الاثنين ٣٠ حزيران (يونيو) ٢٠٠٨
بقلم تركي عامر

نكبة الدّروز

لأنّ هذه المداخلة قد تطبّ تحت نظّارة قارئ يمكناليٍّ لا يعرف شيئًا ونصف شيء عن الدّروز، فإليه، وعلى طريقة من كيس غيرك يا مذرّ ذرّ، بعض شيء:

"الدّروز، أتباع مسلك توحيديّ إسلاميّ، انفصل عن التّشيّع الإسماعيليّ في عهد الخليفة الفاطميّ الحاكم بأمر الله، مطلع الخامس الهجريّ (11 ميلاديّ). جماعة متّحدة ذات عقيدة عقلانيّة باطنيّة، وأخلاقيّة متشدّدة، تؤمن بالتّقمّص، وتمارس التّقيّة عند الضّرورة، لحماية الجماعة من أعدائها." (بتصرّف عن د. خليل أحمد خليل، "معجم المصطلحات الدّينيّة"، دار الفكر اللّبنانيّ، بيروت، 1995).

إضافة إلى تقدّم، الدّروز في القارّة العربيّة، عرب أقحاح عن بكرة أبيهم وأمّهم، وعن بكارة حمضهم النّوويّ والنّحويّ أيضًا وقبلاً. لا، ليس الأمر تلاعبًا بالألفاظ، فاللّغة العربيّة على لسان الدّرزيّ المتوسّط، ولو كان أمّيًّا، لا تشوبها شائبة صوتيّة ولا تعيبها عائبة لفظيّة. أضف إلى ذلك، حقيقة تزاوجنا الدّاخليّ، على مدى ألفيّة كاملة، لبرهان ساطع ودليل قاطع على أنّنا أنقى العرب دمًا ولحمًا وملحًا وحلمًا، على العكس ممّن "يتمتّعون" بحصانات تزاوج خارجيّ شرعًا واجتماعًًا ما يبعد جيناتهم، "أجيال ورا أجيال"، عن العروبة الأصيلة بكلّ معانيها البيولوجيّة والإثنولوجيّة والإديولوجيّة.

وبعد، الدّروز في "إسراطين" على تيّارين سياسيّين اثنين، كامخة الأثافي بينهما معجون مهادن مداهن في صبحه والمساء، لا يهشّ ولا يبشّ ولا يكشّ ولا ينشّ، يرتكب، في أحسن أحواله الغائبة عن الدّنيا وأحسر مُقاماته الهاربة إلى الدّين، يرتكب حيادًا عديم الشّكل واللّون والطّعم والرّائحة، محتفظًا بحقّ يجيز له لحس مبرد الصّمت، فترى إليه يعرض عن قراءة الماضي ويخاف المراهنة على استقراء المستقبل.

التّيّار الأوّل: تيّار عروبيّ حتّى الحياة. ولأنّه يساريّ تقدّميّ ثوريّ كينونةً وسيرورةً، فإضافةً إلى ثوابته الأساس لجهة الحرّيّة والتّعدّديّة والعدالة والديمقراطيّة، يطرح هذا التّيّار، من بين ما يطرح، مقولات: التّمسّك بالهويّة العربيّة للدّروز، رفض التّجنيد الإجباري، السّلام والمساواة، دولتين لشعبين، مجتمع مدنيّ، دولة لجميع مواطنيها. يطرح هذه المقولات كخيارات إستراتيجيّة لا حيدة عنها في جهنّم استباقيّة نحن فيها فاكهون وفارهون وفارغون وتافهون.

هذا التّيّار الإنسانيّ القوميّ الوطنيّ، بأبعاده الأمميّة والعربيّة والفلسطينيّة، شرعيّ ومشروعٌ بكلّ المقاييس والقواميس والنّواميس، رغمًا عن أنف جواميس الصّحراء وجواسيس البحر من كلّ جهات الرّيح. ولكن، كما في كلّ سيناريو محتمل لهذا المسلسل الدّرزيّ المدبلج منذ النّكبة، ثمّة، في وَضَحِ اللّيل وفي غَلَس النّهار، وتوكّؤًا على عكاكيز ارتزاقيّة التزاقيّة، ثمّة من يحاول أن يصوّر هذا التّيّار، المنزّه عن شهوة الارتماء الرّخيص في أحضان جنّة على الأرض، وكأنّه (التّيّار) معادٍ لليهود كأمّة أو ديانة، هذا إذا سلمنا من تهمة العمالة الجاهزة في ثلاّجات من ينعمون بما يسمّونه "مهد عيسى"، أو ما أسمّيها، هنا الآن، "بحبوحَسْتان".

لن أستفيض، في هذه العجالة العاجلة، في تحليل سايكولوجيّ على سوسيولوجيّ لِما يرفد هذه القناعة المهدعيسويّة أو الذّريعة البحبوحَستانيّة، حيث يحاول مروّجو مخدِّراتها المغيِّبة للوعي واللاّوعي معًا، يحاولون عقد مقارناتٍ مسطَّحة، تفتقر إلى المنطق، بين أوضاع الدّروز في الأقطار العربيّة وأوضاع الدّروز في "واحة الدّمقراطيّة". ويروحون إلى أنّ جماعتنا هناك لفي حال مزرية، أمّا نحن هنا لفي حال يحسدنا عليها مترفون في جنّة خمسة نجوم على ضفاف بحيرة الرّحيق والشّذى الرّابضة في أعالي الإنتلجنسيا هنااااااااااك.

لستُ منتدبًا، لا هنا الآن ولا هناك في أيّ آن، للتّكلّم باسم هذا التّيّار، غير أنّي أجيز لنفسي أن أقول وبمنتهى المسؤوليّة الحضاريّة: لسنا ضدّ اليهود كأمّة أو ديانة، ولسنا ضدّ حقّهم الإنسانيّ في تقرير مصيرهم السّياسيّ، ولنا من بينهم أصدقاء يرفعون لنا قبّعة الرّوح وطبّة القلم لأنّنا لا نغيّر جلد روحنا مع هبوب أيّة نسمة كولونياليّة، أعجميّة كانت أو إفرنجيّة.

وأقول، أيضًا، وعلى الملأ الأعلى والأوطى: إنّنا، وعلى المسبحة الألفيّة، ضدّ مشروع صهيونيّ عالميّ، يدعمه أبالسةٌ يعيثون في الأرض ضلالاً وتضليلاً فضلاً عن وثائق يزعمون أنّهم توارثوها عن السّماء، ضدّ مشروع يحلم بتنظيف البلاد من أهلها (كلّ أهلها ومن بينهم الدّروز) ليقيم عليها "دولة يهوديّة ديمقراطيّة"، وكأنّ السّكّان العرب الفلسطينيّين الثّمانيأربعينيّين الأصليّين غير موجودين، تطبيقًا لأبجوحة هرتسل المعروفة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".

وبالعودة إلى التّيّارين السّياسيّين عند الدّروز في "إسراطين"، إذا كان التّيّار الأوّل عروبيًّا حتّى الحياة، فالثّاني هروبيّ حتّى النّجاة بريشٍ لا يصنع إلاّ عشًّا هشًّا ولو في أعالي الشّجر، يعيشون له وبه وفيه وعصابة سوداء على عيون لا ترى جادة الصّواب إلى حيث الصّواب. أمّا الكامخ بينهما، فمهادن مداهن، كما أسلفنا، طمعًا بوظيفة هنا أو نفوذ هناك. لسنا ضدّ وظيفة شريفة تؤمّن لقمة عيش نظيفة. ولسنا ضدّ نفوذ لا يضيع البوصلة في أعالي البحار ومتاهات الصّحراء. لكنّنا ضدّ من يرهن روحه وجسمه وماله وولده لقاء ما هو صائر إلى بخار في آخر النّهار.

لن أثقل كاهلكم بما يعرفه الجميع عمّا حدث الشّهر الماضي (أيّار 2008)، في مقام النّبيّ شعيب عليه السّلام، من مسرحيّة سياسيّة، أقلّ ما يُقال فيها: رديئة جدًّا تأليفًا وإخراجًا وإنتاجًا وتمثيلاً. سأقصّر تنّورة الحكاية إلى ما فوق الرّكبتين، فقد يطلّ من تحتها ما نشتهي أن يبان وأن يبين وأن يتبيّن، وأسأل أهل اليسار (علمانيّين وحلمانيّين)، من أبناء طائفة الموحّدين الدّروز العربيّة في إسراطين، سؤالاً بسيطًا، ولا أريد الإجابة عليه إلاّ ممّن يستطيعون إلى القول اليسير سبيلاً من عمل ليس عسيرًا.

مثلما "يحقّ" لأهل اليمين، الهائمين على وجوههم دون ماء (خفيف وثقيل على السّواء)، ولمن يحفّون حول عروشهم وكروشهم من أبناء طائفتنا المنكوبة نكبتين، مثلما "يحقّ" لهم أن يلتفّوا على التّاريخ والجغرافيا، ليقيموا، في مقام النّبي شعيب عليه السّلام، احتفالاً استثنائيًّا (حضره بضع مئات بعكس التّمنّيات) لمناسبة مرور ستّين عامًا على تأسيس دولة إسرائيل، لماذا لا يحقّ لنا، نحن أبناء اليسار، أن نصير إلى إحياء ذكرى النّكبة الفلسطينيّة في مقام النّبيّ شعيب عليه السّلام نفسه وعينه وذاته؟!

قد يترافع اليسار الدّرزيّ، قيد المساءلة، عن نفسه: لم نفكّر في ذلك لأنّنا نحترم قدسيّة مقام النّبي شعيب عليه السّلام (والمساواة)، لأنّنا مع إبقاء المقام وصاحب المقام بعيدًا عن أيّة شبهة أو لوثة سياسيّة. لم نفكّر في ذلك، لأنّنا نحترم قرار الرّئيس الرّوحيّ الرّاحل، الشّيخ الجليل أمين طريف (رحمه الله)، في إبقاء المقامات المقدّسة بعيدًا عن الرّائحة السّياسيّة منذ مطلع سبعينيّات القرن الفارط (كوز رمّان حلوه مرٌّ ومرٌّ ومرُّ).

وليس آخرًا، هل مقام النّبيّ شعيب عليه السّلام مُلْك شخصيّ للرّئيس الرّوحيّ لطائفة الموحّدين الدّروز العربيّة في فلسطين، يستخدمها لأغراض في نفس يعقوب ويعسوب ويعشوب؟! أم أنّه مُلْك شخصيّ لنائب في البرلمان الإسرائيليّ عن حزب مهزوم ومأزوم ومهموز ومغموز من قناته، ليس فقط بسبب كون رئيسه قيد تحقيق قد يرمي به إلى مزبلة التّاريخ، بل أيضًا بسبب تعنّت حكّام إسرائيل، على طول الطّريق، تعنّتًا أبديًّا في رفض أيّة مبادرة عربيّة لسلام عادل وشامل، بما يضمن إقامة دولة فلسطينيّة حرّة سيّدة مستقلّة وعاصمتها القدس الشّرقيّة، إلى جانب دولة إسرائيل وعاصمتها أورشليم الغربيّة؟!

وأخيرًا، هي دعوة إلى قادة اليسار الدّرزيّ (جبهويّين وتجمّعيّين على السّواء) إلى: الإمعان في رفض التّجنيد الإجباريّ، الإصرار على هويّتنا العربيّة لغةً وانتماءً وعيشًا وحياةً، إعادة تفعيل عيد الفطر السّعيد إلى جانب شقيقه الأكبر عيد الأَضحى المبارك، الاحتفال بيوم الأرض الخالد، الاحتفال بذكرى النّكبة الفلسطينيّة (بوصفها أمّ المآسي في تاريخ البشريّة منذ هاجر وإسماعيل)، عدم تفويت أيّة فرصة للتّذكير بعروبتنا السّاطعة وفلسطينيّتنا الضّائعة، بما يضمن لهذه الطّائفة المعروفيّة العربيّة الأصيلة، والمنكوبة مرّتين على الأقلّ، سطرًا مشرّفًا (ومشرقًا) في أدغال كتاب تاريخ المستقبل، بطبعتيه العربيّة والعالميّة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى