هذه المحاورة ولا مكانها، ويبدو أن الوقت المناسب لأي شيء والمكان المناسب لأي شيء لا وجود لهما على الإطلاق .. ولذلك قررت ـ منذ عدت للكتابة ـ أن أقول ما أريد وقتما أريد وأينما أريد ولو في إمساكية شهر رمضان وليأت الوقت أو لا يأتي سيان!

الجزء الأول: بروتوكولات الثوابت والمتحولات!

مقدمة تبشيرية: بحثت عن الشاعر أدونيس طويلاً بين دمشق وبيروت، وأخيراً دلني البعض على صالونه الوردي الوثير والجميل، وقد كدت أن أستعير الاسم الأسطوري "حوريس" على وزن "أدونيس" تيمناً بشاعرنا وجرياً على سنته وسنة المشاهير، ولكني عدلت عن ذلك لأسباب خاصة جداً أقلها التواضع! .. والمهم أنني ما كدت أصل إلى باب الصالون الوردي حتى أعطوني نشرة سرية قالوا أنهم لا يسمحون بالدخول إلا لمن يقرأها .. وإذا هي مقدمة كتبها الدكتور بولس نويا اليسوعي لكتاب "الثابت والمتحول"، توحي وتبشر بالكثير من الاحتمالات! وسنعود إليها مراراً في هذه المحاورة! .. وبادئ ذي أحب أن ألفت النظر إلى أن اليسوعية هي فرقة من الفرق الباطنية في المسيحية أسوة بالفرق الباطنية في الإسلام .. وسنكتشف أن لهذه الحقيقة أهمية كبرى في تبيان بواعث وأهداف بحث أدونيس في "الإتباع والإبداع" عند العرب، ومنهج ومقدمات ونتائج هذا البحث، ودوافعه القريبة والبعيدة والخفية والظاهرة والصريحة والمقنعة، خاصة وأن هناك كثيرين من البسطاء والسذج والمتواطئين في وطننا العربي ما يزالون يصرون على التفرقة بين الثالوث الجهنمي الماسونية ـ الصهيونية ـ اليهودية الأمر الذي كشفه وفضحه تفصيلاً أبو العلاء المعري منذ أكثر من ألف عام .. وربي اهد قومي فإنهم لا يعلمون! ..

والمهم أن الأب اليسوعي يصرح بفخر بأن تلميذه أدونيس قد حقق ببحثه هذا حلماً حلم به مرتين في شبابه! الأولى: "عندما قرأت كتاب الكاتب الفرنسي هنري بريمون عن الشعر المحض فتساءلت: هل يوجد شيء من ذلك في الشعر العربي، وكيف يمكن بحث هذا الموضوع بالنسبة إلى الشعراء العرب؟!" .. والثانية: "عندما قرأت تجليات الفكر ـ لهيجل ـ ..... فتساءلت: ماذا يا ترى سيكون كتاب عنوانه: تجليات الفكر العربي الإسلامي عبر تاريخه؟ وما طريقة كتابته؟ وهل يمكن أن نفهم شيئاً من التاريخ العربي الإسلامي إذا لم يكتب هذا الكتاب؟!

ومنذ السطور الأولى يسجل الأب اليسوعي لقاءه بالمستشرق "ماسينيون" وكيف غير هذا اللقاء مجرى حياته فترك الشعر وانصرف إلى التصوف والصوفية! .. والمعروف أن ماسينيون بالذات يفسر التاريخ عامة وتاريخ الفكر العربي والأدب العربي تفسيراً باطنياً! .. ولكن الذي يجب أن يُعرف منذ الآن هو أن جميع الفرق الباطنية في جميع المذاهب والأديان والملل والنحل بما في ذلك الفرق الصوفية هي محض أقنعة للثالوث الجهنمي الأخطبوطي الماسونية ـ الصهيونية ـ واليهودية! .. ولكن من يقرأ ومن يسمع؟! ما علينا! ..

الشعر المحض إذن هو ما حلم به الأب المحترم، والبحث عنه في الشعر العربي هو ما أخذه التلميذ "أدونيس" على عاتقه! .. الشعر ـ الشعر للشعر، في مقابل الشعر ـ الشعر للغير .. أو بتعبير الأب بولس: "الأنا الذات للذات، والأنا الذات للغير، أو الوعي الذاتي للذات والوعي الذاتي للعالم؟!"

فهل يمكن أن يكون هناك شعر محض؟!

وما يسمى كذلك اصطلاحاً أو مغالطة لدى دعاته ومنظريه وأنصاره هل هو فعلاً كذلك؟!

وهل يمكن أن تكون الأنا الذات للذات فحسب ولا صلة لها بالعالم؟

ثم هل يمكن أن تكون الأنا الذات للغير فحسب ولا صلة لها بالذات؟

وهل يمكن أن يكون هناك وعي ذاتي للذات في مقابل وعي ذاتي أيضا للعالم؟ .. وأين يذهب إذن الوعي الموضوعي لكل من الذات والعالم؟!

وهل ما سوف يكتشفه أدونيس في رحلته ـ مع الأب ـ من نماذج أو بوادر أو ظواهر أو استثناءات ـ كما نتوقع أو لا نتوقع ـ تؤكد وجود هذا النوع من الشعر في الأدب العربي كان فعلاً كذلك أم كان قريباً منه أم كان على العكس، أم أن الرؤية قد غامت أمام أدونيس فلم ير غير ما يصر أستاذه على أن يراه في التراث العربي الإسلامي؟!

إن الأب بولس اليسوعي يؤكد في مقدمته أن أدونيس وصل في ذلك إلى نتائج يعتبرها هو نهائية! في دراسة الشعر العربي. وهذا ـ مؤقتاً ـ أمر باعث على الطمأنينة والأمل في وقت يكاد يخنقنا فيه القنوط الثقافي والفكري والنقدي بحيث يراودنا ويلح علينا الانتحار لولا تمسكنا بالأمل في رحمة الله! ..
إن كانت الأحبار تعظم سبتها
فأخ البصيرة كل يوم مسبتُ

المهم أن أدونيس سيأخذ على عاتقه ـ بعد انجاز الرسالة ـ مهمة التبشير بالشعر المحض .. بالشعر للشعر، وأن الأب بولس داعي الدعاة يأمل في أن يضوي تحت جناح أدونيس جيل كامل من الشبان، وذلك حين يقول بالحرف:

"ولهذا أستطيع أن أقول إن معظم فصول أطروحتك إن لم يكن كل فصل منها يمكن أن يصبح منطلقاً لأبحاث أرجو أن يتفرغ لها كثير من الشباب تحت إشرافك وموجهين بتوجيهات منك. هذا فيما يخص صلب الأطروحة"!!

وقد حدث هذا فعلاً وتحقق رجاء الأب بولس في كل أنحاء الوطن العربي، وقامت الأجهزة غير الملوثة بدورها على أتم وجه ـ أقول غير الملوثة ـ وتحت وطأة التكرار والإلحاح والانتشار على طريقة "تعالى إلى حيث النكهة" اعتاد الكثيرون من الناشئين وأنصاف الموهوبين التدخين ليذهبوا إلى حيث النكهة حتى ولو لم يكن "نكهة" على الإطلاق، وكثر الأتباع والمريدون من الشعراء والنقاد .. ولا داعي لذكر الأسماء، حتى وصلنا إلى الشعر ـ الكهانة، أو انكهانة ـ الشعر على يدي الكاهن الصغير عفيفي مطر فيما سبق أن كتبناه بالأعداد السابقة من الكاتب(1)!!

والمبهج حقاً أن الأجهزة المشار إليها قد نشطت بشكل ملحوظ قبل وقبيل وإبان وبعد المتغيرات التى طرأت على الوطن العربي في الآونة الأخيرة، وقلبت كل شيء رأساً على عقب، وجعلت المتحولات ثوابت والثوابت متحولات وزرعت وطننا العربي بالمستوطنات الفكرية والنظرية والفلسفية والشعرية والنثرية والثقافية بعامة مما جعلنا ـ بحق ـ نعيش في عصر المبادرات الفكرية الشجاعة، في الوقت الذي تمت أو تتم فيه المصادرة على أفكار "الخونة" و"العملاء" و"الأبواق" و"الأتباع" وتتم فيه تصفيتهم حتى البدنية تأسيساً وتأصيلاً للديمقراطية وتمهيداً لسيادة القانون والحب والإخاء والأمن والسلام في ربوع الوطن العربي! ولكن هذا موضوع آخر يضيق النطاق عن الخوض فيه!

النقطة الهامة الثانية خاصة بمنهج البحث .. وواضح أن أدونيس سيلزم ـ بتحريض أستاذه ـ المنهج الهيجلي .. منهج المثالية الجدلية!!

والنقطة الثالثة في خلاف مفتعل بين الأستاذ والتلميذ حول دور الرؤيا الدينية في تغلب الإتباع في الشعر أو تسلط الذهنية الجاهلية على العالم العربي ـ بعد الإسلام ـ يقول الأب:

"لكن ربما لم تتوصل هذه الرؤيا(الصحيح هو الرؤية ـ ن.س) إلى فرض ما فرضته إلا لأنها صادفت في بنية الفكر العربي ما ساعدها على تحقيق ما حققته"! .. ولنا هنا بالذات وقفات!

الأب المحترم يسوق مسألة الرؤية الدينية هذه كمسلمة مع أنها محل جدل طويل، وسيأخذها التلميذ أدونيس كمسلمة المسلمات في رسالته أو بحثه أو كتابه، وذلك دون أن يفهم منها شيئاً إذا افترضنا حسن النية أو رغم فهمه لها إذا افترضنا التواطؤ!

الأب المحترم لا يطمع في مجرد إثبات "دور" الرؤية الدينية في تغلب الإتباع في التراث العربي، وإنما يتجاوز ذلك للطموح إلى إثبات أن السر كامن في بنية الفكر العربي .. أي طبيعة العقل العربي!

الأب المحترم يركز على وجه واحد من التراث العربي ويصر على عدم وضع الوجه الآخر ـ النقيض ـ في الحساب وذلك ليؤكد الطبيعة الغيبية في البنية الذهنية العربية .. مع أن للوجه الآخر رصيدا غنيا من المعارك والصراعات العلنية والسرية يعلمها الأب المحترم جيدا كما يعلمها ماسينيون، ورصيداً لا يحصى من الشهداء!

الأب المحترم يركز أيضاً على الوجه "الرسمي" للتراث العربي والأيديولوجيات العربية .. أي الوجه المرتبط بالسلطة علنياً أيضاً أو سرياً ـ فلكل سلطة فرقها وتنظيماتها السرية ـ بما في ذلك الفرق الصوفية ومع ذلك فقد كانت هناك دائما الفرق والتنظيمات غير الرسمية والحرب سجال كما يقولون!

كل ما سبق يفشي اعتقاد الأب المحترم بالفرق النوعي بين العقل العربي من ناحية والعقل غير العربي من ناحية أخرى، وهو الأمر الذي يذكرنا برينان كما يذكرنا بيونج وعلم السلالات والأجناس البرجوازي العنصري، مما يوحي بميول عنصرية كامنة في وعي أو لاوعي الأب اليسوعي الصوفي!

سنرى كيف أن الأب المحترم يحاول في الظاهر أن ينتشل العقل العربي من الغيبية ليدفع به إلى غيبية أشد وأنكي خاصة إذا كانت الغيبية كامنة في بنية العقل العربي كقدر لا راد له!

هل كان العقل العربي غيبيا دائما فيما قبل الجاهلية وفي الجاهلية وفيما بعد الجاهلية؟! وهل يمكن تصور هذا؟ إن هذا ما تفضي إليه منطقيا مقدمات الأب المحترم!

هل خلا الفكر غير العربي يوما من الغيبية ـ من أقدم العصور حتى كتابة هذه السطور ـ مما يقوم دليلاً على تأصل البنية الغيبية فيه أسوة بالعقل العربي؟! إننا نعيش في القرن العشرين، ولكن ما أحفل هذا القرن بالمذاهب والفلسفات الغيبية بل لعله يفوق الجاهلية والعصور الوسطى في هذا المجال! دون أن يعني ذلك أن العقل غير العربي ذو بنية غيبية أو دينية!

على أن أخطر ما تضمنته المقدمة ـ وسنعود إليها كلما دعت الحاجة ـ هو قول الأب لتلميذه:

"ذكرت في الأطروحة أن التراث هو بمثابة الأب، ونحن نعلم منذ فرويد أن الابن لا يستطيع أن يكتسب حريته ويحقق شخصيته إلا إذا قتل أباه! .. على الإنسان العربي أن يميت تراث الماضي في صورة الأب لكي يستعيده في صورة الابن! حينئذ دون أن يخرج على دينه سيخلق تراثاً جديداً وحضارة جديدة يكونان تراث الحرية وحضارتها".

هذا يؤكد ما سبق أن قلناه من أن الأب المحترم يعتبر التراث العربي وحيد الجانب، مع أنه يعلم جيداً أن الأمر ليس كذلك، وأنه يتعمد أن يطمس الجانب الآخر ويحرض ابنه أو تلميذه أدونيس وأمثاله من الأبناء والتلاميذ ومريديهم وأتباعهم على أن يتولوا عنه هذه المهمة التنويرية التبشيرية الحضارية! .. إذن فهدف الأب ليس قتل التحفظات ـ لهان الأمر عليه وعلى أدونيس وعلينا، وإنما الهدف هو طمس وقتل وإحراق ودفن ونسيان الوجه الايجابي بالذات وهو الأمل الذي حلم به مرتين وترك لأدونيس أمر تحقيقه .. هو وأمثاله في جميع أرجاء الوطن العربي الكبير والحسير والمنكوب دائماً بأنواع ديدانيه من مثقفيه .. وخاصة من الشعراء!!

علي أننا لا نذهب حتى إلى القول بطمس وقتل وإحراق ودفن ونسيان الوجه السلبي للتراث العربي، فمهما كان من أمر هذا الوجه، ومهما كانت ملامحه بشعة وغيبية ومقززة ومخجلة، إلا أنه يظل الوجه الآخر لتراثنا، ويظل جزءا لا يتجزأ من محصلة هذا التراث، ويظل تقييمه موضوعيا وعلميا أمرا ضروريا لفهم الوجه الايجابي ذاته بطريق المقابلة والمقارنة، ويظل ضروريا لرصد مسارات الصراعات الفكرية على مر عصور هذا الصراع، وهذا يفيدنا كثيرا بالطبع في فهم الصراعات غير الفكرية على الساحات المتغيرة للتاريخ مما يلقي الضوء الكاشف على الصراعات الحاضرة أو المعاصرة في جميع الساحات، ومما يساعدنا على الوعي بذاتنا الوطنية والقومية، ومما هو ضروري ولا بديل له لإمكان فهم شخصيتنا واكتساب حريتنا، ومما ينير أمامنا وأمام أجيالنا اللاحقة الطريق إلى المستقبل ويجعلها قادرة على انجاز مهامها المعاصرة والقيام بمسئولياتها في المستقبلين القريب والبعيد!

أنظروا إلى الدعوة السوداء التي يوجهها الأب المحترم إلى الأبناء لكي يقتلوا آبائهم بأن يدوسوا تراثهم .. تراث الماضي .. محتجا بفرويد بالذات .. أي بالانشطار الثلاثي على الذات الفردية والوطنية والقومية!

وعلى الصعيدين الوطني والقومي نتساءل: كيف يمكن أن يكون قتل أو موت تراث الماضي، هذا التراث الذي هو ـ بسلبياته وإيجابياته معا ـ جزء لتحقيق الشخصية وبالتالي لإمكان اكتساب الحرية .. أقول كيف يمكن أن يكون قتل أو موت هذا التراث ضرورة وشرطاً لاكتساب الحرية وتحقيق الشخصية؟!

ثم على الصعيد الفردي أو الذاتي البحت، كيف يمكن أن يكون الانشطار على الذات بين الأنا الأعلى والأنا والهو ـ ثالوث فرويد الهرمي ـ ضرورة وشرطا لاكتساب الحرية، وتحقيق الشخصية؟! وأية حرية وأية شخصية تلك التي يمكن أن تكسبها أو تحققها ذات هرمية ممزقة تتنازعها قوى ودوافع تفوق قوى الغرائز وتفوق القوى الغيبية ولا راد لها ولا إمكان للتحكم فيها؟! وما عساه يكون فقدان الحرية وانعدام أو تمزق أو تبعثر الذات والحرية والشخصية إذا لم يكن هو بعينه ما يذهب إليه الأب المحترم ويحرض تلميذه وتلاميذ تلاميذه على الذهاب إليه؟!

وإذا افترضنا أن التلاميذ قاموا فعلا بقتل تراث الماضي في صورة الآباء .. فماذا يمكنهم أن يستعيدوا في صورة الأبناء؟! إن الاستعادة في ذاتها تعني الرجوع إلى الماضي .. إلى التراث .. إلى الآباء! .. فكيف يمكن استعادة شيء ثم قتله؟! إن الأب المحترم لا يقصد هذا ويبدو أن مرد اللبس أو التناقض هنا إلى عدم التوفيق في التعبير! فهل يقصد ـ وفقه الله ـ استعادة المستقبل؟ إذن فهو يهذي! .. ولكن الأب المحترم ـ رغم ذلك ـ ينصح الأبناء بقطع صلاتهم بالآباء .. بتراث الماضي كله .. الأرض والعرض والتاريخ الخ ليبدأ منذ الآن في خلق تراث جديد تماما وحضارة جديدة تماما ستكون هي تراث الحرية وحضارتها!

ولكن ما عساه يكون هذا التراث المقطوع الصلات بتراث الماضي والمبتور الجذور؟! وكيف يمكن أن يكون هذا التراث ـ تراث الأبناء والحاضر ـ تراثا قبل أن يصبح ماضيا ويتم تجاوزه أو قبل أن يلحق بجذوره وأصوله ومنابعه، وكيف يمكن لهذا التراث أن يكون تراث الحرية وحضارتها؟

يعني هذا أن الأب المحترم يعتقد أو يريدنا أن نعتقد بأن التراث العربي كله هو تراث العبودية والتخلف الحضاري إن لم يكن تراث البربرية والهمجية؟ ثم ألا يكون هذا تأصيلا للعبودية وللتخلف الحضاري في التراث العربي وبالتالي في النفس والعقل والشخصية العربية؟! وهذا كله ألا يكون تأصيلا وتعميقا ـ بطريق غير مباشر ـ للجانب السلبي في التراث العربي .. أي للغيبية ذاتها التي يخلعها على هذا التراث وينعاها عليه؟!

إن الأب المحترم يلبس مسوح الاتهام والإدانة للغيبية التي يخلعها هو نفسه على التراث العربي لكي يلعب دور الحريص على الشخصية العربية .. والعقل العربي .. والحرية .. والحضارة .. والعقلانية .. بحيث يبدو في الظاهر أنه ضد الغيبية! ولكنه في الواقع لا يحرض على شيء كما يحرض على تأكيد وتثبيت هذه الغيبية ذاتها ما أمكن، مما يفشي أنه ضد الجانب العقلاني والتحرري والحضاري بالذات وبالتالي لا اعتراض له على الغيبية! فهو يقول لتلميذه: "حينئذ دون أن يخرج على دينه(يقصد الإنسان العربي ـ ن.س) سيخلق تراثاً جديداً وحضارة يكونان تراث الحرية وحضارتها"!

والمطلوب هو لفت نظر القارئ إلى الجملة الاعتراضية "دون أن يخرج على دينه"!! مما يعني حرصه على الدين، أي على النظرة الغيبية للذات وللعالم! أي أنه يسمح بأن يظل الدين .. الغيبية .. من دون التراث العربي عامة أحد ضرورات الحرية والحضارة تلك التي سيبدأ في خلقها أبناء الحاضر وبقدرة قادر ومن الفراغ وفي حالة من انعدام الوزن تماما، وأن يظل الدين ـ دون التراث العربي عامة أحد مكونات الشخصية العربية، أما ما عدا ذلك ممنوع بأمر هيجل وماسينيون ورينان وفرويد ويونج وما يستجد!

قبل هذا مباشرة كان الأب قد أخذ مع تلميذه ـ على الإنسان العربي أنه "انتهى إلى الشعور بأن لغته ودينه وكيانه القومي وحدة لا تتجزأ". وهذا يعني ـ بمفهوم المخالفة أنه يعتبر تلك العناصر قابلة للتجزئة والاستبعاد والجمع والطرح والضرب والقسمة! .. ونحن مثله نحرص على الدين، ولأسباب لادينية كما يفعل هو وان اختلفت الأسباب بيننا وبينه! .. إننا نحرص على الدين لا حرصاً على الغيبية ـ كما يفعل ـ وإنما باعتباره أولا وأخيرا وشئنا أو لم نشأ أحد مكونات التراث العربي .. وجزءا لا يتجزأ من محصلة هذا التراث بوجهيها السلبي والايجابي، وبالتالي جزءا من الكيان القومي لا يمكن تجاهله، ولا يمكن بدونه مواصلة السير على طريق اكتساب الحرية وتحقيق التقدم الحضاري. كما يستحيل فهم كياننا القومي دون وضعه في الحساب!

ولكن الأب يستبقي الدين وحده من مكونات الكيان القومي، فهل معنى هذا أنه يستبعد اللغة من هذه المكونات؟!

هل يبقى الاعتراض إذن على اللغة العربية بالذات؟! أم على التراث العربي منذ ظهور الإسلام وسيادة اللغة العربية؟! إن اللغة العربية لم تصل إلى الصورة التي عرفها عصر ظهور الإسلام إلا عبر تغيرات وتطورات لا قبل لأحد بحصرها أو تتبعها، وقبل ظهور الإسلام وسيادة العربية بالصورة التي وصلتنا .. ألم تكن هناك لغات ولغات نبعت منها العربية ثم سادت؟! ألم تكن هناك حضارات وحضارات؟! وبالتالي ألم يكن ثمة عقل عربي؟! وهل كان هذا العقل غيبيا أيضا ومتدينا بحكم طبيعة البنية الذهنية العربية أو بحكم نقصها الطبيعي؟! ألم تكشف الأدلة والحفريات عن أنه كان للحضارات البائدة في الجاهلية الأولى أو الثانية أو ما شئتم أو فيما قبل الحضارات البائدة وجه آخر غير عقلاني وغير غيبي ينسف المقولة المفتراه .. مقولة النقص في الذهنية العربية؟!

إن هذا يصدق أيضا على اللغة العربية والعقل العربي منذ ظهور الإسلام حتى كتابة هذه السطور عبر العصور الوسطى؟ ومن أين اتخذت نهاية العصور الوسطى في أوروبا بذور وثمار الاتجاه العقلاني والعلمي إن لم تكن قد أخذتها عن التراث العربي ومن اللغة العربية؟! ولماذا لا يكون سبب الغيبية التي سادت مجمل تراث أوروبا في العصور الوسطى راجعا إلى طبيعة البنية الذهنية الغربية أو إلى نقص في هذه البنية بنفس المقياس وأسوة بالذهنية العربية؟! ولماذا لا ينسحب نفس الحكم على الذهنية اليونانية التي يحفل تراثها بما لا يحصى من المذاهب والفلسفات الغيبية؟ بل لماذا لا نسحب نفس الحكم على الذهنية الغربية المعاصرة وهي أكثر ازدحاماً بالمذاهب والفلسفات الغيبية من أية ذهنية في أي عصر من عصور البشرية؟!

ويقول الأب:

"فالأديب الذي يريد أن يستعيد تجربة السلف، مقلد لا غير وهو بدلاً من أن يجعل الماضي حاضراً في الحاضر، يرجع الحاضر إلى الماضي، ولا يخلق جديداً"

يجب إذن في رأي الأب الجليل ألا نستعيد تجربة السلف ـ وهذا وجوب ساقه هنا على إطلاق ـ وذلك لكي نكون مجددين ونخلق الجديد! هذا بدافع الحرص على نهضتنا المنشودة.

ويجب أيضا ألا نعتقد أن لغتنا وديننا وكياننا القومي وحدة لا تتجزأ الأمر الذي يدفعنا إلى أن نستعيد تجربة السلف ـ وإنما علينا أن نعتقد بأن هذه الوحدة قابلة للتجزئة .. وواجبة التجزئة .. وهذا ـ طبعاً ـ بدافع الحرص على كياننا القومي!

ويجب أخيرا أن نميت تراثنا ـ تراث الماضي ـ تجربة السلف ـ آباءنا .. وعلى طريقة فرويد بالذات ـ بدافع الحرص على الأبناء. أي لكي نكتسب حريتنا ونحقق شخصيتنا ونبني حضارتنا!

هذا طبعا إذا صح أن الإتباع والتقليد والثبات هي الخصائص الغالبة في التراث العربي الجاهلي والإسلامي.

والأب بولس إذ يوافق تلميذه على أن "الرؤيا الدينية" هي ـ السبب الأصلي في تغلب المنحنى الثبوتي على المنحنى التحولي في الشعر أو بعبارة أخرى "ان النظام الشامل الذي خلقه الدين كان العامل الأساسي" فإنه وهو ذكي يتساءل "إذا لم تكن هناك عوامل أخرى مهمة لعبت دورها في تسلط الذهنية الجاهلية على العالم العربي أو بعبارة أدق في استرجاع الإسلام للجاهلية بعد أن ألغاها" .. وهذا التساؤل البريء فيما يبدو يمهد الطريق أمامه إلى الميل العنصري ـ الفرق بين في بنية الفكر العربي وبنية الفكر غير العربي .. ولذلك ليس من قبيل المصادفة أن يلجأ هنا إلى يونج بالذات ـ بعد فرويد ـ! يونج يعطيه الكثير في قضية السلالات البشرية!

الأب الفاضل إذن يوافق على مسألة الرؤيا الدينية ولكنه يردها إلى باعث عنصري! .. أما أن يفقد العربي المعاصر دينه أو لا يفقده ذلك الاستدراك الذي يورده في الطريق الأخير بين في المقدمة بقوله: "دون أن يخرج عن دينه" فمسألة ثانوية لدى الأب اليسوعي .. مما يعني أن الأب لا تهمه ـ في الواقع ـ سيادة أو عدم سيادة الرؤيا الدينية في التراث العربي .. تلك التي تشكل عصب دراسة أدونيس! .. مما يوقع الأب بولس في تناقض ظاهر مع نفسه ومع تلميذه! إذن ما الذي يهمه؟!

وهكذا .. حدد الأستاذ للتلميذ منهج البحث .. وحدد له مجالاته .. حدد له مقدما النتائج المرجوه .. وحدد له الأهداف .. ولكنه أخفى الهدف الحقيقي من هذا كله ألا وهو قتل التراث العربي! .. وأحب قبل أن اترك المقدمة أن أسجل بأنني أيضا لست معنيا بالدين بالمعنى الميتافيزيقي وإنما أنا معني به بالمعنى الأنثروبولوجي .. ويكون واحدا من الأبنية الفوقية في أي مجتمع! وهنا أذكر بيتاً لأبي العلاء المعري
تنام أعين قوم عن ذخائرهم
والطالبون أذاهم ما ينامونا

فهل نامت أعيننا عن تراثنا .. عن ذخائرنا؟! نعم .. وطويلا!
ومن هم هؤلاء الذين لا ينامون عن تراثنا؟!
من هم هؤلاء الطالبون أذانا؟
وهل ما زالوا ساهرين؟!
وهل ما زالوا يواصلون أذانا؟!
هذا ما أتركه للقارئ الذكي بعد الفراغ من رحلتي مع أدونيس!

الجزء الثاني: حوار تمهيدي

أدونيس: قصدت ألا أعرض في هذا البحث لمسألتين:
الأولى هي الإطار الحضاري الذي نشأ فيه الإسلام، والثانية هي البنية الاقتصادية وعلاقات الإنتاج التي سادت القرون الهجرية الثلاثة الأولى التي يشملها البحث.

أنا : الأمر إذن مقصود! .. وأنت حر فيما تقصد إليه! .. ولكن فيم البحث إذن .. وعلام؟ وما جدواه؟ .. وما قيمة النتائج التي تبنى دون وضع هاتين المسألتين في الحساب؟! ..

أدونيس: ليس من غرضي الكشف عن العناصر التي تأثر بها الإسلام إبان نشأته أو مقارنته بغيره وإنما غرضي أن أدرس الوحي الإسلامي كما تجلى في الممارسة الحياتية وفي طرق التفكير.

أنا : ولكن من المستحيل فهم الوحي الإسلامي كما تجلى في الوجهين المذكورين بدون الكشف عن العناصر المشار إليها إبان النشأة وبدون المقارنة مع الأديان السابقة للإسلام! كان يمكنك أن تفعل على الأقل كما فعل جوزي في كتابه ".................. [هكذا في الأصل]" .. ولكنك تقول أن هذا ليس من غرضك! غير أن إشارتك العابرة إلى الممارسة الحياتية تفشي إحساسك بضعف المنهج الذي اخترته لنفسك لأنها تفشي النزوع الاضطراري إلى الرجوع للحياة .. للواقع .. للظروف الموضوعية ـ تلك التي سميتها الإطار الحضاري أو تلك البنية الاقتصادية ـ مما قصدت متعمداً ألا تعرض له! ..

أدونيس: إن دراسة البنية الاقتصادية وعلاقات الإنتاج تحتاج إلى مصادر صحيحة وافية عن التنظيمات الاجتماعية والمالية والإدارية والاقتصادية وهي غير متوفرة.

أنا : إنها على العكس متوفرة .. ومتوفرة جدا وبالقدر الكافي، أما ما إذا كانت صحيحة أو غير صحيحة فهذا أمر يمكن الاختلاف فيه!

أدونيس: والمتوفر منها لا يقدم كما أرى إلا معلومات جزئية لا يمكن أن تبنى عليها أو انطلاقاً منها أحكام صحيحة.

أنا : هذا ما تراه أنت .. أو هكذا تريد للأمر أن يكون .. ولكن ترى هل يمكن أن نصل ـ بدون تلك المعلومات ـ حتى لو افترضنا انها جزئية إلى أحكام صحيحة؟! وإذا كانت المصادر المشار إليها مشكوكا في صحتها كما يبدو من كلامك ـ فالشك ـ من باب أولى ـ يجب أن يتطرق إلى كل شيء .. أي إلى ما نقله إلينا الرواة والمؤرخون فيما يختص بالممارسة الحياتية وفي طرق التفكير ـ على حد تعبيرك. وإذا كان الشك يمكن أن يتطرق إلى الأخيرين فكيف يمكن دراسة الوحي الإسلامي ثم كيف يمكن أن نثق بالنتائج المترتبة على مثل هذه الدراسة .. نتائجك؟! مع ذلك قال أستاذك الأب بولس منذ قليل انك وصلت في بحثك إلى نتائج يعتبرها نهائية! .. على العموم اعترف .. هذا أفضل لك ولنا!

أدونيس: اعترف إنني غير مهيأ علميا للقيام بمثل هذه الدراسة الاقتصادية فيما لو افترضنا توفر المصادر!

أنا: إذن هو القصد والعمد وسبق الإصرار ..

أدونيس: من هنا حصر همي في دراسة البنية الأيديولوجية الفوقية للمجتمع الإسلامي كما ظهرت ممارسة وتنظيرا بدءا من وفاة النبي ..

أنا : كيف يمكننا أن ندرس تلك البنية الفوقية دون أن نحيط علما بالمسألتين المشار إليهما؟ إن كلامك يوحي بأنك تفهم جيدا أو إلى حد ما هاتين المسألتين. وتفهم طبيعة ونوعية المنهج الذي كان عليك أن تلتزمه في البحث تماما كإبليس يعرف ربه ولكنه يتخابث على حد تعبير العامة .. ولهذا تؤثر ـ لأمر في نفسك أو في نفس يعقوب ـ أن تلتزم المنهج المثالي ـ الهيجلي ـ لتبحث في البنية الفوقية ذاتها عن البنية الفوقية .. في الفكر ذاته عن الفكر! .. وهكذا ستترى إلى مالا نهاية نتائج المنطق الشكلي العرجاء! .. قل لنا من فضلك: لماذا اخترت أن تدرس الثقافة العربية من منظور الثابت والمتحول والعلاقة بينهما؟!

أدونيس: في دراستي للحركة الشعرية والقرون الثلاثة الأخيرة ... اتضح لي أن هذه الحركة كانت في معظمها استعادة للماضي وأن القوة التي حاولت أن تبدع شيئا آخر غير ما عرفه الماضي قيل عنها انها غريبة عن التراث العربي وعن البنية الأساسية للذهنية العربية وانها تفسد الأصول العربية وهو كما نعرف القول نفسه الذي أثير حول شعر أبي تمام وهو ما نعرف أيضا النقد الذي يوجه إلى الحركة الشعرية العربية الحديثة ..

أنا : لندع أبا تمام بالذات مؤقتا .. ولندع الحركة الشعرية العربية الحديثة ـ نقدا وإبداعا ـ بالذات أيضا مؤقتا .. ولنؤجل الحديث فيما تهتم به القوى الإبداعية كما نعتبرها من غربة عن التراث العربي وإفساد له .. وأخيرا لنترك جانبا ـ ومؤقتا أيضا ـ ما اتضح لك من أن الأمر كان "استعادة للماضي" فالأمر ليس واضحا بعد لنا بدرجة وضوحه لك خاصة وانك لم تقدم الدلائل بعد .. لندع هذا كله مؤقتا فسيأتي ذكره في الوقت المناسب .. ولنقف عند إشارتك إلى "البنية الأساسية للذهنية العربية" .. لأفيق النظر إلى أن هذا ما أوحاه إليك الأب بولس نويا منذ قليل بما فيه من نزوع عنصري باد .. وأنه نفس ما كان متمنيا أن تصل إليه من بحثك لا أن تصل إلى سيادة الإتباع على الإبداع في التراث العربي كله، والأمر المشجع لك وله هو أنه إذا كان هذا ما اتضح لك من الحركة الشعرية في القرون الثلاثة الأخيرة فما بالنا بالقرون الثلاثة الأولى بعد وفاة النبي .. فيما تلا ذلك من قرون؟! هذا إذا صحت ملحوظتك عن الشعر في القرون الثلاثة الأخيرة وعن الشعر في القرون الثلاثة الأولى كما أكدت ببحثك الطويل!

ولكن أستاذك نفسه وبذكاء قد قال لك منذ قليل: ".. فالعودة إلى الماضي أو تكرار الماضي ليست ظاهرة خاصة بالعالم العربي وقد نسبتها إلى الدين وجعلته المسئول عن هذه الظاهرة. إنها ظاهرة إنسانية لو غابت لكانت نتائجها وخيمة بالنسبة إلى التوازن الذهني" .. فهو يسجل أنها ظاهرة لا ينفرد بها العربي من بين مخلوقات الله! ويسلم معك بأن الدين مسئول عنها لدى العربي وغير العربي ـ ضمنا ـ ثم هو يدرك أن من العجز تفسير الظاهرة بالظاهرة ذاتها .. فأنت وهو لا تكونان قد قلتما شيئا إذا ذهبتما إلى أن: "الدين هو سبب سيادة ظاهرة الإتباع في التراث العربي" والدين جزء من هذه الظاهرة المفترضة ـ جزء من الأبنية الفوقية ـ فكيف يكون هو نفسه سببا فيها؟ إن هذا معناه أن الأبنية الفوقية هي سبب الأبنية الفوقية، وأن الدين هو سبب الدين، وأن ظاهرة الإتباع هي سبب ظاهرة الإتباع، والفكر هو سبب الفكر .. والأرض أرض والهواء هواء والبحر بحر والسماء سماء .. وكان الله يحب المحسنين! .. ولكن خذ بالك .. إن أستاذك الذكي اليسوعي يدرك هذا كله ويريدك أن ترد المسألة إلى بنية الفكر العربي على حد تعبيره، إلى البنية الذهنية العربية على حد تعبيرك .. لا إلى الدين .. وهذا دفاع عن الدين في الظاهر، كما أنه ـ في الظاهر ـ دفاع عن الفكر العربي، خاصة وأن هذا الأخير لا ينفرد بتلك الظاهرة كما يعترف هو نفسه! ولكن هذا الدفاع عن الفكر العربي هجوم أيضا عليه .. فمن أين تأتي هذا التناقض؟! هل هذه الظاهرة تخص الفكر العربي وحده أم هي ظاهرة إنسانية عامة؟! إذا كانت الأولى فهذا يعني وجود نقص ما في الفكر العربي! وإذا كانت الثانية فهذا يعني أن الفكر العربي والفكر الإنساني سواء.

وإذا صحت الثانية فأين تذهب ظاهرة سيادة الإتباع في التراث العربي تلك التي وصلت إليها ووافقك عليها؟! وإذا صحت الأولى فأين يذهب تاريخ الفكر الإنساني الذي يؤكد شيوع تلك الظاهرة في جميع العصور باعترافه هو نفسه ؟! إما أن يعيب العقل العربي وإما أن يعيب العقل الإنساني عامة! .. وإما أن يلغي تاريخ الفكر العربي أو يلغي تاريخ الإنسانية أو يمسخ هذا أو ذاك! ولكنه يريد أن يعيب العقل العربي بالذات .. وتاريخ الفكر العربي بالذات لا بالدين. فهو أذكى من أن يقع أو يوقعك في هذا الحرج! ـ فليعبهما من ناحية التوعية .. الطبيعة .. الفطرة .. البنية .. العنصر! ـ ويونج جاهز لهذه المهمة ـ .. بهذا يكون قد احتفظ للدين كدين بكرامته وقداسته .. ويكون في نفس الوقت قد حقق غرضه أو أشبع ميوله العنصرية الكامنة الخفية وهو في الواقع ـ وبيني وبينك ـ لا يعنيه الدين في كثير أو قليل .. لا الدين المسيحي ولا الإسلامي ولا أي دين .. ولكن ما باليد حيله .. لابد من تجنب الحرج .. لهذا بدا متناقضا مع نفسه للغاية ولكن منسجم معها للغاية أيضا .. بدا مدافعا عن الدين وهو أزهد ما يكون فيه.

أدونيس: سر هذا العداء الذي يكنه العربي بعامة لكل إبداع حتى لكأنه مفطور عليه!

أنا : أنت بدأت البحث .. وانتهيت إلى "أنه" ..! ورددت كل شيء دون أن تدري ـ إلى نقص في العقل العربي، .. في البنية الذهنية العربية ـ الماضوية بتعبيرك في الفكر العربي .. في النوعية .. الطبيعة .. الفطرة ..العنصر! أنظر كم كنت "دمية" في يد أستاذك! ثم أعجب معي كيف للدمية أن تلعب بدمى أخرى في عالمنا العربي .. خاصة وانك تشير بلا تواضع إلى موقعك في الحركة الشعرية الحديثة "من حيث كتابة الشعر أو التنظير لهذه الكتابة على حد تعبيرك في ص19 .. أكمل أرجوك لا داعي لأن تستبق الحديث. من أين بدأت؟!

أدونيس: ورأيت ... أن أبدأ من البداية، فرجعت إلى الشعر الجاهلي، الأصل الأول للثقافة العربية وللرؤيا الشعرية العربية أعيد دراسته وتحليله.

أنا: ألأنه أكثر يقينية من الشعر الإسلامي؟! غير معقول ـ مؤقتا ـ فالأولى أن يكون الشعر الجاهلي أقل يقينية من الشعر الإسلامي ـ بحكم البعد الزمني ـ وهذا يقلل من أهمية الاعتماد على الشعر الجاهلي في رصد الظاهرة أو سيادة الإتباع على الإبداع!

أدونيس: إن النقد العربي القديم، ويتابعه في ذلك النقد الحديث في معظمه يقدم عنه صورة تفتقر إلى الكثير من الدقة لكن لا أقول انها صورة خاطئة.

أنا: القضية هنا ليست قضية الفرق الممكن بين صورة للشعر الجاهلي وصورة أخرى من حيث الدقة كما ينقلها النقد القديم أو الحديث. وليست قضية صورة خاطئة أو صورة غير خاطئة .. انها قضية الشعر الجاهلي كله وفي حد ذاته .. قضية وجوده .. مدى يقينية المصادر التي أقام عليها النقد القديم والحديث أحكامه أو رسم الصورة من خلالها أو اعتمادا عليها .. وبالتالي مدى إمكان الاعتماد على نفس المصادر لتصحيح الصورة وجعلها أكثر دقة في بحث طويل كبحثك! ثم أنت تصرح بأن الصورة كما يقدمها النقدان ليست دقيقة ولكنك لا تقول بأنها خاطئة .. لأن النقد يربط الشعر الجاهلي ...

أدونيس: عضويا بالقبلية وقيمها. صحيح أن هذه الصورة الغالبة لكن صحيح أيضا أنها ليست الكاملة ..
أنا: ألم تلاحظ في "صورة" الشعر الجاهلي كما أوصلها إليك النقاد القدامى والمحدثون أصداء مدنية وحضارية .. ورواسب أو بقايا أبنية فوقية قديمة سابقة بآماد زمنية طويلة على الزمن التقديري لما يسمى بالعصر الجاهلي؟! ألم تلاحظ أن تلك الأصداء والرواسب والبقايا ـ حتى الميثولوجية ـ تتجاوز القبلية وقيمها؟! ألم تضع في حسابك الحضارات البائدة؟! وإذا صح ذلك ـ وهو صحيح ـ أتكون تلك الحضارات البائدة التي تطورت قديما عن القبيلة أيضا سابقة على القبلية .. بمعنى أن القبلية التي ينسب إليها الشعر الجاهلي هي قبلية لاحقة لفناء أو انحلال تلك الحضارات أي ردة إلى القبلية تطورت بعد ذلك إلى مدنية فحضارية بعد الإسلام؟! وكيف يمكن فهم "صورة الشعر الجاهلي"! بدون وضع هذا في الحساب؟ ثم أيمكن أن نتخيل أن الشعر الجاهلي ظهر في المرحلة القبلية وحدها ولم يظهر في المراحل التي سبقتها ولا في المراحل التي سبقت تلك المراحل؟!

هنا أذكر أحمد بن عبد ربه .... "العقد الفريد"

"................................... [هكذا في الأصل]"

وهنا أذكر أيضا بلوتارك في العظماء عندما يقول:

".................................. [هكذا في الأصل]"

أنت مغرور إذن! .. فلنقتصر على الشعر الجاهلي بالصورة التي وصلتك ووصلتنا من خلال النقد القديم والحديث والتي تبدو لك يقينية المصادر بحيث يبدو لنا أن العيب كل العيب في النقد لا في الأصول .. وهذا النقد يربط ـ كما تقول ـ الشعر الجاهلي بالقبلية وقيمها .. وأن هذه الصورة الغالبة ـ وهي صحيحة في نظرك ونظرنا ـ مؤقتا ـ وإن كانت غير كاملة كما تقول أيضا .. ولكن لماذا هي ناقصة؟

أدونيس: ففي الشعر الجاهلي نفسه تجد بذورا قوية لحركة إبداعية خرجت على القبيلة وقيمها السائدة وتتمثل هذه الحركة بشعر الصعاليك خصوصا. وتشهد لها قصائد لامرئ القيس وطرفه بن العبد .. ولم تكن هذه الحركة خروجا وحسب وإنما كانت تحاول أن تطرح بديلا جديدا!

أنا : أنت إذن تبحث عن البذور لا عن الجذور .. ما علينا .. أنت حر! .. غير أن هذه البذور القوية ـ كما تقول ـ تنفي الطابع الذي تخلعه على العقلية أو الذهنية العربية .. لأنها دليل على أن العقل العربي أيضا له محاولات إبداعية .. بله حركات قوية! وهنا تختلف وتتفق مع أستاذك في وقت واحد .. وتختلف وتتفق مع نفسك أيضا في وقت واحد .. وإلا فأين تذهب مقولة "الفكر العربي" لديه ومقولة "الذهنية العربية الماضوية" لديك .. ثم بم تفسر ظاهرة سيادة الاتباعية على التراث العربي؟!

إذا كانت الذهنية العربية قد أثبتت لك قدرتها الإبداعية .. فما سببها؟! الدين مرة ثانية؟! ولكن الدين ـ في حسابك ـ لم يكن موجودا إبان الفترة التي ينسب إليها الشعر الجاهلي ومع ذلك فقد كانت تلك الحركات الإبداعية القوية مجرد استثناء من قاعدة تعنى ـ منطقيا ـ سيادة الاتباعية في الشعر الجاهلي أيضا .. فأمثال امرئ القيس وطرفة بن العبد مجرد استثناءات نادرة .. هذا يعني ـ بمفهوم المخالفة ـ أن القاعدة في الشعر الجاهلي أيضا هي سيادة ظاهرة الاتباعية! فما السبب مرة ثانية؟ الدين؟ أي دين؟ الوثنية؟! ولماذا لم تفعل الوثنية نفس الشيء في أوروبا والعالم؟ كانت هناك المسيحية أيضا في العصر الجاهلي .. فهل هي السبب؟ ولماذا لم تفعل نفس الشيء في أوروبا والعالم؟ أم اليهودية؟! وكانت موجودة أيضا في العصر الجاهلي. هل كان الإسلام سببا في سيادة الاتباعية على الشعر الجاهلي؟ هذا يبدو مضحكا.

إذن ـ مرة ثانية ـ لابد أن تعود للدوران حول محور أستاذك .. النقص في العقل العربي! وإلا فماذا يتبقى؟! ولكن صبر جميل. دعنا الآن ـ مؤقتا ـ من امرئ القيس ومن طرفه بن العبد ومن شعر الصعاليك فسوف نعاود الحديث التفصيلي في هذا كله وفي الوقت المناسب وبعد أن تفرغ من مقدماتك عن منهج البحث! والهدف منه! ولكن منهجك غير مبين لنا أن الاتباعية سادت والتراث العربي الجاهلي والإسلامي ـ وهذا ما لم يبينه ـ إلا أنه لا يفسر لنا لماذا سادت؟! إن بذور الحركات الإبداعية في أي مجال وأي ميدان وأي شيء لا تظهر إلا إذا نضجت لها شروط وظروف موضوعية .. إنها لا تظهر هكذا عفويا وتلقائيا دون سبب معقول. هناك دائما السؤال: لماذا ظهرت تلك البذور بالذات في هذا الوقت بالذات؟ وفي هذا المكان بالذات؟! لماذا لم تظهر في وقت آخر وفي مكان آخر؟ وهل سبق أن ظهرت أم لا .. الخ ..

كما أن "الخروج" على العقلية وقيمها لا يحدث لمجرد الخروج .. كما لا يحدث صدفة ـ خصوصا إذا تكرر وفي أوقات متقاربة وبأشكال متباعدة أو متطابقة، ثم إن الخروج عن القبيلة وقيمها ـ أو عن أي نظام اجتماعي ـ أو الخروج عليها قد يكون ـ في الواقع ـ انضواءا معكوسا تحت نفس القبلية وتحت قيمها وتحت النظام الاجتماعي عامة وقيمه! وقد يكون انضواء في الباطن وخروجا في الظاهر .. وقد يكون خروجا في الباطن وانضواء في الظاهر .. فما المعيار الذي يمكنا أن نميز به بين تلك الظواهر المختلفة؟! هل نرد خروج امرئ القيس على القبيلة أو طرفه إلى مزاج كل منهما .. إلى مجرد رغبتهما في الخروج والسلام؟! ثم خروج لماذا؟! ومن أجل ماذا؟ وإلى أين؟ إن الخروج كثيرا ما يكون ردة إلى القبيلة .. ولكن بصورة مقنعة (تنكرية) ثم ما هو هذا البديل الذي تشير إليه الذي كانت الحركة الإبداعية المتمثلة لديك في شعر الصعاليك وفي شعر قصائد امرئ القيس وطرفه تطرحه؟! بديل لماذا؟! للإتباع؟ وما الذي أوجب الحاجة إلى طرح البديل؟! وفي أي شيء كان البدل؟! أسئلة بريئة كما ترى وأنت مطالب في بحثك بالإجابة عليها! .. ولكنها جميعا طرق مسدودة بالنسبة إليك .. إذن إلى الخلف در ينطبق عليك قول الجلجول:
صلحت حالنا للخلف حتى
صرت أمشي إلى الوراء زقفون

كما انطبق ـ من قبل ـ على واحد من أتباعك ومريديك! وإذا كانت هذه هي حالة القادة الشعراء المنظرين فما أتعس حالة الأتباع والمريدين والدمى والسذج ممن مشوا خلفك بزقفونية تثير السخرية والإشفاق! .. ها أنت تغوص في رمال متحركة فلم يعد أمامك إلا أن تواصل الغوص حتى الخرس! أو تواصل الدوران وأنت تسير في نفس الوقت زقفونيا! قل لنا ماذا اكتشفت من وجود بذور حركة أو حركات إبداعية في الشعر الجاهلي لنراجعك فيها فيما بعد!

أدونيس: كشف لي هذا الواقع عن مبدأ رأيت أن فيه ما يمكن أن يكون منطلقا لحقائق ونتائج مهمة في دراسة الشعر العربي بل الثقافة العربية!

أنا : حقا؟! إذن ما هذا المبدأ أرجوك! إنني شديد الشوق إلى أن انطلق معك إلى تلك الحقائق والنتائج!

أدونيس: يتمثل هذا المبدأ في أن الأصل الثقافي العربي ليس واحدا بل كثير ..

أنا : هذا صحيح وإن كنت لم تكشف لنا في كتابك عن هذا الأصل أو عن هذه الأصول. وليست هناك في تاريخ الإنسانية ثقافة وحيدة الأصل .. كل الثقافات كذلك ولا تنفرد الثقافة العربية عن غيرها في هذا الأمر قديما أو حديثا! الحمد لله .. معنى هذا ضمنا أن العيب وإن كان هناك عيب ـ ليس في العقل العربي أو البنية الذهنية العربية! ومع ذلك يجب أن نصر هنا على التمييز بين ما هو عربي فعلا ـ أي أصيل ـ وما هو غير عربي ـ أي دخيل ـ وذلك لاعتبارات منهجية وأخرى قومية وأخرى لا داعي لذكرها الآن! ولكنك للأسف تسوق تعدد الأصول في الثقافة العربية كمفاجأة لك .. وتسوقه وكأنه خاصية تنفرد بها الثقافة العربية ـ وهذا غير صحيح ـ وتسوقه ضمنا باعتباره ظاهرة راجعة إلى أبنية الذهنية العربية فتعود إلى ما فرغنا منه ـ فيما كنت أظن ـ تعود للدوران! .. ولكن ماذا رأيت في هذا المبدأ؟!

أدونيس: انه يتضمن بذوراً جدلية بين القبول والرفض، الراهن والممكن، أو لنقل بين الثابت والمتحول ..

أنا : أو السلب والإيجاب! مش كده؟! .. ولكن هذا أيضا قانون الوجودية الطبيعي والاجتماعي على السواء! وهو قانون الثقافات جميعا والشعر دون استثناء! ولا تنفرد به الثقافة العربية ولا الشعر العربي ولا أي شيء! .. إن تعدد أصول الثقافة العربية لا ينفي وحدتها التفاعلية .. ووحدتها التفاعلية لا تنفي تعدد أصولها .. والوحدة هنا كالتعدد هناك يؤكدان الجدلية بين السلب والإيجاب وهذا طبيعي! ولكن ماذا بعد هذا؟

أدونيس: وقادني هذا المبدأ إلى التأكد من أن الشعر بذاته، لا يفسر تأصل الاتباعية في الحياة العربية.

أنا : أي أنك تصر ـ سلفا ـ على إسقاط الاتباعية على الشعر العربي والثقافة العربية لأن عقدة النقص في البنية الذهنية العربية كامنة هناك في أعماق اللاشعور ـ على طريقة فرويد ـ وبدلا من أن تبرهن بمعطيات الثقافة العربية الموضوعية على تأصل الاتباعية نراك تبرهن بمفهومك الذاتي للاتباعية على تأصل النقص في الثقافة العربية .. وبالتالي في البنية الذهنية العربية .. وذلك بعد المصادرة العربية على المعطيات الإبداعية! ولذلك سنؤجل الحديث عن مفهوميك للإتباع والإبداع إلى حين! والآن ماذا بعد أن صممت على أن تنتزع من الثقافة العربية الحسيرة شواهد وأدلة الاتباعية الجاهزة سلفا؟! وماذا بعد أن قادك مبدأ "تعدد أصول" الثقافة العربية إلى أن الشعر بذاته لا يفسر تلك العقدة! .. لا .. بل كيف قادك هذا المبدأ إلى هذه النتيجة وهو لا يفضي منطقيا ولا موضوعيا إليها؟! ألا يقودك إلى نفس النتيجة بنفس الطريقة ـ طريقتك ـ لو تناولت أية ثقافة من الثقافات الإنسانية القديمة والحديثة؟ أو تناولت الشعر منها فحسب بما أنه مبدأ لا تنفرد به الثقافة العربية دون سائر الثقافات كما قلنا منذ قليل؟! ثم كيف أصبح الشعر عاجزا عن تفسير تأصل الاتباعية ولماذا؟ وكيف وأين ومتى وفي أية ثقافة ـ مثلا ـ كان الشعر قادرا على تفسير هذا التأصل؟ أم أنها خصيصة في الشعر العربي بالذات أي مرة أخرى ـ ولن تكون الأخيرة ـ في الثقافة العربية وبالتالي أيضا في البنية الذهنية العربية؟! إلى متى ستظل تدور حول نفسك متخبطا بين التناقضات؟! يبدو أنك أوشكت أن تكف ..

أدونيس: وكان واضحا تبعا لذلك أنه لابد من البحث عن أسباب هذا التأصل في غير الشعر وفي غير العصر الجاهلي؟!

أنا: لابد! .. لابد من البرهنة وبأية طريقة وأية وسائل على هذا التأصل فعم ستكون رسالة الدكتوراه وعم ستكون مرتبة الشرف؟! وكيف نشغل موقع القيادة في الشعر وفي التنظير له؟! ترى هل ستغير منهجك في البحث؟! انك باعترافك غير مؤهل عمليا لهذا وبإصرارك المسبق على الإسقاط غير راغب في هذا .. أما وقد نفضت يديك من الشعر الجاهلي .. وهذه خسارة كبيرة. فلنأخذ في البحث عن الأسباب!

أدونيس: في الرؤيا الدينية الإسلامية!

أنا: ها قد عدت بنا إلى الدوران ..

أولا: إن الرؤيا الدينية الإسلامية في حاجة إلى أسباب تفسرها فكيف تصبح هي السبب الذي يفسر الكل الثقافي العربي؟!

ثانيا: إن الرؤية الدينية الإسلامية لاحقة للإسلام بينما أصول الكل الثقافي العربي سابقة عليه بأزمنة سحيقة! وقد تفسر هذه الرؤية ما بعدها ولكنها عاجزة عن تفسير ما قبلها بقدر ما هي عاجزة عن تفسير نفسها! أي انك معنى لا بالكل الثقافي العربي بل بالثقافة العربية الإسلامية فقط؟

ثالثا: أليست في البدء بالرؤيا الدينية الإسلامية .. مصادرة ضمنية على تعدد أصول الثقافة العربية ذلك الذي قلنا به منذ قليل .. وبالتالي مصادرة على الرؤيا الدينية الإسلامية ذاتها .. وعلى الكل الثقافي العربي على حد تعبيرك؟! أليس تورطا في التجزيئية؟!

أدونيس: وهذه الرؤيا غيبية وحياتية في آن، فهي نظرة شاملة للفكر والعمل، للوجود والإنسان، للدنيا والآخرة!

أنا : نعم ولكن أية رؤيا؟! وأية نظرة؟! ثم ألا نكون بذلك قد تورطنا في الغيبية؟! سأترك لك تقدير هذه التساؤلات.

أدونيس: وبما أن هذه الرؤيا لم تكن تكمله للجاهلية بل كانت تأسيسا لحياة وثقافة جديدتين وكانت بما هي تأسيس أصلا جامعا صورته الوحي ومادته الأمة ـ النظام.

أنا: أولا ـ كيف لم تكن تكملة للجاهلية؟! بأي معنى؟! هل ظهرت هكذا! فجأة دون أسباب دون ظروف دون مقدمات ودون بذور أو جذور؟! شيطاني يعني؟! ألم تظهر نتيجة تطور لتلك الأسباب والظروف والمقدمات؟

ثانيا ـ بأنها حقا نفي لما سبقها ولكنها في نفس الوقت إثبات لما سبقها فهي إذن استمرار وتكملة فيما هي ـ فرضا ـ تجاوز.

ثالثا ـ وهي تأسيس لحياة وثقافة ..... [عبارة غير واضحة في الأصل] هذا حق ولكنهما غير مقطوعي الصلة تماما ـ ولا يمكن ـ بالحياة والثقافة السابقتين عليها!

رابعا ـ والثقافة الجديدة تحمل في أحشائها جميع الرواسب الثقافية السابقة .. جميع التناقضات .. جميع الأصول .. وان كان "الكيف" الجديد مختلفا تماما عن عناصر "التأسيس" ولذلك لا يمكن للثقافة الجديدة بما هي تأسيس ـ تأسيس من ماذا؟ ـ أن تكون أصلا ..

خامسا ـ وأصلا جامعا! ان الكيف الجديد أصل لشيء جديد ولكنه ليس أصلا لنفسه. أي أن الإسلام كان للثقافة الإسلامية ـ فرضا ـ ولكنه ليس أصلا لنفسه ولا للكل الثقافي العربي!! أو الثقافة العربية.

سادسا ـ إن هذه الرؤيا الغيبية قد تفسر لنا الشعر الإسلامي مثلا وتكشف فيه عن الثابت ـ الاتباعي ـ والمتحول ـ الإبداعي ـ فرضا أقول ـ ولكنها لا تكشف عن الثابت والمتحول في الشعر الجاهلي! .. ولكن ..

أدونيس: ثبت لدى أنه لا يمكن فهم الرؤيا الشعرية العربية في معزل عن هذه الرؤية الدينية وأن الظاهرة الشعرية جزء من الكل الحضاري العربي لا يفسرها الشعر ذاته بقدر ما يفسرها المبنى الديني لهذا الكل!

أنا : أولا ـ كيف ثبت لك هذا؟!

ثانيا ـ كيف ارتبطت ـ بلا تدليل ـ الرؤيا الشعرية العربية ـ إلى هذا الحد ـ بالرؤية الدينية؟! بالقوة؟!

ثالثا ـ ماذا ستفعل هنا أكثر من استبدال تأصل الاتباعية بتأصل الرؤية الدينية لتعود مرة أخرى إلى تأصل الاتباعية فتعود مرة أخرى أيضا إلى تأصل المسألة في البنية الذهنية العربية وهكذا إلى ما لا نهاية؟!

رابعا ـ إذا كانت الظاهرة الشعرية جزءا من الكل الحضاري لا يفسرها الشعر ذاته فكيف يلزم من هذا تلك التجزيئية التي تورطت فيها منذ قليل بالفصل تماما بين الثقافة الإسلامية وبين الكل الثقافي السابق عليها .. والمصادرة على تاريخ الثقافة فيما قبل الإسلام؟ ثم كيف يلزم من هذا أن يكون المبنى الديني وحده أقدر على تفسير الظاهرة الشعرية ـ الجزئية كما تقول ـ وأقدر على تفسير الكل الحضاري والثقافي؟! أليست هذه مهزلة؟! بل فضيحة؟!

خامسا ـ انك تواصل السقوط في الدوامة الزقفونية بشكل مؤسف على الصعيدين النظري والتطبيقي! ثم انك تقول تارة بالانفصال التام بين ما قبل وما بعد الإسلام في الكل الحضاري أو الثقافي العربي ثم تعود فتقول بالوحدة في هذا الكل وتخص ما بعد الإسلام بالرؤيا الدينية ثم تعود فتعمم هذه الرؤية على ما قبل الإسلام ومنطقيا ستخص ما بعد الإسلام بالإتباع أو الابتداع ـ على كيفك ـ ثم تعمم هذا التخصيص على ما قبل الإسلام وتخص الكل الثقافي العربي بأشياء لا تخصه وحده وإنما تخص أي كل ثقافي في تاريخ الإنسانية.

أدونيس: وهكذا اكتمل لدى اليقين بأن دراسة هذا الكل الثقافي العربي هي وحدها التي تتيح لنا أن نفهم الرؤيا العربية للإنسان والعالم فنعرف موقف العرب من الشعر وغيره ومن الاتباعية والإبداعية ومن القضايا الثقافية والإنسانية بعامة!

أنا : أولا ـ كيف بعد كل هذه التنبؤات العشوائية أن يكتمل لديك أي يقين بأي شيء؟!

ثانيا ـ ها أنت توحي بأن الرؤيا الدينية هي الرؤية العربية للإنسان والعالم .. وستواصل الدوران في هذه الدائرة المغلقة!

ثالثا: أنت تفرض أن للعرب موقفا ـ خاصا ـ من الشعر وغيره ومن الاتباعية والإبداعية ومن القضايا الثقافية والإنسانية. مما يعني استمرار الدوران في الدائرة المغلقة. تأصل الاتباعية ـ فتأصل الغيبية ـ أو العكس ـ فتأصل التأصل في البنية الذهنية العربية .. في الإنسان العربي المختلف ـ كما يراد له أن يكون ـ عن سائر أجناس البشرية .. ولكن ماذا وقد فتح لك أستاذك اليسوعي أبواب العنصرية على مصراعيها .. وأمدك بيونج؟! أما الهدف من المنهج فواضح .. وأما المنهج نفسه أهذا مدى تماسكه؟! وماذا نتوقع في النظر والتطبيق؟!

أدونيس: كان منهج البحث مشكلة دقيقة وصعبة. الخط الأول العام لدقتها وصعوبتها انني لا أتناول شاعرا واحدا أو قضية مقررة وإنما أتناول ثقافة أمة بكاملها في عهدها التأسيسي وأتناول عبر ذلك شخصيتها الحضارية!

أنا : لا تنسى من فضلك أنك أسقطت منذ قليل ما سبق ذلك العهد التأسيسي المشار إليه .. أسقطت ما قبل الإسلام! فكيف يمكنك بعد ذلك أو عبر ذلك ـ بتعبيرك ـ أن تتناول الشخصية الحضارية العربية ككل أو الثقافة "الأمة" بكاملها؟! أم أنك تقصد الشخصية الحضارية الإسلامية .. والثقافة الأمة الإسلامية .. فأين تذهب حينئذ الكل الثقافي والكل الحضاري؟! ثم هل بدأت الشخصية الحضارية العربية منذ ظهور الإسلام فقط؟! وهل بدأت الأمة العربية منذ ظهوره فقط؟! كل هذا ـ كما قلت لك ـ مصادرة على التاريخ العربي كله وعلى الثقافة العربية كلها وعلى الشخصية الحضارية كلها .. ولكنك فيما يبدو لا تفهم من هذا شيئا ولا تريد أن تفهم .. أنت مصر على ما في نفس يعقوب!

أدونيس: والمظهر الثاني الخاص يتصل بالمنطق: هل أبدأ بفرضيات أضعها ثم أبحث عما يدعمها في الوقائع والأفكار؟!

أنا : هذا بالضبط ما فعلته في رسالتك!

أدونيس: أن أبدأ على العكس من هذه الوقائع والأفكار؟!

أنا : هذا ما لن تفعله أبدا!

أدونيس: ويتصل المظهر الثالث بمجال الدراسة: ما العصر أو العصور الثقافية التي سأدرسها ومن هم الأشخاص الذين سأختارهم وما مقاييس اختيارهم؟

أنا : لا مقاييس لذلك على الإطلاق ـ كما سنرى ـ ولذلك من حقك أن تختار من تشاء من "الأشخاص" وبأية مقاييس شئت! ولكننا نفرغ بعد من قضية الرؤيا الدينية! فعن أية رؤيا دينية تتحدث؟! .. إن أستاذك اليسوعي الذكي أشار لك في مقدمته إلى الفرق الباطنية في المسيحية والإسلام ولكنك لم تفهم منه شيئا! وهناك من الرؤى الدينية بقدر ما هناك من أديان .. وهناك من أديان بقدر ما هناك من فرق لها رؤى! .. هذا يصدق على العصور الإسلامية وعلى العصور السابقة على الإسلام .. الجاهلية .. وبنفس الدرجة قبل الجاهلية الأولى أو الثانية أو الثالثة أو ما شئت فكما يقول أبو العلاء:
جائز أن يكون آدم هذا
قبله آدم على إثر آدم!

أي جائز أن يكون قبل الجاهلية جاهلية على إثرها جاهلية على إثر حضارات وأديان على إثر جاهليات الخ. أقول أن تلك الفرق الدينية يهودية ومسيحية ومجوسية الخ كانت تزرع الجزيرة العربية وكانت هذه الجزيرة مكتظة بالفرق الباطنية ـ بالذات ـ وكانت بالطبع مكتظة بالفرق ـ الظاهرية ـ وكانت هناك رؤى دينية بقدر ما كان هناك من أديان وعقائد ومذاهب وكان هناك من تلك بقدر ما كان هناك من فرق ومذاهب وكان هناك من تلك بقدر ما كان هناك من فرق. والإسلام نفسه ـ قبل ظهوره بهبوط الوحي! ـ لم يكن غير واحد من هذه الفرق الباطنية أو الحركات السرية التي تقذف عند الضرورة إلى الظاهر ببعض أتباعها وتحتفظ في نفس الوقت باحتياطي سري لكمون الباطني منتظرة الفرصة المناسبة للظهور! .. وكان يدور بين تلك الفرق وبعضها البعض تناقضات وصراعات ومعارك تجري في صمت أحيانا وتتخذ شكلا دمويا أحيانا أخرى .. وكانت بينها تحالفات أحيانا واتحادات ـ فيدرالية ـ أحيانا وكان بعضها يتسلل في داخل البعض الآخر ليصفيه من داخل ويمتطيه ويقوده تحت نفس الأقنعة والرايات والشعارات! ثم ظهر الإسلام فأجبرها جميعا على الكمون إلى حين الفرصة المواتية وإن كانت قد أعلنت عن نفسها ببعض البوادر في حياة النبي ثم بعد وفاته بالذات .. ثم في عهدي أبي بكر وعمر .. ثم أعلنت عن نفسها أكثر في العصر الأموي .. ثم اكتسحت العصر العباسي بالذات وأصبحت طوفانات لا حصر لها حريصة في نفس الوقت على التنكر وراء قناع الإسلام .. والتحرك تحت رايته وشعاراته لانجاز مهامها السرية الباطنية السحيقة القدم وتحقيق أهدافها القريبة والبعيدة! مرة أخرى .. عن أي دين وفي أية رؤيا دينية من هذه الأديان ومن هذه الرؤى التي لا حصر لها .. تتحدث؟! انك أيضا واحد من الذين يركبون موجة التجديد في الشعر العربي لنسف الشعر العربي أو للسير به نحو الهاوية ولطمس التراث العربي وتحريفه ومسخه ـ وهو مش ناقص ـ وذلك تمهيدا لانجاز مهام وأهداف سنتعرف عليها من خلال تنظيراتك للثابت والمتحول في تراثنا العربي .. وهكذا أستاذك اليسوعي الذكي .. وهكذا ماسينيون! .. ما علينا الآن .. كيف حللت الصعوبة الأولى؟!

أدونيس: قررت أن أحصر دراستي في القرون التي ينعقد الإجماع على أنها تشكل مراحل التأسيس والتأصيل. وهي القرون الهجرية الثلاثة الأولى. واخترت الأشخاص أو الحركات التي ينعقد كذلك الإجماع على أنها هي التي أسست وأصلت سواء تفكيرها أو عملها.

أنا : أولا ـ انعقد إجماع من؟! ثم هو إجماع على ـ الظاهر ـ أم إجماع على الباطن؟!

ثانيا ـ تأسيس وتأصيل ماذا هذان اللذان تتوهم أنهما حدثا في القرون الهجرية الثلاثة الأولى بعد كل ما قلته لك منذ قليل؟! وهل يمكن أن تكون الرؤيا الدينية الإسلامية إسلامية خالصة بعد هذا كله أو يمكن أن تكون الرؤى الدينية التي ظهرت وتكاثرت بعد الإسلام إسلامية الظاهر والباطن معا؟! أم إسلامية الظاهر وغير إسلامية الباطن؟! أم إسلامية الباطن وغير إسلامية الظاهر؟ أم لا هذه ولا تلك؟ أم ماذا؟!

أعتقد الآن بأنني أرحتك نهائيا من قضية الرؤيا الدينية .. وإن كنت في نفس الوقت قد أتعبتك وجعلت المشكلة الدقيقة الصعبة شيئا أكثر دقة وأكثر صعوبة بل واستحالة!

ثالثا ـ ما سبق ينطبق بالحرف والحذافير على الأشخاص وعلى الحركات التي أسست وأصلت ـ في وهمك ـ وكذلك على الإجماع ذاته! ولكن لا داعي لأن نستبق الحديث! .. كيف يا ترى تجاوزت ـ فيما تتوهم ـ الصعوبة الثانية؟

أدونيس: بفعل إصراري مع تجنب الفرضيات القبلية، وانطلقت من الوقائع والأفكار كما هي وهو موقف أكد حدسي الأول من أن جدلية الرفض والقبول هي الظاهرة الأكثر طبيعية وواقعية في الثقافة وفي الحياة الاجتماعية السياسية بعامة!

أنا : واحده واحده أرجوك ..

أنت مصر ـ على العكس ـ على الفرضيات القبلية .. وأنت تنطلق من الأفكار ـ القبلية ـ لتفسر الوقائع ولا تنطلق من الوقائع لتفسر الأفكار .. أي تنطلق من مجرد حدسك الأول كبرجسون .. أي من الأفكار ـ مرة أخرى ـ مع أنه لا حدس ولا يحزنون .. وإنما هو نية مبيتة وإصرار مسبق.

ثانيا: تنطلق إلى مدى من جدلية الرفض والقبول. وأنت تحب أن تكرر كلمة الرفض بالذات! .. ولكن رفض ماذا من أجل ماذا ولماذا وأين ومتى؟! كل هذا لا يعنيك وإنما يعنيك الرفض في ذاته .. والقبول في ذاته؟! ولكن ماذا يبقى من الرفض أو القبول بعد دوامة الباطن والظاهر تلك التي دخنا معها منذ قليل؟! قد يكون الرفض الظاهري قبولا باطنيا كما قد يكون القبول الباطني رفضا ظاهريا؟ قد يكون الرفض رفضا للرفض أي قبول وهكذا إلى ما لا نهاية. بل قد لا يكون رفضا ولا قبولا لا في الظاهر ولا في الباطن؟! ثم حدسك ذاته قد يكون أو لا يكون حدسا في الظاهر أو الباطن. من يدري؟!

أدونيس: في كل مجتمع نظام يمثل قيماً ومصالح معينة لجماعات معينة ونواة لتصور نظام آخر يمثل قيما ومصالح متناقضة لجماعات أخرى مقابلة من جهة ثانية. وليس تطور المجتمع إلا الشكل الأكثر تعقيدا للصراع أو للتفاعل بين هذه الجماعات!

أنا : هذا ما لا خلاف بيننا عليه .. ولكنه يفشي تخبطك المنهجي .. إذ هنا يتداخل مع منهجك ـ المثالي ـ منهج آخر تماما دون أن تدري ورغم إصرارك على تجاهله منذ السطور الأولى لحديثك عن المنهج والهدف! .. ومع ذلك فالأمر هنا ـ وفي الثقافة العربية بالذات ـ ليس بهذه الدرجة من السهولة التي تكفي معها تلك الجمل التقريرية .. فهناك افتراض ضمني للتجانس بين الجماعات "المعينة" على جهة والجماعات "الأخرى" على الجهة المقابلة .. ولكن هذا التجانس ـ وهنا بالذات في العالم العربي ـ غير ممكن وغير متصور .. لأن لا تلك الجماعات على الجهة الأولى ولا هذه على الجهة الثانية تنتمي إلى أصل أو جنس أو سلالة واحدة! .. وإلا لكان الصراع سهلا .. ولكن كما قلنا عن تداخل وتمازج واتحاد الفرق الدينية وميلها إلى تفحص جلود وأقنعة بعضها البعض والتسلل إلى بعضها البعض وامتطاء بعضها البعض الخ ـ نجد أيضا هنا في داخل تلك الجماعات على الجهتين .. نفس الميول ففي أي اتجاه يسير التطور ولحساب من على حساب من؟ وعن الظاهر أم الباطن؟! وأي تطور وأي نظام؟!

سيكون لدينا من الأنظمة بقدر ما لدينا من عناصر عدم التجانس وسيكون لدينا من أقنعة بقدر ما لدينا من رؤى في الظاهر والباطن؟ وقد يكون لدينا نظام واحد ـ لقناع واحد ـ رغم هذا اللاتجانس اللانهائي وهذا التعدد والتكاثر الباطني .. كالأفعى تغير جلدها ولكنها لا تغير سمها أو نابها وهكذا! العقبة هي أية جماعات؟! وأي صراع؟! وأي تطور؟ وأي نظام؟ وأي تأسيس؟ وتأسيس لماذا؟! وعلى أية أسس .. لا مجرد تقريرات عامة تلغي الحدود والفروق بين التناقضات أو تذيبها أو تطمسها أو تتجاهلها .. ليست المسألة إذن مجرد تطبيق آلي أو ميكانيكي لمنهج ما .. وإنما هي الفهم السليم لجوهر المنهج وتطبيقه السليم على المعطيات والوقائع! وخصوصا على الثقافة العربية والحضارة العربية والإنسان العربي بالذات وفي ظروفنا الراهنة بالذات!

ثالثا: انك تريد ـ في الظاهر ـ أن تستأصل تلك الرؤية الغيبية أو الدينية أو ذلك المبنى الديني أو كما شئت له من أسماء .. ولكنك ـ في الواقع والباطن ـ تحاول أن تؤصل ذلك في البنية الذهنية العربية وفي الثقافة العربية وفي الكل الثقافي والحضاري العربي .. تماما كأستاذك اليسوعي الذى يبدي الكراهية للرؤية الدينية ويحرص ـ في الظاهر ـ في نفس الوقت على تعميقها ويدفعك إلى هذا ويحرضك عليه .. وتحسب أنت أن المسألة مسألة "حدس" فهل هو "وحى" هبط عليك من السماء أنت الآخر؟ انت تعرف أن الوحي انقطع منذ وفاة النبي! .. ولكن حدسك ليس في الواقع بعيدا عن "الوحى" إنه نفس الرؤيا الدينية أو المبنى الديني الخ .. وهو موجود في رأسك لا في الذهنية العربية ولا في الكل الثقافي الحضاري العربي! .. كما أن حدسك ليس ببعيد عن حدس برجسون أو من "الشعور" لديه أو من "لا شعور فرويد" ولذلك لا تخشى الكنيسة ولا تخشى الامبريالية العالمية أمثال برجسون وفرويد من الملاحدة المثاليين وهذه وتلك تعرفان وتقولان بحق ـ على حد قول بوليفرير إنهم "ليسوا سوى حملان ضالة والواقع في الغالب جدا نرى فعلا الحملان تعود إلى حظيرتها بعد أن تؤدي مهمتها"! ترجمة إسماعيل البنهاوي ص 34.

ولكن اسمح لي أن أريحك من قضية الشعر نهائيا .. الشعر الجاهلي والإسلامي على السواء! لكي أسبب لك متاعب أكثر بأن أزيد المسألة تعقيدا ودقة وحرجا وصعوبة دون قصد منى طبعا! خاصة وأنك تقول إن الصعوبة الأولى ـ تناول ثقافة أمة بكاملها لا تناول شاعر واحد أو قضية منفردة ـ لم تعد "من هذه الشرفة صعوبة بالمعنى الحضري للكلمة وإنما أصبحت تحديا يغري بالبحث ويدفع إليه! وأنت فيما يبدو مولع بالتحدي!

بمتناولك الآن فيما أرجو رسالة الغفران لأبي العلاء المعري طبعة كامل كيلاني سنة 1925 المكتبة التجارية افتحها أرجوك على الصفحة 149 واقرأ معي الحوار الذي أجراه أبو العلاء بين ابن القارح والجني المكنى بأبي هدرش!

النص:

فيقول: "لله درك يا أبا هدرش، فكيف ألسنتكم؟ أيكون فيكم عرب لا يفهمون عن الروم، وروم لا يفهمون عن العرب كما نجد في أجيال الانس؟"

فيقول: "هيهات أيها المرحوم إنا أهل ذكاء وفطن، ولابد لأحدنا أن يكون عارفا بجميع الألسن الإنسية ولنا بعد ذلك لسان لا يعرفه الأنيس"

الهوامش:

(*) على ما يبدو كان في نية المفكر المصري نجيب سرور[1932ـ1978] وضع دراسات نقدية عن بعض الشعراء العرب المحدثين، أمثال عفيفي مطر & أدونيس. نجيب نشر بعضا من هذه الدراسات في مجلة "الكاتب" القاهرية.

"رحلتي مع أدونيس" دراسة موضوعها الإتباع والإبداع عند العرب، حصلت عليها من السيدة/ ساشا كورساكوفا زوجة نجيب الروسية الوفية، أثناء إعدادي لكتاب عن نجيب، صدر عام 2009 عن المجلس الأعلى للثقافة بمصر، بعنوان: دون كيخوته المصري. عنوان الدراسة قمت بأخذه من سياق النص نفسه ..

هذا النص لم يُنشر من قبل، غير أنه ورغم مرور سنوات طويلة على كتابته، تظل أفكاره على اخضرارها. ولسوف يلاحظ القارئ افتقاد نجيب سرور لبعض المصادر التي سعى للاقتباس منها ـ ربما باستثناء رسالة الغفران لأبي العلاء المعري ـ، وهو ما يمكن تفهمه في ظل ما عاشه الرجل من اضطهاد ..

(1) نجيب سرور، شهادة الضحك في زمن البكاء!، مجلة الكاتب القاهرية، أعداد يوليو وأغسطس 1978.

الفصل السادس

ذكرى 11/9 والحشو بالديناميت

"بصراحة، يعجبني هذا الشاب ـ الأمريكي
جارد كوهين(1) ـ مع كرهي له. هو يبذر ويسقي
وينمي الشجرة حتى تثمر، ثم نقوم بقطف الثمرة
في الوقت الذي فيه أبي حنيفة يمد رجليه.."
شبكة أنا المسلم للحوار الإسلامي

لهجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 تداعيات خطيرة على مستقبل العالمين العربي والإسلامي، فقد ساهمت على نحو درامي في دفع الولايات المتحدة الأمريكية ـ مدعومة بقوى السوق الكونية الخفية ـ نحو حسم خياراتها، والعمل في اتجاه تمكين شعوبنا، خاصة جيل الانترنت(2)، من تقويض دولة العسكر[1945-2001]، بعد عقود طويلة ومريرة من حكم الإرهاب والفاشية..

أيضا، لهجمات 11 سبتمبر فضل عظيم في إقناع ـ أو بتعبير أدق ـ إجبار الإمبراطورية الأمريكية على عدم الممانعة، بل والقبول بصعود الإسلام السياسي ـ وما قد يستتبع ذلك من رجوع إلى الخلافة ـ، كبديل لدولة العسكر.

من هنا، تبرز أهمية السبتمبريين وهجماتهم غير المسبوقة في عرين الإمبراطورية الأمريكية، كونهما أحرزا نجاحا ـ مُلطخا للأسف الشديد بدماء الأبرياء ـ، في فك شفرة دولة العسكر، التي سُمح بقيامها في فضائنا العربي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وزوال الاستعمار الأوروبي، على أمل إيقاف المد الثوري "الشعبي" والحيلولة دون مُضى شعوبنا قُدما في طريق المعرفة والفضيلة.

أمريكا، وضيقو الأفق في مجتمعاتنا، لا يريدون لفهم كهذا أن يشيع عندنا!

أمريكا ترى شعوبنا محض قطعان لا يُحركها سوى خوف أو مصلحة! أمريكا تستغل بلا رحمة أن ما بداخلنا نحن العرب لا يُريد الحقائق غير المريحة!

في كتابه الخطير المعنون[العقل العربي]، وهو أحد الكتب الواجب قراءتها في البنتاجون عشية قيام إدارة جورج دبليو بوش بالتحضير لغزو العراق، يشير رفائيل باتاي إلى قناعة الرجل الأبيض، وهي صحيحة نسبيا، بقوله: "وطالما كانت من الميزات التقليدية لنفسية العربي أن ينفس غضبه بمن يحمل له الأخبار السيئة".

أمريكا تستشعر حاجتها الماسة لمحو ذكرى هجمات سبتمبر من الذهنية العربية، أو على الأقل التشويش عليها وربطها بكل ما يُخجل ويُشين! يتجلى هذا بوضوح في حرصها الشديد على مطاردة وتصفية أسامة بن لادن ورفاقه، بل وذهابها إلى حد إلقاء جثمان بن لادن في المحيط، حتى لا يُستدل له على قبر..!!

يتجلى هذا أيضا بوضوح في حرص أمريكا على تمجيد بوعزيزي، ذلك الشاب التونسي الذي فجر بحرقه لنفسه ـ يأسا ـ ثورات اللاعنف العربي في تونس أولا، ثم في غيرها من بلدان الربيع العربي! وكذلك حرص أمريكا على ألا تمر ذكرى صرخة 11/9 دون وقوع ما يصرف النظر عنها وعن التفكر في مدى عدالة غاياتها ودموية وسائلها، وكذا يصرف النظر عن حصادها غير التقليدي.

في هذا السياق يمكننا قراءة ما يحدث هذه الأيام من استفزازات مصطنعة للعالمين العربي والإسلامي، من خلال إطلاق فيلم مُسيء للنبي محمد(ص)، بعنوان "براءة المسلمين"، ومن قبله كتاب لجندي أمريكي يحكي عن مشاركته في قتل بن لادن وهو أعزل(3)! كل هذا في نفس توقيت ذكرى 11/9! أمريكا بأفعالها هذه تُمارس هوايتها في "البروباجندا السوداء"، ضاربة أكثر من عصفور بحجر!

أولا: تشتيت الانتباه والتشويش على فرص التفكر النزيه والمنظم في هجمات سبتمبر ودوافعها وما أسفرت عنه من لي ذراع أمريكا وإجبارها على القبول بتغيير قواعد اللعبة في منطقتنا، وهو ما تجسد في إعادة صياغة الإستراتيجية الأمريكية تجاه العالمين العربي والإسلامي، وتمكين الشباب والمجتمع المدني والنخب البديلة...الخ، من إحياء موات مجتمعاتهم، وإسقاط دولة العسكر.

ثانيا: تأجيج واستفزاز المشاعر الشعبية الإسلامية، ومن ثم الدفع في اتجاه إعادة اصطفاف شعوب العالمين العربي والإسلامي، بل والعالم أجمع، على أساس ثقافي، جوهره الدين! وهو ما يصب في غير صالح الأنظمة اللااسلامية المُتبقية.

ثالثا: تعميق الفجوة بين شعوب المنطقة والمُضي قُدما في شيطنة اليهود، من خلال تسريب ما يوحي بمسئوليتهم عن اقتراف مثل هذه الاستفزازات! وهو ما سيؤدي حتما إلى المزيد من التنافر بين الشعبين العربي واليهودي، ومن ثم انفراد النخب الحاكمة في المنطقة بالقرار دون الشعوب، وبقاء الآلام على ما هي عليه.

رابعا: زيادة شعبية الإسلام السياسي في العالمين العربي والإسلامي، عبر إتاحة المجال للتلاسن مع رموزه وربما أيضا تربيحهم انتصارات وهمية ـ في ظل عدم تكافؤ مخيف في القوة ـ، على حساب بقية التيارات الفكرية في الحضارة الإسلامية والتي هي أصلا والعدم سواء! وهو ما سيضر حتما ـ من وجهة النظر الأمريكية ـ بتجربة الإسلام السياسي، ويساعد على تقليم أظافرها!!

خامسا: اختبار شعبية أنظمة الحكم الإسلامية الناشئة في دول الربيع العربي ومدى قدرتها على احتواء وإدارة غضب الشارع، وفي الوقت نفسه إنعاش المد الثوري "الشعبي". فهو إما أرهقته صرخات دماء الأبرياء كما في سوريا، أو أن الخمود يراوده كما في دول أخرى كالسودان والجزائر، لم يصلها الربيع بعد.

سادسا: الدفع في اتجاه إعادة ترتيب الأوراق داخل الحياة السياسية والدينية في الولايات المتحدة، على صعيد السياسات أو الأشخاص أو كليهما! خاصة وأن انتخابات رئاسية جديدة توشك أن تجري، يواجه فيها المُرشح باراك حسين أوباما اتهامات، ربما تكون مميتة من جهة التوقيت، بموالاة أصوله والناخبين المسلمين!

أنا لا ألوم أمريكا على هذا التحريك المهين للشارعين العربي والإسلامي، فهذا أمر منطقي ومتوقع، كون مجتمعاتنا سفينة حمقى في بحر الحياة(4). خاصة من ناحية عجز أبنائها عن الخروج من دوامة المصلحة والخوف، وهو ما يُدركه الأمريكيون وغيرهم، ويراهنون عليه بثقة مستفزة في نجاح دبلوماسيتهم العامة.

ما بداخلنا لا يُريد الحقيقة،
وهذا هو مقتل ثقافتنا العاجزة عن النمو،
إن بناء الحياة ـ وكما يقول ماياكوفسكي ـ هو الأصعب!

لجارد كوهين كتاب بعنوان: أبناء الجهاد Children of Jihad، لم يجد حتى الآن من يتصدى لترجمته إلى العربية، ونشره على نطاق واسع، رغم أهميته الشديدة، ناهيك عن ارتباطه غير العادي بواقعنا المأزوم.

تحضرني في هذا السياق عبارة ذكية للمهندس أحمد ماهر أحد أبناء جيل الانترنت(أو جيل الألفية)، ومؤسس حركة شباب 6 أبريل في مصر، هذا نصها: "الشعوب تتواصل..والتجارب تتكامل". العبارة توجد في مقدمة كتبها أحمد ماهر خصيصا للنسخة العربية من هذا الكتاب: جيورج فوربريج & بافول ديميش(المحرران)، ترجمة يمنى صابر & خالد البلتاجي، عودة الديمقراطية: المجتمع المدني والتغيير الانتخابي في وسط وشرق أوروبا، (القاهرة: صندوق جيرمان مارشال بالولايات المتحدة & مؤسسة إيرست بفيينا بالنمسا & ومؤسسة سلوفاك إيد، 2011)، ص7ـ10.
كتاب يوم ليس سهلا No Easy Day، كتبه الجندي الأمريكي مات بيوسنيه، عضو فرقة الكوماندوز الأمريكية التي قتلت الراحل أسامة بن لادن، زعيم تنظيم القاعدة، في باكستان 2011، يحكي فيه أن بن لادن قُتل عند مدخل باب غرفته، وليس في سرير نومه، أو بالقرب منه، وأنه لم يكن يحمل سلاحا عندما قُتل، وأن جنديا أمريكيا جلس على جثته داخل الطائرة التي عادت إلى حاملة الطائرات.

ظهر موضوع "سفينة الحمقى" في الحقل المخيالي لعصر النهضة الأوروبية، واحتل موقعا متميزا داخله. وسفينة الحمقى هي سفينة غريبة جانحة تنساب في الأنهار الهادئة تنقل حمولتها الجنونية من مدينة إلى أخرى. لقد كان الحمقى يعيشون حياة التيه. كانت المدن تطردهم من جنباتها، ليلحقوا بالبراري حيث يتيهون على وجوههم. هذا في الحالة التي لا يُشحنون فيها مع بضائع تجار أو قافلة حجاج. وهذه ممارسة كانت سائدة خاصة في ألمانيا. للمزيد راجع: ميشيل فوكو، ترجمة سعيد بنكراد، تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، (الدار البيضاء ـ المغرب: المركز الثقافي العربي، 2006)، ص23ـ65.

الفصل السابع

زمن الفن الجميل: حين تطأ الفن أقدام الهمج!

"كان زمن صعب قوي،
الكل خاف..أنا نفسي خُفت"
أحمد رمزي(1)

أذكر أن الأستاذ سعيد فاضل ـ وهو شاب مصري شديد الحماس لثورة 25 يناير المجيدة، ومشارك قوي فيها ـ دعاني أثناء تأجج الثورة إلى أمسية أقامها زملاؤه في حركة 6 أبريل، في ميدان التحرير التاريخي، ضمن الفعاليات الثورية.

وأذكر أيضا أنني سعدت جدا بالدعوة، وحرصت على تلبيتها، خاصة عندما حدثني سعيد عن جرافيتي [رسومات أو أحرف يتم وضعها على مكان عام ظاهر مثل الجدران]، يعتزم زملاؤه في الحركة تنفيذه، تعبيرا عن ثوريتهم وأحلامهم لبلدهم، إلى جانب عرض مسرحي بسيط، على غرار ما يسميه الغربيون "مسرح الشارع" ..

في الموعد المحدد، ذهبت بصحبة الابريلي سعيد ـ كما يحلو لسعيد وصف نفسه بافتخار ـ إلى ميدان التحرير. وفي موقع الجرافيتي، هناك في أحد أركان الميدان الثائر، استقبله أصدقاؤه بترحاب وحماس. تعرفت على بعضهم، وراقني كثيرا ذلك الشلال المتدفق من ثورة الشباب، لولا وفرة من "لاوعي" تألمت لها كثيرا.

المهم، لاحظت أمام الجدارية فريقين من الشباب، انشغل أعضاء الفريق الأول في الرسم والتلوين، بينما الفريق الآخر يحمل لهم أجهزة كمبيوتر محمولة، على شاشتها يوجد نفس الرسم الذي انخرط الفريق الأول في نقله على الجدارية بنهم.

باستفساري عن الأمر، قيل لي أن رسومات الكمبيوتر المحمول والتي يتم نسخها على الجدار، هي لفنان موهوب اسمه كارلوس لاتروف(2)، عادة ما يتولى الرسم، بينما يقتصر وهو ما رأيته بنفسي دور الفنانين التشكيليين ـ هكذا يسمي شباب الرسامين أنفسهم ـ، على نسخها بصورة حرفية، لكن بأحجام تلاءم الجدار!

فور انتهاء الشباب من جداريتهم الثورية بألوانها الزاهية، رأيتهم يمطرونها بكاميرات الفيديو والمحمول وغيرها من مستحدثات العولمة، ثم بدأ العرض المسرحي، ولفتني كثيرا أنه مشحون بمرارة الشكوى من همجية دولة العسكر، أو بعبارة أدق من فساد مبارك وعصابته، وما أورثانا إياه من آلام، أقسم الشباب على محوها. الممثلون أفاضوا في وصف المشكلات والاحتياجات، وتغنوا بهما على نحو جميل وحماسي. لفتني أيضا أن "الدُف" كان يُستخدم بوفرة، إلى جانب "الدي جيه" أحيانا، خاصة في الأغنيات الثورية، وفي طليعتها أغاني "الألتراس" شديدة البهجة.

أذكر أيضا أن أحد الشباب سألني عن رأيي في العرض، فأخذت أحدثه بحماس بالغ عن ضرورة تخليد ثورتنا فنيا. بادرني الشاب قائلا: هذا عين ما نفعله، وها أنت ترى! فأجبته أن خلود العمل الفني مشروط بارتباطه بأفكار إنسانية سامية ومجردة، على نحو يتجاوز فيه المُبدع الارتباط المباشر والسهل باللحظة، على روعتها وجلالها. أخبرته أن ما رأيته في العرض ـ على عظمته وثوريته ـ محكوم حتما بالفناء، كونه مجرد شكوى وهجاء، ليس لأحداث فحسب وإنما أيضا لأسماء بعينها.

وكما هو متوقع، لم يستسغ سائلي آرائي، حتى أني أشفقت عليه من إحباط غطى وجهه، ربما لتجاوزي طراوة الانبهار والمدح إلى خشونة النقد الأنسني! خاصة وأنه بدا واضحا أن لقدرة لاتروف على التعبير عما يجيش في صدور الشباب من ثورية، صدى طيب في نفوسهم. وصفه أحدهم أمامي بأنه يرسم، وكأنه واحد منهم، يعيش بينهم. إلى هنا انتهت زيارتي إلى فعالية شباب 6 أبريل الثورية في التحرير.
والآن، وبعد أن انتهت فعاليات ثورة 25 يناير المجيدة، وبعد أن طمست يد المصلحة والخوف جدارية التحرير وغيرها ـ واللاتي هن قابلات أصلا للفناء بفعل تواضع خاماتهن ـ، وبعد أن أوشكت دولة العسكر على الزوال من الوجود، أراني أتساءل: هل كارلوس لاتروف ومسرح الشارع "الاثاري/اللاتنويري"..وغير ذلك من مظاهر إفلاسنا الفني، هل استهلاكية فنية كهذه هي حصاد زمن الفن الجميل؟!

أغلب الظن أن الأمر كذلك.."زمن الفن الجميل" محض أكذوبة كبرى من نسج بُناة الوهم، وتجرؤ وقح على المعرفة والفضيلة. إذ كيف لنبتة الفن أن تنبثق في بيئة مُلطخة بعار القهر؟!...كيف لورود الإبداع أن تتفتح في غيبة المعرفة والفضيلة ؟!

تحضرني هنا كلمات أدلى بها الفنان الراحل أحمد رمزي للتلفزيون المصري، وكان قد جاوز الثمانين من عمره، حين أخذ يحكي للمذيعة في مرارة عن زمن الفن الجميل وما صاحبه من ترويع لأهل الرأي والإبداع، وبخاصة إجبار بعض شهيرات الفن المصري على احتراف البغاء، وتصفية بعضهن أيضا، خدمة لمصر والعروبة!

ثمة شبكة شيطانية على ما يبدو، نسج حكام دولة العسكر خيوطها ببراعة، أوقعت الكثير من المفكرين ومشاهير الفن! وإلا ففيما هذا الصمت المدوي والتعامي عن هذه المخازي وغيرها، بل والاستماتة على طمس الوجه المظلم للزمن الجميل.

نجيب سرور مثلا، ذلك الفنان الأكاديمي الثائر(3)، كان ممن أخطأته شباك العسكر. من هنا تواطأ "أعداء الحياة" من غير العسكر على إذلاله وسحق آدميته!

دلوني بالله عليكم..ماذا يبقى لزمن الفن الجميل عندما نعرف من شهادة اعتماد خورشيد أن الزوج ـ أحمد خورشيد(4) ـ الذي اغتصبت زوجته جهارا وهي حامل وأجبر على أن يطلقها، ناهيك عن إجباره على أن يشهد على عقد زواجها من صلاح نصر، لم يتركه الهمج إلا بعد أن استدعوه من بيروت، وكان قد فر إليها بعاره، وسلموه عربون فيلم "الشيماء"، وأمروه بأن يظل في مصر، إعداما لمروءته.

ماذا يبقى لزمن الفن الجميل عندما نعرف أن القوادة (س.ق) ـ والتي لطالما اعتمد عليها الهمج في تجنيد حرائر مصر ـ هي مؤلفة لكتب إسلامية(منها: كتاب مساجد ودول)، وروايات تحول بعضها لأفلام سينمائية(منها: فيلم رابعة العدوية)؟!

ماذا يبقى لزمن الفن الجميل عندما تخبرنا اعتماد خورشيد في شهادتها على انحرافات صفوت الشريف، عما لقيه المبدع المصري صالح مرسي من كرم صفوت الشريف، لقاء تراجعه عن فكرة تأليف كتاب عن قصة اعتماد مع نصر وعن شهادتها في محكمة الثورة، وعما كان ينتويه من تحويل هذه القصة إلى مسلسل تليفزيوني.

اعتماد تخبرنا، بتشريح مؤلم، كيف أن الوزير صفوت الشريف ـ وقتها ـ أغدق على صالح مرسي من كرمه لطاعته، وأسند إليه كتابة أعمال مهمة من أشهر قصص الجاسوسية واختصه بكتابة سيناريوهات من ملفات المخابرات المصرية.

ماذا يبقى من الزمن الجميل وقد ترتب على هذا تعدد روائع صالح مرسي!

الحرية المسئولة هي التربة الحقيقية لانبثاق نبتة الفن

أحمد رمزي[1930-2012]: فنان مصري شهير، عاصر حكم دولة العسكر في مصر منذ قيامها في 23 يوليو 1952 وحتى سقوطها في 25 يناير 2011. رمزي وهو أحد أبرز أيقونات زمن الفن الجميل أوصى كريمته بعدم الترحيب بالتواجد الإعلامي أو تواجد زملائه الفنانين عند دفنه. (بوابة جريدة الأهرام الالكترونية، بتاريخ 29/9/2012)

كارلوس لاتروف: برازيلي من العرب اللبنانيين، ولد في 30 نوفمبر 1968، يعيش في البرازيل. لاتروف رسام كاريكاتير سياسي، ويعمل لحسابه الخاص. تهتم أعماله بمجموعة واسعة من الموضوعات، بما في ذلك مناهضة العولمة ومناهضة الرأسمالية ومناهضة الولايات المتحدة والتدخل العسكري. اشتهر برسوم له تصور الصراع العربي الإسرائيلي. وصف نفسه بالمثير للجدل.

راجع: "شهادة نجيب سرور في حق الآخر المصري"، منشورة على الانترنت.
في كتابها المعنون شاهدة على انحرافات صفوت الشريف، تعرفنا اعتماد بزوجها أحمد خورشيد بقولها: "كان زوجي أول مدير تصوير في مصر يحصل على الجائزة الأولى من أمريكا وحتى الآن وبسبب صفوت الشريف لم يكرم في بلده. فقد صور شيء من الخوف والشيماء كأول خبير ألوان والسوق السوداء الذي يُدرس حتى الآن في مناهج معهد السينما بالجيزة، وعمل أيضا بالتدريس، وفيلم صراع في الوادي أخذ جائزة التصوير وصراع في المينا والبوسطجي. وفي فيلم صراع في المينا تفوق تصوير الفيلم على الإخراج بشهادة الناقد الفني عثمان العنتبلي في جريدة الأهرام". اعتماد تضيف: "كان عام 1962 عاما سعيدا حيث حقق الأستوديو أرباحا طائلة وأصبحت قصة نجاحي معروفة لكل العاملين بالسينما"..

الفصل الثامن

فكر الغد: ثقافة اللامصلحة واللاخوف

"الربيع فصل الغرس"

بوريس باسترناك

أشعر وكأن بلدان الربيع العربي جريح يئن، وكما أن الكيان الحي يفرز أجساما مضادة لمقاومة التلوث الذي تسببه الجروح أو البكتريا، أتمنى أن يكون الفكر الأنسني هو إفراز بلداننا الحبيبة لحماية نفسها في مواجهة وعي أبنائها المهزوم..

قرأت يوما قول شكسبير ـ شعرا ـ إنه إذا المرء أطلق سهما فحدث أن غاب عن ناظريه ولم يدر له موضعا، فما عليه إلا أن يعيد الكرة مع سهم آخر، يطلقه من نفس المكان في نفس الاتجاه بنفس القوة، حتى إذا علم موضع سقوطه، وجد الأول!

ميزة كبرى يتيحها الفكر الأنسني لمجتمعاتنا وهي تمكينه رُماتها، أعني مفكريها، من إعادة الكرة من نقطة ما قبل التيه، لأنه وكما احتكم أسلافنا لما بداخلهم، واهتدوا للحقائق بضمائرهم الحرة، لزاما علينا أن نحاكي جرأتهم في طلب الحقيقة!

لا يعني هذا بالطبع أن تُمحى ذاكرتنا، فالذاكرة لا تُمحى وإنما يُعاد بناؤها..

مشكلة أبناء مجتمعاتنا أنهم يتبعون الحياة لا الحقائق، يسوقهم التاريخ ولا يسوقونه، وإلا فكيف نفسر مرض المسالمة وقد استأسد على صوت الحقيقة الأجش! وأيضا، كيف نفسر ما نستشعره جميعا من غرق ما بداخلنا ـ أعني الإنسان الداخلي، على تعبير عالم النفس الأمريكي الشهير سكينر ـ، في دوامة المصلحة والخوف.

الإنسان مؤهل لأن يُبدع الحياة باستمرار، وانه لحق على الذين يوهبون بسخاء أن يؤدوا واجباتهم بسخاء(1)! الإنسان يملك بين يديه الفانيتين القدرة على بعث الحياة!
استدامة الربيع العربي على المحك! يقلقني كثيرا أن أرى قبلات الامتنان تغطي يد الجلاد!! يقلقني أن أرى الوعي المهزوم يرفل في غلائل العزة والنصر!

يقلقني أيضا أن ما بداخلنا سجين ونحن حراسه، مدى أعمارنا القصيرة! يقلقني جهلنا بأنه كلما اسلم الإنسان قياده للحياة ابتعد حتما عن الحقائق..عن الخير!

ولمن يقول: ليست بلادنا وحدها من تقتل "ما بداخلنا/الإنسان الداخلي"، وأننا نعيش في عصر ما بعد الحداثة ـ عصر الصورة/الفيديولوجي ـ، بكل استهلاكيته.

أقول: الغربيون، وربما أبناء حضارات أخرى، قد يحتملون هذه "الموضة"، لكن مجتمعاتنا لا أظنها تتحمل! ليس لدينا صفوة فاضلة تناضل على الخطوط الأمامية للمعرفة وتوافي رعاعنا الذكية من مستخدمي مستحدثات العصر بالمعرفة والفضيلة!

ليس لدينا رصيد معرفي غير مشوش، نستعين به على الحصار الناعم المضروب! فثمة نقص يتكشف جيلا بعد جيل، وهو افتقاد شخصيتنا الحضارية لتربة صالحة لنمو الحرية المسئولة على نحو تلقائي!! وهو ما يعني تضورنا لأن نُحسن البدايات! تضورنا لأن نجاهد في تعليم نقدي يسد هذا النقص ويدرأ مخاطر استدامته.

لا نريد لتجربة الإسلام السياسي التي تعود إليها مجتمعاتنا اليوم بنهم أن تفشل، لأنها ربما تكون الفرصة الأخيرة للبقاء أمام حضارتنا ـ حضارة الضرورة العملية ـ! فشل تجربة الإسلام السياسي يصبح محتوما للأسف الشديد، إن هي لم تسمح بفك الارتباط التاريخي بينها وبين تقزيم الوعي وتغييب الحرية المسئولة! الغرب، ومن خلفه قوى السوق الكونية، يدفع بقوة وهستيرية في اتجاه تقوية هذا الارتباط المشئوم، كما وسوس ـ هو نفسه ـ من قبل في صدور حكام دولة العسكر[1945 – 2001].
تحرير الإنسان الداخلي وليس قتله هو الواجب

العبارة للرئيس الأمريكي الراحل جون كنيدي

الفصل التاسع

نحن والقرن ال21: ما بين الحقائق المريحة وغير المريحة

"الشريعة أسلوب حياة"

عبارة كتبها ناشط على جدار بميدان التحرير

الإسلام أسلوب حياة، فهو دين شامل، يغطي كل شئون الإنسان والمجتمع.

في الإسلام تصعب محاكاة ما يأتيه الغربيون[خاصة الأوروبيين] مع دياناتهم، من تمييز صارم بين ما هو ديني مقدس بمعزل عن الثقافة[كما في المسيحية]، وبين ما هو ثقافي[بحسب التعريف الانثروبولوجي للثقافة بأنها طريقة حياة].

السلفية، وكما نراها اليوم بتشظيها غير المنظم، هي رد فعل تلقائي على التلاشي التدريجي للنفوذ الإسلامي من فضاءات ثقافية، لصالح ثمار الحضارة الغربية[الليبرالية، الشيوعية، الدولة الوستفالية، ما بعد(يات) الحداثة ..الخ].

ما يعتبره الغربيون تطرفا/إرهابا هو على الأرجح السلفية في أعنف أطيافها رفضا[من الناحيتين النظرية & العملية] لكل ما ألم بكبريائنا الجريحة، على خلفية فقدان حضارتنا لاستقلالها، وتحريض ضعفها الغرب على الثأر منها.

الغرب لا يمل الثأر من حضارتنا الهرمة! الغرب، ومن خلفه قوى السوق الكونية، يُراهن اليوم[جبرا لا اختيارا] على السلفية الناعمة/اللاعنفية، سعيا ليس فقط وراء قتل غدها وغد حضارتنا، وإنما أيضا لتجفيف منابع نظيرتها الخشنة/العنفية، والتي تتحمل ـ في رأي العالم الغربي ـ مسئولية هجمات الحادي عشر من سبتمبر[شديدة الدموية]، ضد عاصمة قوي السوق الكونية.

في عدم ممانعته لما يحدث من صعود إسلامي، ليس الغرب بغافل عن مصلحته، بل هو يستند في تغييره لقواعد اللعبة معنا، لحزمة من القناعات:

إمكانية الفصل بين المقدس والثقافي: يعتقد الغربيون في إمكانية التمييز الصارم بين ما هو ديني مقدس بمعزل عن الثقافة[والذي يقول مفكروهم بوهنه في الإسلام، نظرا لعدم وجود كهنوت أو بركات تُمنح] وبين ما هو ثقافي[والذي يرونه في الإسلام مفتوحا على الحاضر، ومن ثم لديه قابلية للقصف الناعم، على نحو ما يعاني ربيعنا الاصطناعي، من مصطلحات كالديمقراطية والصندوق والقيادة اللامركزية و(الإدارة بـ)الأزمة ..الخ، تجري بسخاء وفخر(!!)، حتى على ألسنة بعض أطياف السلفية الخشنة].

تشبع الصعود الإسلامي بروح حربية: قناعة الغرب راسخة بتشبع الإسلام في صعوده الأول بروح حربية، امتزجت فيها القوة الخشنة بالقوة الناعمة، على نحو دافق ومُباغت، وأنه ليس لسيل كهذا أن يضرب العالم ثانية، لما تشهده مصادر القوة من تحول لامتخيل، يصعب معه جسر لاتكافؤ القوى.

ولع مجتمعاتنا بقطف الثمار: الغرب يعي ما يميز مجتمعاتنا من ولع بقطف الثمار، دون الانشغال بفحص نزيه ومنظم لتربة الغير وطرائق الغرس(1).

توقع فك شفرة المقدس: في عصر المعرفة وثورة الاتصالات يستعر لهاث الغرب على شفا المقدس، في محاولة لفك شفرته، عبر توظيف غير مسبوق للعالم الافتراضي! وعليه، ثمة توقع غربي لظهور أشكال جديدة من التدين[كالأديان الافتراضية، بما في ذلك ضمن سياقات الأديان السماوية كالإسلام]!! من منطلق أنه، وكما يستنطقون التاريخ، كلما سهلت الاتصالات بات من السهل تغير أساليب حياة البشر. ولظنهم أن حضارتنا والتي هي حضارة الوسطية والضرورة العملية، إنما تدور مع المصلحة.

مُحدثات الحياة لا قبل للتطرف بمسايرتها، ولسوف يُدركه الانزواء عاجلا أم آجلا. أما السلفية الناعمة/اللاعنفية والتي هي بحق الوجه[ربما الوحيد الحي] لحضارتنا اليوم، فإنها ليست هي من تضع قواعد اللعبة الدولية الجديدة، رغما عن براعتها الراهنة في توظيف قواعد اللعبة لصالحها، على نحو ما فعل الآباء المؤسسون لدولة العسكر من قبل. السلفية تُلحق أشد الضرر بنفسها وبحضارتنا(2)، إن هي توهمت أو سمحت للوسواس الغربي أن يُوهمها خلاف ذلك. دأب الغرب معنا هو التدمير بالمدح ودأبنا مع هداياه المفُخخة أن تُقبل.

السلفية الناعمة مُعرضة بقوة، ربما أكثر من أي وقت مضى في مسيرتنا الحضارية، لمخاطر ارتخاء القبضة وانحسار النفوذ واستبدال مجتمعاتنا بمقولاتها وقيمها[حتى في أكثر المسائل مُراوغة ورسوخا في ذهنية مجتمعاتنا، كعلاقة الذكر والأنثى]، مقولات وقيم العولمة الاستهلاكية، أو حتى ما بعدها!

من هنا، لا بديل برأيي أمام السلفية الناعمة ـ ترميما لتخوم سيادتنا الناعمة، وتفويتا للفرصة على قتلة الحضارات ـ، سوى التعايش الخلاق مع التفكير النقدي[ثقافة اللامصلحة واللاخوف]، كوجه ثان واعد لحضارتنا، يبحث عن موطيء قدم. فهو وإن كان خشن الطبع، أجش الصوت، إلا أنه وعلى خلاف عموم فضاءنا الثقافي، لا يشتغل ببناء الإجماع، كونه يتبع الحقائق لا الحياة!

تجربتنا الحضارية نتعلم منها أن النهضة ليست غاية في ذاتها، بل بالأحرى هي وسيلة لتأكيد عدم حقارة منحة الحياة، وقدرتنا على أن نعيش حلمنا، لا حلم غيرنا. لأنه يُوشك أن ينهار تحت أنقاض التاريخ من يركن لاستسهال ولين.

لا نهضة حضارية لمجتمع دون تنوع في طرائق تفكير، تنبثق النفوس الحرة من شموسها. الحضارة لوحة فنية، تزداد جمالا وروعة، كلما تباينت ألوانها.

لذا فان التكنولوجيا التى يفخر مفكرونا وساستنا بامتلاك طلائع الربيع العربي لناصية تشغيلها مهما بلغت قوة تأثيرها لا يمكن ان تحقق الغرض منها دون تثوير وتزخيم طرائق تفكيرنا ونظمنا التربوية، لتُبعث حية في شكل يتلاءم مع آفاق حرية الغد المسئولة. المخاطرة والألم بذار قوة القرن ال21 الذكية(3).

(1) في قصة قصيرة اسمها[الدمية وراء الستار] للقاص الايراني صادق هدايت، نجد المعنى نفسه. يحكي هدايت عن: "..شاب إيراني شديد الجدية والنشاط يمضي الى فرنسا لتعلم اللغة والثقافة الفرنسية فيتحول إلى مثل رائع لزملائه في الإقبال على التعلم وإتباع النظام حتى الكمال. لكن رغم انه يتقن الفرنسية بسرعة لا يتمكن من فهم العالم الثقافي لتلك اللغة، كما أنه لا يتمكن من التواصل مع المجتمع فيبقى وحيدا مع كتبه وكتاباته بدون علائق إنسانية أو ثقافية. وينتهي زمن دراسته ويريد العودة إلى إيران فتسحره في احد الأيام دمية في واجهة أحد المحلات بعينيها الزرقاوين الساطعتين، وبضحكة بدت له جذابة في غموضها. ويزيد من إعجابه بها انها ترتدي لباسا فستقي الخضرة. هكذا يسارع الى شرائها ويحضرها معه إلى إيران. واللباس الفستقي الخضرة يؤدي وظيفة معينة ذلك أنه يوهم أنه يكفى ان تلبس الأوروبية لباسا إيرانيا حتى تصبح إيرانية. وفي هذا الرمز البسيط عن الثوب الفستقي الخضرة بشير صادق هدايت إلى الميكانيكية البسيطة للتحديث في إيران في عهد رضا شاه
"في إيران كانت تنتظره ابنة عمه، المخطوبة عليه منذ ما قبل السفر لكنه لم يكن يشعر بها بسبب انصرافه للدمية التي وضعها في غرفته وراء ستار كان يزيله عندما يريد رؤيتها فينظر إليها بإعجاب ويعانقها ويقبلها ثم يعيدها الى مكانها ويقفل الستارة. وشقيت ابنة العم بهذا الاهتمام الشاذ بالدمية، فرأت أن عليها لكي تستعيد ابن عنها ان تُشبه تلك الدمية التي تحظى بإعجابه. هكذا تبدأ بالتدرب على اللباس مثل الدمية والحركة والضحك مثلها بحيث بدأ الشاب المضطرب يتشكك ويتردد في التفريق بينهما. وفي إدراك متأخر بعض الشيء لمشكلته يقرر الشاب التخلص من الدمية فيحضر مسدسه ويدخل إلى الغرفة ويرفع الستارة، ويشاهد الدمية مقبلة عليه ضاحكة فيطلق النار ويصيب: ابنة عمه."!!

نقلا عن: دوروتيا كرافولسكي، الغرب وإيران: دراسات في التاريخ والأدب من المنظور الأيديولوجي، (بيروت: دار المنتخب العربي للدراسات والنشر والتوزيع، 1993)، 264-266.

(2) ثمة عبارة ذكية ينبه فيها غاندي لخطر الوهم بقوله: "إن للإيحاء قوة جبارة تنتهي بالمرء آخر الأمر إلى أن يصبح كما يتوهم نفسه".

(3) "القوة الناعمة هي القدرة على التوصل إلى الغاية المطلوبة من خلال جذب الآخرين، وليس باللجوء إلى التهديد أو الجزاء. وهذه القوة تعتمد على الثقافة، والمبادئ السياسية، والسياسات المتبعة. وإذا تمكنت من إقناع الآخرين بأن يريدوا ما تريد، فلن تضطر إلى إنفاق الكثير بتطبيق مبدأ العصا والجزرة لتحريك الآخرين في الاتجاه الذي يحقق مصالحك.
"أما القوة العاتية[الخشنة ـ ح.خ]، التي تعتمد على الإكراه، فهي تُستمد من القوة العسكرية والاقتصادية. وتظل لهذه القوة أهميتها الحاسمة في عالم عامر بدول تهدد الآخرين، ويعج بالمنظمات الإرهابية. لكن القوة الناعمة ستكسب المزيد من الأهمية في منع الإرهابيين من تجنيد أنصار جدد، وفي تحقيق التعاون الدولي الضروري لمواجهة الإرهاب.

"إذا كان لأميركا أن تنتصر في تلك الحرب، فيتعين على قادتها أن يعملوا على تحسين أدائهم في الجمع بين القوة العاتية والقوة الناعمة فيما يمكن أن نسميه بالقوة الذكية.".
راجع: جوزيف ناي، "القوة الناعمة والكفاح ضد الإرهاب"، 21 أبريل 2004، http://www.project-syndicate.org/commentary/soft-power-and-the-struggle-against-terrorism/arabic


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى