الأربعاء ٣ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٢
بقلم صبحي فحماوي

ندوة جديدة فى مركز الحسين

في مركز الحسين الثقافي، التابع لأمانة عمان، في الأردن، عقدت ندوة جديدة من نوعها لعرض وإشهار ومناقشة مجموعتين قصصيتين لصبحي فحماوي وعصام الموسى، إذ قرأ كل قاص قصة واحدة من قصصه، ثم قدم كل منهما قراءة نقدية في قصص زميله الآخر.

وفي بداية الجلسة قدم مدير الجلسة الدكتور عبد الرحيم مراشدة القاصين فحماوي والموسى، وعرّف الجمهور الذي تجاوز المائة وخمسين أستاذاً ومبدعاً وقارئاً للقاصين، ثم جاء دور عصام سليمان الموسى، فقدم ورقة بعنوان (صبحي فحماوي و فلفل حار) وقال:

لم اكن أعرف أنني وصبحي فحماوي نشترك في عشق صوت فيروز التي اعتبرها صبحي ملهمة جعلته "يلتفت الى فن القصة القصيرة".واذا كانت هذه سمات الفن الجميل، اعني ذاك الذي يوسع دائرة الفرح في حياتنا ويعطينا شعورا بأن الأمل بابه لا يزال مفتوحا؛ فأنا منذ ان تعرفت على صبحي، وقرأت بعض قصصه واحدى رواياته، اكتشفت انه مبدع يبعث فنه في نفس القارىء الحبور والتأمل. وهذه لعمري ميزات الأدب الحي. قصصه المرسومة كلماتها برشاقة وخفة ظل في زمن عبوس كمرهم نداري به وجعنا. وهذه الرشاقة في طرح الفرح تعني دفع القارىء للمتابعة والانغماس في ما يقرأ. وقصه يتركك تتأمل طويلا في أحداث واقعنا الذي نعيشه، فتذكرها وتتذكر تفاصيلها.

دعوني اعطي مثلا: في قصة (ايام جامعية) لا يصل المصروف الشهري من الوالد المقيم في الأرض المحتلة في الوقت المناسب، فيصف الابن اللحظة شاكيا لصديقه: "صرت لا أملك حتى ثمن الإفطار وأجرة الطريق، وأصبحت مهددا بالفصل من الجامعة..لقد توقفت يا محترم مثل سيارة انتهى بنزينها". وللخروج من المأزق، كان عليه ان يلتجىء لصديق والده صاحب المطعم فيقول: "وبخجل شديد ممزوج بالتذلل شرحت له ظروفي، وابو اسماعيل قريبنا، ولو! كان صديقا لأبي منذ طفولتنا في عنبتا، ولكن بعد أحداث المنطقة المتلاحقة التي لا يدفع فواتيرها غيرنا، صار البعد جفاء..". ويستجيب الرجل :"ولو ان ابو اسماعيل كحتة ويموت على القرش" لكنه يستجيب بطريقته الخاصة: "فما كان منه الا ان أشار بسكينه الكبير، وأمرني وهو مقطب الجبين بأن أفرم له صندوق البندورة الذي يحضره لطلبات المطعم". وبعد ان يخرب بابور الكاز ذلك اليوم يأمره ابو اسماعيل ان يأخذه للمصّلح في ساحة الجامع الحسيني، فيذهب اليه ليجده مستغرقا في عمله لم يعره التفاتا، و حين شعر به قال له "اتركه وارجع غدا

غدا يا رجل؟

مش عاجبك، خذه معاك

عاجبني ونص ولكنني أرجوك، فأنا يا طويل العمر والسلامة في ورطة...

وجلست الى جواره متضائلا على ركبة ونصف، فشرحت له حالتي (من طقطق لسلام عليكم)، ثم أضفت "المشكلة ليست عندي وحدي، فان مطعم عمي ابو اسماعيل سيتعطل من دون بابور الكاز".

المهم، يتعاطف مصّلح البابور معه فيقول له: "ماشي، عد بعد ساعة".

ويخرج بطلنا الصغير ليمضي تلك الساعة، فيصفها هكذا:

"ساعة، ساعة! سرت يا حبيبي في شارع الملك طلال اتسكع هنا وهناك..ناس مختلفة ألوانهم وأطوالهم وأشكالهم وأعمارهم وجنسياتهم يسيرون في هذا الشارع مثل يوم القيامة... ملابس نسائية ورجالية وبدوية وفلاحية ومدنية ..وملابس داخلية فاضحة..وعباءات بنية وسوداء...". ويمضي صبحي مسجلا بكاميرة ذاكرته الملونه وصفا حيا لما يراه في ذاك الشارع المزدحم حين يخرج منبين ذلك الزحام المنقذ، جار والده، "الحاج وهدان الضبع الذي يتاجر بين قرية عنبتا والعاصمة عمان"، ويهجم عليه "بألاحضان، وكأنني غريق يتعلق بجذع خشبي متين...أفهمته وضعي الذي يصعب على الكافر، فضحك وهو يقول لي ان ابي قد أرسل معه مصروفي الجامعي منذ اسبوع، لكنه تأخر لسبب اغلاق الاسرائليين للجسر".
ولا تملك نفسك الا ان تتنفس الصعداء مع نجاة هذا التلميذ الشاب بعد سلسلة من المغامرات يرويها قاصنا صبحي باسلوبه الرشيق ، يمزج بين الفصيحة والعامية، كأنما يروي "حدّوثة" لا تكلف فيها في جلسة الأصدقاء في سهرة عائلية. لكنها قصة قد تحدث مع الآف الشبان العرب طالبي العلم.

ولو تأملنا عنوان المجموعة، (فلفل حار)، فانه لم يأت من فراغ: فنصف العنوان منقوش من شاعر (جاهلي) يورده صبحي في قصة (تقرير مصور من لبنان)، حين يزور بطل قصته بيروت بعد ان غلبه الحنين لتلك المدينة عام 1992، فوجد معالم كان يعرفها دافقة بالحياة قديما لكنها الآن دمرت، يصفها بقوله متفجعا: "اين ذهبت تلك المقاهي والمطاعم والمحال التجارية. لقد مسحت عن بكرة ابيها واختفت معالمها، فقال فيها امرؤ القيس:

ترى بعر الآرام في عرصاتها
وقيعانها كأنه حب فلفل"

هنا نكتشف ان قاصنا صبحي يغرف من التراث فيختار نصف العنوان الأول لمجموعته. اما النصف الثاني (حار)، فاني أرى فيه كناية رمزية قصد بها القاص ان يقدم لقارئه وجبة فنية مطعمة بفلفل حار، يلسع الفم والمذاق، فيفتح شهيتك لالتهام المزيد، لكنه يجعلك تصرخ متوجعا - حين تقضم قطعة كبيرة من قرن هذا الفلفل فيحرققك مذاقه بقوة- فتتألم من حال وصلناه، او من مشاهد ناشزة يصفها القاص نراها ونصدفها كل لحظة وتصدمنا.

من التراث أيضا يغرف صبحي الأمثال الشعبية يطعّم بها قصصه، من هذه الأمثال: شاحني وشحته ومن (شدة) عزمي جيت تحته، وآخر الدوا الكي، وحيّد عن الراس واذرب (يرويها بالذال مقلدا بها ابناء الشمال في الأردن)، ويلتم المتعوس على خايب الرجا، وطلع من المولد بلا حمص.

بل انه يأتي بكلمات شعبية بعضها نادر الاستعمال، مثل: مترهدلة، وتتمرقع، وبلوة مصبّرة.

وخبرته الشخصية تظهر متنوعة في قصصه. كل قصة تقدم لونا جديدا مفاجئا. خذ مثلا وصفه لأجواء (الدراويش) في القصة التي تحتل العنوان ذاته (ص 62 و 64).

وهو ينقلنا لأجواء اللبناني ميشيل (البلوة المصبرة) الذي يشرح له اقتتال الأخوة في قصة (كأسك يا لبنان) مبينا تفاهة اسبابها وكيف ان شيوخها –على لسان ميشيل "بيحركوهم من وراء الستار، مثل الدمى المتحركة" (ص38).

ويسخر من الذين تاجروا بقضية العرب الأولى – قضية فلسطين، ففي قصة (عريفة لا تعترف) فان همام لم يتزوج لسبب واحد هو انه " متزوج من القضية الفلسطينية" وصار يتقاضى راتبا من الدول المانحة وسمى نفسه ابو حمامة – أي حمامة السلام – وحين لم تعترف به عريفة انه دولة مستقلة، خنقها، وقال الذين شهدوا الحادثة : "شاهدناه بأم أعيننا وهو يلببها ويدوسها، ويكاد يفتتها حتى صارت عريفة مثل بقجة وكالة الغوث المبعوجة"، وتضاءل صوتها حتى صار "مثل شعلة السراج المنونس" (ص 73).

في قصة (الصف الأعوج) ينتقد حال عمان وينتقد الفوضى ويحدثه جاره في بيت العزاء شاكيا: "- ان السيارات مكتظة امام مجلس العزاء لدرجة تسد الطريق على من يريد الخروج"، وفي قصة (ربيع عجلوني) ، يكشف درجة الضجيج العالية في عمان والفوضى، والأخطر، مشاعر سكان عمان الباردة التي لا يحكي فيها الجيران مع بعضهم البعض، ويقارنها بمشاعر اهل الريف الدافئة (ص 77).

حتى استخدامه لأسماء ابطال قصصه مليء بالمعاني: فهذه غزالة "بنت ممعوصة، خريجة طازجة، وقال ماذا؟ قال صارت خبيرة"، ومن هو مديرها الذي أوقعت به: انه صقر المدهن..وفي قصة (في حضرة السيد المحافظ) ينتقد هدرنا للوقت باسلوبه الساخر: "نحن ننتظر، فالانتظار وضع طبيعي عندنا، والزمن ليس له قيمة، ونحن أصلا في كل الأحوال ننتظر رحمة ربنا" (ص 96).

هذه عوالم صبحي الملونة، الجريئة والواقعية الساخرة حد الوجع الشخصي-المحلي-القومي. يرسم بالكلمات لوحات ذهنية للقاريء لا تمحي من الذاكرة بسهولة. يمزج القديم بالحديث، الفصيح بالعامي، كقائد اوركسترا مليء بالحياة والحيوية. وهو وطني قومي ملتصق بقضايا شعبه يقدم الحلول لمشاكل مستعصية ويريد كفنان مبدع اصيل ان يرى امته وقد وصلت القمة. وهو يعتمد العلم فيما يكتب. وقبل هذا هو مشبع بالثقافة الفولكلورية .

وعلى الصعيد الشخصي، صبحي فحماوي متعدد المواهب، فهو رسام للوحات زيتية، ورحالة جاب الأرض وزار بلدانا كثيرة متعرفا على ثقافات الشعوب، وهو مهندس بتخصصه العملي فحديقة منزله تروي قصة مخطط بارع رسم توزيع اشجارها وزهورها بأحاسيس جمالية تتناثر فيها قطع التراث التي جمعها من الأردن: لوح الدراس والجاروشة وحجر الرحى للزيتون، بل ان هناك تماثيل منحوته تطل عليك من وراء الأشجار الكثيفة فتشعر انك في متحف طبيعي لا تحب ان تغادره.

وبعد تعليق من مدير الجلسة الدكتور عبد الرحيم مراشدة الذي أثنى على حديث الموسى ، تحدث القاص الروائي صبحي فحماوي بصفته ناقداً هذه المرّة، فقال بعنوان:

"وستشرق الشمس أيضاً" مجموعة قصص واقعية رومانسية بيتوتية.

"وستشرق الشمس أيضاً" للقاص الروائي الدكتور عصام الموسى مجموعة قصص تستحق القراءة والتمعن..لقد جمع القاص في كتابه الأخير الصادر بدعم أمانة عمان الكبرى أربع مجموعات قصصية، أو أربعة كتب في كتاب واحد، جاءت بمسميات (فصول) وكان الفصل الأول هو (الخريف) وجاءت المجموعات الثلاث الباقية تحت مسميات (الشتاء) ثم (الربيع) وأخيراً (الصيف). إنه قاص لكل الفصول.

في مقدمة الكتاب يقول الموسى: "ما أروع أن يصحو الإنسان كل صباح، فيرى يوماً جديداً تشرق شمسه في السماء الزرقاء، تدفع في القلب رعشة مليئة بأمل أن يكون هذا اليوم أجمل من الأمس.." وهذين السطرين يوضحان مدى تفاؤل الموسى، وانتظاره لأن تشرق الشمس بسعادة غامرة، متفائلاً بأن أجمل الأيام هي التي لم نعشها بعد.

وهذا يذكرني بمقولة للروائي الإيطالي (ألبرتو مورافيا) في روايته(السأم) فهو يصحو عادة مع إشراقة شمس الصباح، شاعراً بنشوة وبسعادة غامرة، وما أن يفتح على نشرة الأخبار، أو يتذكر ما مر به من تحديات، حتى يتلوث مزاجه، ويتعكر تفكيره من جديد، فيمر اليوم أسوأ من سابقه.

ويستمر الموسى في تذكر محاولاته الأولى في القص منذ دراسته في كلية بيرزيت عام 1962، ثم في الجامعة الأردنية في نفس العام ، إلى أن عاد من أمريكا عام 1970 عشية حرب أيلول، ليعيش معاناة أهله المحتمين تحت الدرج في جبل الحسين، فكتب متأثراً بذلك قصة (الفراغ والحزن).

ويعزو الدكتور عصام الموسى سبب تسميته لهذه المجموعة(وستشرق الشمس أيضاً) إلى أن الشمس كانت في قصصه منيرةً دائماً، وذات سناء ورونق، وأنه نشر قصة في مجلة أفكار بعنوان(متى تشرق الشمس؟) وحتى أن زوجته تقول له إنه لا يستطيع العيش من دون أشعة الشمس، التي يتمثل منها مساره اليومي..وكيف لا يحب الشمس، النور الذي يغذينا ويجعلنا على الأقل نرى الأشياء، وما دام الله في مفهومنا هو "نور السموات والأرض". وإن مشاهدة نور شمس الصباح تختلف عن الوقوف تحت أشعة الشمس الحارة في بلادنا العربية الصحراوية الطابع، حيث من مواصفات الجنة، أنكم "لا ترون فيها شمساً ولا زمهريراً.."
غلاف الكتاب موفق في تصميمه، وهو يبرز بصمات محتوياته، إذ أننا نشاهد شمساً خريفية تشع، فترى أشعتَها تبث الحياة والحيوية بين أغصان الأشجار الباردة، وتنعكس على الأرض، وكأنها كما قال أبو الطيب المتنبي.

وَألْقَى الشّرْقُ مِنْهَا في ثِيَابي
دَنَانِيراً تَفِرّ مِنَ البَنَانِ.

وفي المجموعة هذه الموسومة بعنوان (الفصل الأول – الخريف- المحاكمة) نقرأ تسع قصص هي: "خفقة ضائعة، ما تقوله النسائم للشمس على قمة الجبل، ما كان يمكن أن يكون لنا، جرس الحرية، الوقوف على حافة الزمان، المحاكمة، لوحة على الجدار، باقة ورد، أين النجوم؟" وهذه القصص ذوات طابع واقعي موشى بمعالم رومانسية، ترسم ذكريات طفولية شبابية ماضية لا يمكن أن تعود، وهذا المزيج يشكل عند الموسى أسلوباً قصصيا يحبه القارىء.
في قصته الأولى من المجموعة والتي تخلو من إشراقة الشمس، بعنوان (خفقة ضائعة) يصور الموسى آنسة كبيرة في العمر، لم يذكر اسمها، تجلس وحيدة أمام شباك غرفتها، تشعر باكتئاب في عيد ميلادها الخريفي الذي لم يحضره أحد، ربما لأنها لم تتزوج رغم كبر سنها، وربما لأنها لم تدعُ أحداً للحضور، وربما لأن لا أحد يريد حضور مثل هذا الحفل الشاحب..نجدها تراقب الغيوم الداكنة المتلبدة..تتذكر طفولتها مع شقيقتها التي هاجرت إلى آخر الدنيا، سعيدة مع ولديها يملآن عليها الحياة، فلا تبقى في مخيلتها سوى الذكريات..أيام كانتا تلعبان معاً..

تتذكر طيف شاب محب التقاها أيام شبابها، فشدّ على يدها، ثم طبع قبلة عليها، وهو يقول لها: ابقي قريبة إليّ..ولكنها قالت له متلعثمة:

لا أستطيع.. وبعد أن مر عمرها سريعاً بلا عدد، بلا اسم، بلا تاريخ، بلا حاضر، بلا مستقبل، لم تبق غير ذكريات طفيفة، إذ تجدها ما تزال واقفة عند الشباك، وهي تحس بنظراته الحارقة تخترق رأسها..تقف في عيد ميلادها الذي لم تعد كثرة عدد سنواته تلفت أحداً، لدرجة أن القاص لا يذكر عمرها كما لا يذكر اسمها وكأنها بلا قيمة أو بلا وجود، ولكنها تبقى تتخيل طيف ذلك الشاب القديم، وكأنه يقف إلى النافذة، بينما هي التي تقول له:

"لماذا لم تحاول أن تمسك يدي ثانية، وتضمني إليك؟ لماذا لم توقف عقارب الساعة عن الدوران؟ ابق هنا..إنها ليلة عيد ميلاد مختلفة..ما كان منا يبقى فينا، حتى الذكرى".. ولكن النهاية أن المطر راح ينقر بشدة على زجاج شباك غرفة نومها.

هذه القصة المدهشة واقعية، وليست رومانسية رغم غيومها المدلهمة وتخيلات شخصيتها التي هزمها الزمن..إنها قصة متقنة الحبكة، ومنسوجة بمشاعر امرأة قضت عمرها وحيدة تجتر ذكرياتها وأحاسيسها..إنثى كبرت في السن من دون أن تتزوج. إنسانة عتيقة لم يبق لديها من الممتلكات سوى الذكريات.

ترى هل تشعر المرأة أن السعادة تكمن في الزواج، وإنجاب الأولاد؟

هل تحلم المرأة بالأولاد وليس البنات، إذ أنها تقول لنفسها أن أختها حققت سعادتها بالزواج، وبإنجاب ولدين؟

هل تفكر هذه الأنثى في الذكَر، سواء في محبته والاستناد إليه كزوج، أو إنجابه "طفلاً صغيراً يُسعد أمه وهي تحمل به ثم تلده، فترضعه وتؤكله وتُحممه وتلبسه وترعاه، إلى أن يشب على حبها يافعاً وشاباً كبيراً ، فيحميها بعد وفاة أبيه وينفق عليها ويرعاها؟

هل كان الشاب الذي أمسك بيدها وهي يافعة هو حلمها..ولكنها تثاقلت عليه. ولماذا تثاقلت عليه في صباها وبقيت هكذا إلى أن انقشع فارسها كغيمة صيف، فصارت تتمناه في كبرها؟ هل هي (الحياةُ فُرص) فلنغتنم الفرصة المناسبة السانحة؟

هل يوحي رفضها قبوله في أيام الصبا أن الحياة ما تزال أمامها لتختار بدائل كثيرين، أم إنها كانت تقصد تحسين شروط الزواج؟

هل كانت غير ناضجة للزواج بعد، ولكنها عندما نضجت وبحثت عن الرجل المناسب، لم تجده؟
هل هي الحياة ملعونة، إذ أنها تجعلك تتجاهل مِتعها أيام الصبا والشباب، وعندما تنتبه إليها، فتطلبها في الكبر، تجدها تحرمك إياها؟

في نهاية القصة، تجدها تغلق ستارة النافذة الكئيبة الغيوم، وهذا تعبير عن أن الحياة قد أرخت سدولها وأغلقت أبوابها، فزخت أمطار غزيرة تطرق شباكها..قد تكون هذه الأمطار هي الإنذار الأخير بعد الخريف!

ولكن السؤال المحير هو: لماذا تبقى هذه المرأة في انتظار رجل يسعدها؟ لماذا لا تشغل نفسها بما يحقق ذاتها من العمل والثقافة والفنون والرياضة وممارسة الهوايات؟

صدقوني أنني لم أستطع نسيان قصة هذه الإنسانة المُعذّبة في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وفي تكوينها الإنساني والفسيولوجي والسوسيولجي والذي حرمها من تحقيق الذات. فشكراً للدكتور عصام الموسى على هذه اللوحة القصصية التي تبدو بسيطة سطحية، ولكنها عند التعمق فيها، نجدها تعرض عالماً واسعاً لحياة امرأة تريد حلاً.

ورغم أن قصة هذه الإنسانة المُعَمّاة تخلو من إشراقة الشمس، إلا أن الشمس تشرق في كثير من قصصه، كما في قصة (لوحة على الجدار) حيث تجلس صاحبة البيت (أميرة) في الفرندة التي تتسلل إليها أشعة الشمس في ذلك الصباح الخريفي..ثم يقول السارد :"وخلف هذا سلسلة جبال زرق وسماء خريفية تظللها غيوم بيضاء ورمادية تتسلل أشعة الشمس من بينها..ثم تقول أميرة: لقد تعبت والشمس تحرقني..سأكمل الرسم على الجدار لاحقاً..."ويقول السارد في قصة (المحاكمة):" كانت الشرفة مكانه المفضل للجلوس حين تمتلىء بالشمس الدافئة تلقي بأشعتها من وراء الزجاج.."

وهنا يشي لي السارد بأن القاص (بيتوتي) إذ أن كثيراً من قصصه تصور علاقة الزوج مع الزوجة والأولاد والبنات والبيت والفرندة وغرفة النوم وأشعة شمس الصباح..كل ذلك في بوتقة البيت، وهذا يشعر القارىء بألفة أيام زمان حيث كان الزوج يقضي وقتاً أطول مع الأولاد والزوجة في بيت يسوده الهدوء النسبي وراحة البال، وذلك يتجلى في قوله في قصة (باقة ورد):

"استيقظت من نومها العميق على صوت المذياع وقد فتحه زوجها كالمعتاد كل صباح..أدركت أن البيت ينقصه أحد ساكنيه، يارا ابنتهما الكبرى التي تنام لأول مرة في فراش غير فراشها في الفندق الآن مع زوجها.."

وفي المجموعة يظهر أن القاص مثقف نوعي، ويهمه إبراز المناطق والمراكز الثقافية التي يذكرها في هذه القصة: "كان يدعو زوجته مع بناتها لنشاطات متفرقة : قصر الثقافة، ومهرجان جرش، ومسرحية هزلية وفيلم سينمائي لممثل مشهور.."

وكثيراً ما نقرأ في هذه المجموعة قصة داخل قصة، وهذا أسلوب جميل، خاصة إذا دخلت إحداهما في بطن الأخرى، كجمالية بطن الأم الحامل. ولا مجال للتفصيل في هذه العجالة.
وأسلوب الموسى مطرزٌ برومانسية جميلة، إذ نشعر في كثير من قصصه بهذه الروح كقوله في قصته (الوقوف على حافة الزمان) على لسان طالبة جامعية:

"تطلعت حولي مستنجدة بالقمر..منذ أن جئت كنت أخشى الوقوف على حافة الزمان هذه، لحظة اللاعودة..ربما لم تسمع يوماً بفيافي النور ومراعيها وفرسانها.. وكان شوق الصبايا عطشاً متجدداً لفرسان مجانين يجيدون لغة الخناجر كما يجيدون لغة الحب..وحين يحل المساء كان الفرسان يخطفون حبيباتهم الجدد ويرحلون.."

ورغم رومانسيته فهو لا يبتعد كثيراً عن الواقعية إذ يقول في قصة (المحاكمة):
" كنت أعرف أن الحياة قاسية خارج أسوار الجامعة..وكنت أريدهم أن يتعلموا مواجهتها بصلابة..كان الوطن ينزف وأطرافه مسلوبة، وكانت الجراحات عميقة وغائرة في الصدور. اختلطت الرؤية على الطلبة فشربوا الماء العكر وظنوه صافياً زلالاً... لقد أوجدوا (جيل حزيران) الذي يفاوض على الكرامة بأبخس الأثمان.."

يذكرني عنوان المجموعة وهو جميل بلا شك بعنوان رواية إيرنست همنجواي (ستشرق الشمس أيضاً ) وقضية تشابه العناوين هذه تتم بين مُرحِّب بها لأنها تُذكره بالذي مضى، وبين متضايق منها، لأنها تضع الحافر على الحافر، ولو كان ذلك في العنوان فقط، وليس في مضمون الكتاب، فهناك الكثير من الروايات أو القصص المتشابهة العناوين، أو المُقاربة لها، ولا أريد أن أبحث في هذه القضية، وأكتفي بذكر مثال واحد فقط، هو كتاب قديم بعنوان (طوق الحمامة) لابن حزم الأندلسي، والذي وُصف بأنه أدق ما كتب العرب في دراسة الحب ومظاهره وأسبابه، مقارنة مع رواية حديثة لرجاء عالم، ذات مضمون مختلف تماماً، إذ تدور حول عالم مكّة بعنوان (طوق الحمام) " والتي حصلت على جائزة عربية معروفة. يبقى السؤال هنا هو:

"هل تكرار العنوانات أو تقاربها يفيد من مضمون سابقتها، أم إنه يُشهر هذه المؤلفات الجديدة، أم هو مجرد اتكاء على ما سبق، أم إنه لا ضير في كون أكثر من شخص يحمل الاسم نفسه، وهل تكرار الاسم يشهر صاحبه، أم إنه قد يكبله ويجلب عليه وليس له؟ أم هو مجرد تناص غير متعلق بسابقه، مثل هذا العنوان "وستشرق الشمس أيضاً" الذي قد يكون سببه هو تفاؤل القاص بالشمس المشرقة بالنور بالأمل، بالمحبة؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى