الثلاثاء ٢٤ آذار (مارس) ٢٠٢٠
بقلم رشيد سكري

نَجوى المتمردة

أحس بنفسه أنه يشبه، إلى حد ما...

ليوناردوديكابريو...

يقولها لنجوى المتمردة، وهي تتطلع إليه في المرآة بمآق كبيرة، وواسعة كعيون المَها، وقال في خلده:

ـ لا بد أن أتسلل إلى... إلى تلك الخشبة...

من قلب الحشد الغفير، كجمهور متيم بالفرجة و العروض المسرحية، يبدو الرُّكـْحُ كمقصلة الممثلين، ملفوفة في دثار أزرق كمزار سيدي بوغالب.

ـ إنها الخشبة الإيطالية.

قال لنجوى المتمردة: تسريحة شعري، ونفسي المعطرة... وهندامي رفيع.

ـ أليس كذلك يا نجوى؟

ـ نظرت إليه بنظرة شزراءَ، وقالت له بصوت خافت: إنك تبدو كرقعة في سروال المهرجين. استنشق هواء جديدا، وأحس به يربت على فوديه الأشمطين، ويشعر كأنه في سفينة تايتنك تمخر به العُبَاب و الرذاذ المالح، دافعا إلى الأمام جؤجؤه كالعقاب. لم تتركه وحيدا على حافة الجَوار، بل اقتربت منه نجوى المتمردة، بخطى وئيدة، متحسسة حرارة جبينه الأسخن.

في وسط هذا الجمهور، الذي ينتظر العرض، بقعة ضوء تكشف عن مهرج ملفوف في سروال كالمنطاد، تتقاطع فيه خيوط ملونة، وله عروة وحيدة من الخلف. سار بخطى كالمنتصر الغازي، كراقص البالي...

كالخدروف دار على جسده الرشيق نصف دورة... مخاطبا الجمهور، قائلا:

ـ إلى أين أنتم ذاهبون؟ إلى أين أنتم مسافرون؟

اقترب من نجوى المتمردة، حتى بدأت تتحسس أنفاسه الساخنة...
ـ إنه المسرح يا سادة... إنه المسرح يا سادة.

وقفت نجوى منتصبة القامة، فمشت في غنج و دلال، تتفرس نظراتها عيونا مضيئة
ـ هل يكفي أن يكون المسرح احتفالا؟

ـ أجابها ديكابريو من خلف الستار المعتم، وصوت تايتنك يملأ الأسماع، في حين يخبو أنين المرضى و المعطوبين.

ـ لا يا نجوى المتمردة. لا يا نجوى المتمردة. فالمسرح أبو الفنون... أبو الفنون.

صعدت نجوى إلى الخشبة في رشاقة قطة وجلة، وبقعة ضوء تبرز نهديها الأملسين... كرمان خريفي. صاحت بصوت ملأ المكان صخبا:

المعطوبون... المرضى... القتلى. ماتوا للمرة الثانية في تايتانك، وها نحن نشيعهم في جنازة مهيبة إلى مثواهم الأخير. المسرح، يا سادتي، ليس احتفالا بالموت و المعاناة والألم، وإنما فرجة على صراط المعطوبين و الجوعى و المتمردين. هيمن صوت الأنين و الوجع والحزن رافقه خروج ديكابريو إلى الخشبة، ومد كلتا يديه لنجوى المتمردة، التي تظهر أنها تغرق في بحر لجي تتقاذفها أمواج عاتية.

اتجه المهرج نحو الجمهور يذرف دمعا ساخنا، فاختلطت الألوان القزحية على صفحة وجهه المكتنز. فقال بعد تلكؤ:

ـ ماتت نجوى المتمردة! ماتت نجوى المتمردة!

صاحب هذا المشهد ظلام تام. فغامت القاعة في العتمة الدامسة دون أن أتحسس المرأة، التي كانت بجانبي تتابع المشهد بتركيز شديد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى