الأحد ٢١ حزيران (يونيو) ٢٠٠٩
بقلم إياد حسين عبد الله

نظرية الجمال في فن التصميم

ترسخت فكرة الجمال في الفنون عبر العديد من المناهج والنظريات والآراء وعلى مدى زمن طويل، وكان لكل من تلك الرؤى وشائج قوية بحركة الحياة والمجتمع في كل زمان ومكان، والتي أدت بالتالي إلى تغير مفهوم الجمال ومعناه تبعها تغيير أهداف الفن ووسائله، ورغم التحولات الكبيرة التي خلقت أحيانا فهما متناقضا للفن ومعناه، إلا أن المحتوى الإنساني للتجربة الجمالية، كان ذلك الخط المضيء الذي ربط فن الكهوف بفنون ما بعد الحداثة، رغم تغير الاتجاهات والأساليب واختلاف التأويل والتفسير.

ولم يكن علينا نحن متذوقي الجمال ومن أخر سلسلة الأجيال فيه إلا إن نقدس ذلك الإرث الإنساني الذي كتب لنا أولى أبجدية الجمال، بل أسس لنا تلك الذاكرة الحية التي سوغت للإنسان سبب وجوده وشقائه. وانتجت له في ذات الوقت تراثا زاخرا بالاعمال الفنية العظيمة في مجالات الفنون والعمارة والتي انتجها العقل الابداعي الانساني.

وحقيقة كل ذلك التراث الخالد لم يكن ليصمد إلا بعد إن ضمته جدران المتاحف أو حولت العديد من تلك التحف المعمارية إلى متاحف، وفي كل الأحوال فقد نشأت فكرة المتحف، وبعيدا عن الفكرة البيروقراطية والسياسية للمتاحف، فإنها بدون شك كانت سببا في نشوء ذلك السجل الخالد للتراث الحضاري الإنساني رغم أنها عزلت الفن وقيمته عن الحياة اليومية للإنسان

إلا أن المتاحف كانت سببا في نشوء كل العلاقات المكونة للخطاب النقدي التاريخي وما نشأ عن ذلك من مناهج فكرية ونقدية كانت تشكل فلسفة الخطاب الجمالي للفن طيلة عقود.

وهكذا فان المتحف اختصر ذاكرة التاريخ المعقدة في الزمان كما اختزلها في المكان وجعلها شاخصة في الذاكرة الإنسانية، وفضلا عن القيمة الحضارية للمتحف كونه يمثل تاريخا متزامنا يضم مابين جدرانه ما هو روحي ومادي فانه يحتضن خطابا تصنيفيا ووصفيا وتكوينيا من خلال تنظيمه للمرئي، صانعها، تاريخها، حجمها، نوعها، تطورها وهكذا فانه يعيد الحياة إلى حضارات بادت ويجعل مكوناتها وأسباب نشوئها تحيا من جديد لتقوم بسلسلة إحالات ذاتية وداخلية فيما بينها ولتحرك ذلك الصدى الذي يكشف خطاب الأمس.(1)

لا شك أن دور المتحف كان أساسيا في عملية تنظيم التاريخ وبنية خطابه المتماسك داخل صيرورته وخطابه الحضاري بعد أن أدى دوره في بناء الثوابت الشكلية الموزعة على محور الزمان وأسس لسلم إحالات داخلية في مكنونات تلك المفردات الحضارية ليعيد نسقها الفكري وتأثيرها

لقد ورثنا تاريخ الفن من خلال المتحف وتاريخ كل الخطابات التشكيلية المتداخلة مع تاريخ الخطابات النقدية كما تتضح فكرة الجمال عبر ذلك النسق في كل من الأعمال الفنية الخالدة وتاريخ الفن والنقد اللذان لا ينفصلان عن المجتمع ومراحل تطوره. وقد أنجز ذلك النسق في إطار اشكاليته الحضارية منظومات مصطلحية جسد تلك الأنساق المفاهيمية في تلك المجتمعات وأصبح من الصعب تكوين ذلك النسق بعيدا عن أسئلة العصر الذي كانت تحيا فيه وبكل منجزاته.(2)

وأمام تقاطع الأنساق المعرفية في القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين وتداخل منظوماتها المصطلحية. غدا من الطبيعي والضروري تعديل ذلك المخطط الذي يحتل النسق المصطلحي للجمال والفن وتحقيق شروطه الذاتية وإجراءاته المنهجية التي تعيش عصرا يشهد كل التحولات. من هذا المنطلق لم تعد فكرة الجمال في الفنون الحديثة وفي مقدمتها فن التصميم، تشكل نسقا مفاهيميا أو مصطلحيا مع هذه التحولات. ولم يكن الحكم على قوة تحولات فن التصميم ناتج عن قيمته الجمالية التي تدخل في صميم الحياة اليومية للإنسان، وإنما لارتباط فن التصميم بشكل حاسم وجوهري بتلك العلوم والمعارف المجاورة وعلى رأسها العملية الصناعية والإنتاجية والاستهلاكية ورأس المال ودورها في حياة الفرد والمجتمع.

الحاجة

تبرز الحاجة على رأس الأولويات التي تحدث تغييرا كبيرا في نمط تفكير الإنسان، كما تحدث تغييرا في سعيه لتحقيق تلك الحاجة، مما يتولد عن ذلك البحث منهج جديد، يكون قادرا على ترجمة أفكار الإنسان واتساقها تجاه البيئة والمحيط.

تتألف الحاجة عند الإنسان من ثلاث مقولات أساسية:

النفعية، و الرمزية، و الجمالية، وهي مقولات متداخلة و متفاعلة، و لكن لكل منها وظيفتها الوجودية، الحياتية، و الاجتماعية. ولذا فالحاجة عند الإنسان، بطبيعتها هي مركبة. مما أصبح يتعين على الفرد إرضاء كل منها ككيان قائم بذاته، بعلاقة متوازنة بين وظائفها و أداء إرضائها، باعتبارها كياناً مركباً بالضرورة.

1 ـ الحاجة النفعية ـ ووظيفة الحاجة النفعية، هي تأمين بقاء البدن، إدامته و نموه و تكاثره، حيث تتضمن تأمين المأكل و الحماية و الراحة البدنية و ملجأ المعيشة اليومية.

2 ـ الحاجة الرمزية ـ وظيفة الحاجة الرمزية هي إرضاء متطلبات الحس السيكولوجي لعلاقات الذات الواعية بكيانها. حيث تحدد هذه العلاقات مع موقع و مقام الذات بين الأشياء و الظواهر الطبيعية، و بين العلاقات والتراتبية الاجتماعية، أي مركب هوية الذات. كما إن هذه الحاجة هي وعي سيكولوجي يواجه و يعالج مسألة بقاء و زوال كيان الذات ـ أي الوعي الوجودي بالحياة و الموت. تؤلف وظيفة هاتين الحاجتين: النفعية و الرمزية، بما نصطلح عليه بالوظيفة أو الحاجة القاعدية.

3 ـ الحاجة الجمالية ـ وظيفة الحاجة الجمالية هي إرضاء متطلبات سيكولوجية الفرد في الاستمتاع بالوجود، فتمنحه قيمة، و معنى وجودياً حسياً مستمتعاً. و ذلك بعد أن يحصل تأمين البقاء عن طريق تحقيق إرضاء الحاجتين القاعدية. فسيكون سؤال الذات: و ماذا بعد هذا البقاء

غير الزوال! و ما أن يتحقق تأمين البقاء بإرضاء الحاجة القاعدية، ستمل سيكولوجية الفرد من تكرار التعامل، و يصبح الوعي بالوجود حالة مملة. بمعنى، إن واقع تأمين البقاء البيولوجي حالة تبعث السأم و العبثية. هكذا ظهرت الحاجة الجمالية، مع ظهور دماغ الإنسان العاقل، و تطور قدراته الابتكارية، كحاجة مستقلة، أسوة بالحاجتين القاعدية، و تأصلت في سيكولوجيته. (3).

فالدار مثلا، توظف لإرضاء الحاجة النفعية، كملجأ لتأمين الحماية من العوامل المناخية و من خطر العدو، إضافة إلى تأمين حيز للخلوة و العزلة و خصوصية المعيشة، كما أنها ترضي الحاجة الرمزية لأنها توظف لتعبر عن موقع مقام الساكن في المجتمع بالنسبة للآخرين، أي توظف الدار للتعبير عن هوية الذات الساكنة فيها، و عن هوية الجماعة التي تقترن هويتها مع مقام ذلك الساكن. و أخيرا الدار أداة سرور واستمتاع بالنسبة للساكن، و بالنسبة إلى المشاهد. لذا الدار هو كذلك أداة تسخر في إرضاء الحاجة الجمالية، و هي حاجة الاستمتاع بالوجود، و إلامن دونها لاصبحت الدور التي نعيش فيها، والقرى والمدن لتي نتعايش فيها مع الاخرين مادة جامدة المصنع.

ـ الجمالية إذن، ترضي حاجة حس ووعي سيكولوجية الفرد المعين باستمتاعه بوجوده، و سروره بنشوة هذا الحس. وإن الأداة المادية لهذا الحس، هي صفة المثال القائمة في علاقات التكوين الشكلي و التي يجملها بدن المُصنَّع.

ـ اما الفن فهو تلك المنتجات التي تؤلف الأداة التي توظف في إرضاء متطلبات الحاجة الجمالية، (4) و التي تشمل القطع الفنية كالعمارة و النحت و الرسم و الخط، كما تشمل السلوكيات التي ترضي الحاجة الجمالية كالرقص و الغناء و الرياضة و اللعب عامة. والتي تعمل على تنمية الجانب الوجداني في العقل الإنساني.
ـ والجمال، هو تلك القيمة الحسية التي تمنحها ذاتية الفرد إلى معالم المنتج و الأشياء، و التي بتعامل القدرات الحسية السيكولوجية معها تسر. و بهذا السرور و الاستمتاع، تكون منحت سيكولوجية الذات قيمة لوجودها. فالعمارة و القطعة الفنية النحتية و الموسيقى و العربة و غيرها من التي يسخرها الفرد و المجتمع في إرضاء متطلبات الحاجة المركبة هي منتجات ابتكرها فكر، و فاعل رؤيته مع مادة خام، فكانت المحصلة كيان المنتج. فيظهر شكلا ملموساً يتم التعامل معه، بهدف إرضاء حاجة ما..

" إن بحث العمارة من غير اعتبار صفة المثال و قيمة الجمال في سيكولوجية الفرد جزءا متأصلاً في الدورة الإنتاجية، سيصبح البحث مثالياً و غيبياً، و خارج عن واقعية مادية كيان الأشياء، و مادية وجودية الفرد الإنسان. لذا سيكون من المفيد قبل أن نشير إلى المبادئ الرئيسية للدورة الإنتاجية، أن نشير إلى مقوماتها و حركاتها"(5)
إن العمليتين الصناعية والإنتاجية فتحت عصرا جديدا في تاريخ البشرية وكان تطور هاتين العمليتين مرتبطتين بالحاجات المتزايدة وبالحلول والتي تتعلق بمشاكل الحياة اليومية والتي تتزايد تعقيدا لتقنيتها كما تتزايد تطورا في مدنيتها. ولعل ابرز ما يمكن قراءته فيها هو علاقتها بنظام رأس المال وملكية وسائل الإنتاج ومنذ ادم سميث ( المؤسس الحقيقي للمدرسة الكلاسيكية في عالم الاقتصاد ) والذي عبر عن تطلعات الثورة الصناعية التي ابتدأت في عصره كانت الرؤى حول علاقة رأس المال وامتلاك وسائل الإنتاج تتبلور تدريجيا وكان يشكل مع ديفيد ريكاردو 1772-1823 وجون ستيوارت 1806-1883 دعاة الليبرالية في عالم الاقتصاد والصناعة الحديث.

لا شك إن كل ما يدخل في هذا الإطار ذو تأثير فعال في النتاج الصناعي والتصميمي فان نظام الدولة وتأثيره المباشر سواء في امتلاك وسائل الإنتاج أو بناء الخطط المستقبلية للمشاريع والتنمية ونظامها السياسي الذي يحدد هذه الابعاد وأولوياتها. كذلك نظم العمل والسيطرة ونظام الأجور ونظام الاستهلاك والجدوى الاقتصادية والمستوى ألمعاشي والرسوم والخدمات وعوامل الربح والخسارة والأسعار والاحتكار والكلف والضرائب وطبيعة المجتمع وحاجاته وعلاقات السوق والمنافسة ووسائل النقل والاتصال وما صاحب كل ذلك من ثورة في التقنيات الحديثة. والكوارث والكثير من التبعات والمتغيرات التي تؤثر مباشرة على وسائل الإنتاج والصناعة.

ويتأسس اهتمام الإنسان بفن التصميم لكثرة التحولات التي تشهدها العديد من الفنون ومظاهر الحياة نحو التصميم حيث الاختزال والبساطة، وسرعة التأثير والاستجابة واشتراكه مع العديد من التقنيات العصرية التي تسد حاجات الإنسان الضرورية، وهو ما كان يتنبأ به ( موريس ) عندما كان يستشعر تحولات المدينة إلى حالة مختلفة من حالات الحياة ويقر ( بإمكانية حدوث تغيير في اتجاه الفن من الجمال الى المذهب النفعي ). وبما يدفع العديد من المصممين الصناعيين لقبول ذوق الجماهير لإقامة مذهب فني جديد للتصميم هو مذهب الجماهير بحيث تحل الأسواق محل المتاحف. وفي الوقت الذي لا نقر تخلي الإنسان عن مظاهر الجمال والفن فان الأزمات المقبلة على الإنسان في العصور المقبلة والتحولات التي تشهدها الفلسفة المادية كفيلة بإحداث الكثير من المتغيرات. على مستوى المدخلات الفكرية والمادية بما يغير من نمط التفكير.(6)

وإمام هذه الشبكة المتداخلة من المعطيات الإنسانية يتأسس مفاهيم جديدة للفن والجمال كفلسفة وقيم في حياة الإنسان اليومية بطريقة تشكل نسقا متناغما مع إيقاعها وبيئتها. ومهما تكن هذه المفاهيم إلا أنها في حدودها الدنيا تعصف بالمفاهيم القديمة لفلسفة الجمال ومعنى الفن لتحيل العديد من جوانبه إلى ذكرى في هذا العالم المتغير الشائك.

فهل نستطيع قراءة الجمال اليوم بطريقة تشكل نسقا طبيعيا مع هذه المتغيرات؟.

لا شك إن فن التصميم كان إجابة واضحة عن فلسفة جديدة للجمال، ومعايير ومفاهيم مختلفة للفن وانه مستقبل الفن وفن المستقبل.

إن محاولة تفهم ( الجمال ) في الفن عموما والتصميم خصوصا والنفاذ إلى قيمته الفنية لا يقصد منها تحديد معايير للجمال فيهما أو وضع قواعد للتطبيق في مضمار الإنتاج الفني وإنما التوصل إلى مرتكزات نظرية غايتها المعرفة التي توضح إشكالية العلاقة بين الجمال والوظيفة.

مقومات القوى الكامنة

أصبح وجود الإنسان - المصمم - الواعي عبارة عن صيرورات من ابتكارات لتفاعل جدلي بين متطلبات خصائص مادية البيئة الطبيعية والحاجة التي يعيها، والتي تبتكرها مخيلته،

فهو تفاعل يمكن أن نفهمه بكونه قوى كامنة في أربعة مقومات:

1 ـ القدرات الابتكارية التي يحملها الدماغ.

2 ـ المناحي الغريزية التي تحملها سيكولوجية الإنسان.

3 ـ القدرات الفسيولوجية التي يستورثها البدن.

4 ـ متطلبات البيئة المتعامل معها، سواء القائمة أم المتغيرة، أم المستحدثة من قبل القدرات الابتكارية ذاتها.(7)

في حركة هذه المقومات الأربعة، يتحول التفاعل بين القدرات الابتكارية و المناحي الغريزية إلى طاقة تحرك سلوكيات الوجود. ومن جهة أخرى، يتحول مركب هذه الحركة و يتجسد و يصبح خزيناً معرفياً و عاطفياً. فتؤلف ذاكرة الأيديولوجيات و الثقافات والطقوس و التقاليد، بما في ذلك ذاكرة الأديان و صيغ المعيشة و العلاقات العائلية و الاجتماعية و مختلف صيغها الفئوية. فتتفاعل هذه الذاكرة مع القدرات الابتكارية، و تصبح فعالة وتنضج بقدر ما تتهيأ لها من فرص في التنظيم و التدريب و التعليم، سواء بسبب جهد خاص، أم حالة تنظيم المجتمع المتفاعل معها إن الجدل القائم والمستمر بين المقومات الأربعة كانت سببا مباشرا في توضيح معنى ودلالة الجمال في التصميم على أساس قيمته النفعية والتداولية والوظيفية والاستخدامية
والتي توضح لنا مدى ارتباط فن التصميم بتلك القيم التي تشغل حيزا واسعا ومهما في الحياة اليومية للإنسان، وتمثل واقع التصميم في العالم اليوم، و تشكل تلك العلاقة اليومية في أداء الإنسان للوظائف الحيوية وبالتالي لا يمكن إن نستغني عن إي من تلك العلاقات.

وهنا تتضح مفاهيم جديدة للجمال يعاد تكوينها في صيرورة مختلفة عما ورثناه عن فكرة الجمال طيلة العصور الماضية تلك التي تؤثر على دور الجمال وأهميته في حياة الإنسان.

الجمال المعنوي و الجمال المادي

لا شك إن هناك صراع أزلي بين القيم المادية والقيم المعنوية منذ وجد الإنسان على وجه الأرض. وقد ترجح كفة قيم على قيم أخرى وفقا لفلسفة المجتمع وحركته واحتياجاته.

وحقيقة الأمر ومنذ بدء الثورة الصناعية ودخول الآلة والإنتاج الواسع، سادت العلاقات المادية في شتى شؤون الحياة مقابل ضعف العلاقات المعنوية والروحية مما جعل من القيم المادية قيما سائدة للعديد من المجتمعات. بينما تعمل القيم المعنوية على إعادة تنظيم الحياة وفق منطقها الأخلاقي والتربوي.

واصل القيم في الأعمال الفنية هي قيم معنوية تؤدي إلى خلق قيم مادية. فالعديد من الأعمال الفنية الخالدة كانت تهدف في أفكارها ومواضيعها إلى ما يعزز الخير والنبل والقيم الصحيحة من صدق وشجاعة وإخلاص وشرف. ورغم اعتبارها موقفا كلاسيكيا من الجمال الا انها كانت تتفق الى حد بعيد مع الفلسفة المثالية في كون الجمال شقيق الحق والخير والعديد من هذه الأعمال كانت مخزونا هائلا للمعاني والدلالات التي جعلتها خالدة لعصور طويلة.

رغم إن مكوناتها المادية ذات قيم بسيطة جدا ولكن قيمها الحضارية والفنية والإنسانية جعل منها قيمة مادية كبيرة تتعلق بالإرث الإنساني والتجربة الحضارية العظيمة للمجتمعات والشعوب التي تحرص على ميراثها وتاريخها، لذلك بقيت العديد من هذه الإعمال تمثل الذاكرة الحية للشعوب في أمجادها ورموزها. أي أن العمل الفني الأصيل يبدأ بقيم معنوية عالية ثم يتحول بعد إن يثبت قيمته الحضارية قيما معنوية ومادية كبيرتين معاً.(8)

وفي فن التصميم سواء في العمارة أو الصناعة أو الطباعة والتي اقترنت بالعصور المتأخرة، عصور المكتشفات والتقنيات الصناعية الحديثة فقد اقترنت بالقيم المادية الصناعية عموما، ولكن القيم المادية في التصميم لا تشبه تلك القيم المادية التي تمتاز بها الأعمال الفنية العظيمة فضلا عن قيمتها المعنوية. وإنما القيمة المادية في التصميم تبرز من خلال القدرة الأدائية والوظيفية والنفعية وهذه الخصائص والمميزات هي التي تحدد القيم المادية في فن التصميم. هكذا تسعى التصاميم في الغالب إلى تحقيق أعلى قدرة أدائية ووظيفية ونفعية مقابل ارتفاع قيمتها المادية، والقيم المادية الموجودة في قصر أو طائرة أو سيارة أو عمارة تحقق قيم جمالية لا يستطيع المسكن البسيط أو السيارة القديمة تحقيقها فجودة المواد وتنوعها ونفاستها وبريقها تحمل إغراءات عديدة قادرة على إشباع حاجات الإنسان المادية وفي أداء وظائفها المتنوعة.

ولا يعني ذلك خلو التصاميم من القيم الجمالية المعنوية فالعديد من الرموز والدلالات التاريخية والتراثية تعد من المعاني الخلاقة التي تمثل الأصالة والخبرة التي تستند إلى الماضي العريق والذي تفخر به الشعوب كرموز تحدد انتمائها كما هو الأمر في العمارة والصناعة والطباعة والأقمشة والتصميم الداخلي، ونجد العديد من الناس يحتفظون بمقتنيات قديمة لا يمكن استعمالها اليوم ليس لشئ وإنما فقط لقيمتها المعنوية التي تحمل عبق الماضي وذكرياته وتكسب من خلاله قيما مادية عالية ولكن قيما غير نفعية كما هو الحال في التصاميم الحديثة ( أي أنها تحمل قيما متحفية ).

ورغم غلبة الجانب المادي وطبيعة الخامات والتقنيات الحديثة، إلا إن العديد من التصاميم اليوم تستذكر وبتقنيات عالية جزءا كبيرا من تراث شعوبها الخالد باستعارة العديد من رموزه في العمارة أو في صناعة السيارات والأجهزة والأزياء والأثاث والمقتنيات.

ويبرز هنا فكرتين أساسيتين متناقضتين ظاهرا ولكنهما متفقتين في جوهرهما تقوم عليهما هذه النظرية وهما:
الفكرة الأولى:

إن قيمة الجمال في الفن التشكيلي تنطلق من كونه لا يرتبط بوظيفة أو منفعة أو أداء معين أو فائدة معينة، ولا يؤدي خدمة إلى قضية أخلاقية أو اجتماعية أو اقتصادية وعلى رأس هذه الآراء ما أثاره الايطالي بندتو كروتشه بقوله ( لا خير في فن يدعو إلى المنفعة أو الخير أو الفضيلة ) كان يريد بذلك إن يكون الفن هو لذاته خالصا مستقلا كتجربـة حضاريـة وإنسانية وغير تـابع لقضية أخرى، وهو ما كـان يدعى ( بالفن للفن ) (9)، ولكن حقيقة الأمر في الفنون الجميلة عموما إن الثقافة البصرية والسمعية والحركية خبرات عظيمة يكسبها الإنسان حين الاستمتاع بالفنون الجميلة ولها أثرها السلوكي والتربوي والعملي وتنمي من تفكيره وعمله وذوقه وكل هذه فوائد في بناء شخصية الإنسان والمجتمع سواء قبل الفنان بذلك أم لم يقبل أي إن الفائدة من الفنون حاصلة لا محالة.

الفكرة الثانية:

وهي إن قيمة الجمال في نشوء التصميم تنطلق من كونه يرتبط بمنفعة ووظيفة وفائدة وأداء، ويفقد التصميم قيمته كوجود بدون تحقيق وظيفته التي يؤديها، واستعراضا لكل ما يتناوله التصميم في العمارة والصناعة والطباعة والأقمشة... كلها ذات أهداف وظيفية في خدمة الإنسانية.كما يفقد الجمال سبب وجوده في التصميم دون تحقيق وظيفته أولا ولهذا فان المعادلة الأساسية ( بأن الشكل يتبع الوظيفة ) هي خلاصة العلاقة المتوازنة بين القيمة الجمالية في التصميم والقيمة الوظيفية، أي أن الجمال في التصميم مطلوب من خلال منفعته وفائدته.

وهنا السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو، هل يكفي الجمال كقيمة لأداء دور تربوي ونفسي وسلوكي في عملية التصميم....؟.(10)

والجواب نعم إن التصميم يؤدي ذلك الدور أسوة بكل الفنون البصرية والجميلة لان كيانه المادي في الشكل يتكون من ذات العناصر والأسس والعلاقات والمكونات التي تتكون منها بقية الفنون، ولكن الاشتراطات الإضافية للتصميم عن بقية الفنون تجعل من أدائه الوظيفي ضرورة لا يمكن التخلي عنها لصالح الجمال أو لصالح إي شئ أخر

قيم نظرية الجمال في التصميم

لأجل تحقيق نظرية الجمال في التصميم أهدافها الوظيفية والنفعية والتداولية والاستخدامية فإنها ترتكز على مجموعة من القيم التي تعيد ترتيب الجمال وفق اشتراطات أهداف التصميم المختلفة في بيئتها العريضة وأسئلة العصر على مستوى المناهج الفكرية السائدة.

ومن ابرز القيم التي تعتمدها هذه النظرية هي:

1- القيمة التقنية

وفقا لجوهر التصميم - الذي يتخذ من منهج الابداع والابتكار أساسا في تحقيق أهدافه الجمالية والوظيفية - فان معنى الجمال فيه يعتمد أساسا على أخر المستجدات التقنية، وتشمل سلسلة جديدة من الخامات والمواد والأدوات واساليب العمل والإنتاج، وان عدم اعتماد أخر التقنيات في التصميم يعني عدم الاتساق مع الاشتراطات التي فرضتها التقنية الجديدة على جوانب الحياة المختلفة وإيقاعاتها المتسارعة. ورغم إن مايجابهه كل جديد من مخاطر في عدم امتلاك المتلقي الخبرة عن هذا الجديد فان الاستمتاع بوظيفته وجماله يحمل نوعا من المغامرة التي تحسب على المصمم والمتلقي رغم أن وسائل الإنتاج ومؤسساته قد ضمنت قدرة التصميم على الأداء، حيث لا مجال للتجريب أو الفشل في ظل العملية الإنتاجية الواسعة.

2- القيمة المادية

بناء على التحولات الكبيرة في منظومة القيم الإنسانية، من خلال سطوة القيم المادية وانحسار القيم المعنوية، وفي ظل احتكام التصميم إلى القيم المادية، فان جمال المادة ومظهرها يؤديان دورا كبيرا في الشكل النهائي لوظيفة التصميم وقد يكون هذا الدور اكبر من القيمة الحقيقية للتصميم نفسه. مما يجعل تأثير جمال المظهر سابقا على كفاءة وجودة الجوهر وسابقا له، كما تؤدي الكثير من الجوانب المادية في التصميم ذات الأهمية في قناعات المتلقي وعلى أساس من دورها الاجتماعي والاقتصادي في المجتمع.

3- القيمة النفعية

وهي أن يحقق التصميم بمظهريته المتقدمة منفعة واضحة قادرة على إشباع حاجة المتلقي الجمالية والوظيفية وفقا للصورة الذهنية والخبرة الجمالية، والحاجة المادية التي يستشعرها المتلقي لحظة وجود التصميم، وبسبب من تغير خبراته الجمالية وخاصة لدى المتلقين الذين يمتلكون خبرات جمالية تصميمية عالية فان عملية إشباع تلك الحاجة لن تكون يسيرة.

كما يتوجب على المصممين إيجاد تصاميم ذات قيم نفعية متعددة المستويات، لما يترتب على ذلك من اختلاف الكلف وبالتالي ازدياد الفئات المنتفعة، وغالبا ما تسعى الجهات المنتجة الى تزوير ذات المظهر جماليا على حساب قيمة الجوهر وظيفيا.

4- القيمة الاتصالية

إن فن التصميم من الفنون البصرية التداولية التي تكتسب قيمتها الحقيقية من خلال حسن عملية التلقي، والتي تبدأ بإثارة قيم جمال المظهر وتنتهي بارتفاع مستوى جودة وظيفة الجوهر، وهذا يعني أن يحقق التصميم دوره الاتصالي مع المتلقي بكل الوسائل وعلى مدى زمن ومراحل الرسالة البصرية، لأجل اكتمال الصورة النهائية للتصميم في ذهن المتلقي. ولاشك أن إيقاع عملية الاتصال وسرعتها تختلف بين أنواع التصاميم بأصنافها المتعددة، وتزداد القيمة النفعية والتداولية كلما ازداد تحقق القيمة الاتصالية.

5- القيمة الجديدة

إن أساس فاعلية التصميم كفن وعلم هو التطلع الى القيمة الجديدة واستكشافها على مستويي الجمال والوظيفة، وبسب من تعدد الخيارات أمام الاختيار الإنساني القائم على تداخل الأنساق الفكرية والمفاهيمية على بعضها، فقد أصبحت قيم الأخر ذات أهمية اكبر من القيم الخاصة، بعد أن استنفذت العديد من الثقافات المحلية خياراتها الجمالية القادرة على التأثير والإقناع لأسباب عديدة. كما أن القيمة الجديدة بحد ذاتها تعني إضافة جديدة إلى منافع الإنسان وخبراته.

6- القيمة المستقبلية

إن التصميم فن يستشرف المستقبل ولا يعيش حلقات الصراع القائمة بين قيم الماضي والحاضر والمستقبل، لان قيم الماضي استنفذت ديمومتها وفاعليتها، وقيم الحاضر كان التخطيط لبنائها في زمن لم يعد في متناول المصمم تغيره، بسبب الحلقات الإنتاجية التي تعقب عملية التصميم، ولم يتبقى للمصمم إلا استكشاف قيم جمال الغد، وعلى أساس من قدرته الإبداعية التنبؤية، وما من شك في إن أي قيمة مستقبلية إنما هي وريثة حقيقية لتاريخ طويل من القيم، أصبحت فيه قيمة المستقبل هي المحصلة النهائية والوحيدة للخيار الإنساني.

• فن التصميم

ان استقاء فن التصميم لرؤياه الجمالية ومعاييره الفنية من جانبي الفن والحرفة قد فتح الباب واسعا لان تضم تحت تسمياته العديد من الفنون والحرف والصناعات في ان واحد، وكنتيجة لتطور الحياة ووسائلها والدعوة الى اكبر تنظيم لمفرداتها جعل نواحي شتى من حياة الانسان تخضع لذلك التنظيم فلم يعد مصطلح التصميم يطلق على فن العمارة او الصناعة او الطباعة وانما شمل العديد من الانجازات التي يقوم بها الانسان والتي تتصف بالتنسيق والتذوق والمظهر الجذاب او الفائدة، والاداء والمتعة، كما يمكننا ملاحظة نقطة هامة ان كل هذه المواضيع ذات علاقة بفنون ومهارات مستقبلية مما يؤكد ان فن التصميم كفكرة تتوجه نحو المستقبل دائما.
وكان من ابرز النشاطات الانسانية التي شملها فن التصميم الان هي:

1- التصميم الثلاثي الابعاد 3
2- تصميم الاعلان
3- تصميم الفضاء
4- تصميم الافلام المتحركة
5- التصميم المعماري
6- تصميم الكتاب
7- تصميم الخزف
8- تصميم الاتصالات
9- تصميم الحلي الكاذبة
10- التصميم الهندسي
11- تصميم العرض
12- تصميم الازياء
13- تصميم العناوين السينمائية
14- تصميم الازهار
15- تصميم الطعام
16- تصميم الاثاث
17- تصميم اللعب
18- التصميم العام
19- تصميم الزجاج
20- التصميم التخطيطي
21- التصميم التوضيحي
22- التصميم الصناعي
23- تصميم المعلومات
24- التصميم السطحي
25- التصميم الداخلي
26- تصميم المجوهرات
27- تصميم المناظر
28- تصميم الاضاءة
29- تصميم الشعارات والعلامات
30- تصميم المجلات
31- التصميم البحري
32- التصميم الانضباطي
33- تصميم التعليب
34- التصميم الفوتوغرافي
35- التصميم الطباعي
36- التصميم الاقليمي
37- تصميم اللوائح
38- تصميم الشعر(التسريحات )
39- تصميم الاقمشة
40- تصميم الدمى
41- تصميم النقل
42- التصميم المطبعي
43- التصميم الحضري
44- تصميم مواقع الانترنيت

ومن المؤكد ان كل هذه التخصصات من التصاميم هي مستحدثة في ظل التخصصات الدقيقة التي تحصل في الميادين كافة ومن ضمنها ميادين الفنون والتصميم. وقد ترسخ الجانب المعرفي لهذه التخصصات عبر الدراسات الاكاديمية ذات المنحى التطبيقي. فجمعت العديد من هذه الميادين بين الفن والحرفة بل دخلت في حقل تصميم العديد من الاحتياجات الانسانية اليومية التي نحتاج والى حد ما نوع من الترتيب والتنسيق والتذوق والنظام بينما كانت انواع اخرى من التصاميم تحتاج الى نوع من الذكاء والبراعة واخرى الى المهارة والدقة وحسن الصنعة واخرى الى دراسات اكاديمية ومعرفية موسعة واخرى الى ميادين صناعية تتطلب معرفة تقنية دقيقة.

وعند استعراض ميادين التصميم الواردة نجد ان الخصائص المشتركة بينها، يمكن تلخيصها بالنواحي الاتية:

1- النظام والترتيب والتنسيق.
2- المظهر الجذاب والقيمة.
3- المتانة والتقنية الصناعية والانتاج.
4- المرونة العالية للاستخدام.
5- المعرفة الاكاديمية والعلمية المتخصصة.
6- تحقيق اعلى فائدة ممكنة.
7- التأثير المباشر والقدرة على الاقناع.
8- حساب الكلفة والجدوى.

لا شك ان التوسع الافقي وتعدد ميادين التصميم خلق اناس متخصصين في كل ميدان من هذه الميادين كما تأكد ذلك في نمط دراساتها الاكاديمية في المؤسسات العلمية واصبحت غالبية هذه الدراسات تؤكد المبدأ الاساسي للتصميم وهي اختبار الجانب النظري المعرفي من خلال صدق النتائج ونفعيتها اي تتخذ منحا براغماتيا في جوهر عملياتها الادائية والتطبيقية.

ويخضع كل ميدان من هذه الميادين الى شروط معينة ونظام محدد في عملية التصميم واهدافها من خلال اثارتها لتلك المتعة الانسانية وفائدتها. فميادين التصميم التي تتجه الى التداول تمتاز بخصائصها التي توفر الجودة والامان والسهولة والمتانة والقوة اخذة بنظر الاعتبار الكلفة والنوع.

اما ميادين التصميم التي تتجه الى النفعية فتختار خصائصها بتحقيق اعلى فائدة وباقل كلفة وبمستوى عال من الجود والتنفيذ. اما ميادين التصميم التي تتجه الى التأثير البصري فتختار خصائصها بتحقيق اجتذاب النظر ومقدرتها على التأثير واشاعة الاعجاب وانبعاث السرور والتألق. وتحتاج هذه الانظمة الى قواعد خاصة مختلفة فيما بينها لكي تؤدي اهدافها

 [1]


[1

المصادر

1. Newton, E. The Meaning of Beauty, London: penguin Books, 1962, P. 274.
2. Croce, Bemdetto: The Essence of Aesthetic, Tsanslated by Douglas Ainslir, The Aden Library , London, 1978, P.P. 153
3. Ibid, P. 225. Newton, E.
Crutchifiel, R The Creative Process. Conference on the Creative Process. Berkeley: 4 univ. of California, Instituted of Personality Assessment and Research, 1961, ch.6. P.33 2. Weintraub,L.(2003), In the making: Creative Options for contemporary art, New York:D.A.P./Distributed Art Publishers P89- 5 3. Gogh, V.V. Letter to Anton Ridder Van Rappord, In: The Creative Process, ed By B Chiselin, New York,: The new.Amer. libr. 1952, p 293.
Tony, A Creative Painting and Drawing , New York, Dover, 1966, P. 184.- 6
.7 هويغ. رينيه، الفن وتأويله وسبيله، دار المعارف جـ 1، مصر، ب ت. ص 166
8. بنديتو كروتشه، علم الجمال ـ ـ عربه نزيه الحكيم ـ ومراجعة بديع الكسم ـ المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب ـ المطبعة الهاشمية ـ دمشق ـ 1963م.‏ ص 271
9. Hospers, J.: The Concept of Aesthetic Expression, in (Weitz, Morris) ed. Of Problems in Aesthelics, Macmillan Publishing co. Inc. New york, 1970 p. 261.
10. بنديتو كروتشه، المصدر نفسه، ص 117
( النظرية نشرت في كتابي موسوعة فن التصميم - الفلسفة، النظرية، التطبيق)

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى