الجمعة ٣٠ أيار (مايو) ٢٠٠٨
بقلم أسامة عبد المالك عثمان

هل ترشيد البذاءة ممكن

تشيع في مواقع على الشبكة منسوبات عالية من البذاءة المتبادلة، بين القراء، وربما أحيانا بين الكتاب والقراء المعلقين الذين قد يتورطون بمبادلتهم الشتيمة بمثلها...

لماذا يلجأ أحدنا إلى البذاءة، والشتم والإقذاع؟ هل هو إعلان منه عن يأسه من قول عادي يصبر فيه على عرض الحجج، أو حتى مجرد آراء مناقضة، فيختصر تلك المسافة بشتيمة؟! هل أحوالنا البائسة تغذي هذه الظاهرة؟ أم أن الانقسام الفكري الحاد، والتعصب، وافتراض سوء النية هو الذي يقدح في القراء الشَّرر، فينقسمون فريقين، أو فرقا، وأحيانا يصبح المقال مجرد ذريعة لبعث تلك الأحقاد القطرية، والجهوية، أو المماحكات الدينية المفتقرة إلى الروية والعلم بالمسائل محل النقاش.

من الناحية النفسية قد يشعر الشاتم بانفراج ما، أو "فشة خلق"، ولكنه في ذات الوقت يعلن فقره من فكر يقابل ذلك الموقف الفكري، أو السياسي، لأنه وقد فُتح له مجال التعليق، فقد مُكن من التنفيس عما ضايقه بكلام قد يرقى إلى مستوى نسف فكرة المقال الأصلي، وقد يمثل للقراء إضاءة، تعدل بعض ما وقع فيه الكاتب، فيصبح النص الأصلي نصوصا متوالدة، بعدد القراءات، ولا أقول القراء، بما تحمله من ثقافات ورؤى متنوعة متلاقحة.

وأكثر ما يحتدم التعليق في مجال الخصومات بين البلاد العربية، أو قل بين توجهات الساسة في الأقطار العربية، فينجر بعضهم إلى المماهاة بين النظام الحاكم والوطن! وأحيانا في قضايا تتصل بوقوع أفراد من ذلك القطر فيما يعد عارا أخلاقيا، أو حتى ترديا معيشيا، ومن المسائل التي تذكي جذوة النقاش غير المضبوط الفتاوى والمواقفُ التي يتبناها بعض الدعاة، ولا سيما "الجدد" أو المشايخ والعلماء، وعندها هم واحد من فريقين، إما مصيبون، وقد تم تشويهم، وإما مخطؤون، ولا يمثلون دينهم.

ولا يحسن في مثل هذه الأجواء المشحونة بالعواطف، وذات التوتر العالي أن يُزج بالدين، أو الفكر، أو حتى الرأي السياسي، لأنه سيظلم، أو يمتهن، فإذا كان القاضي لا يقضي، وهو غضبان، فلا يؤتي النقاش ثماره إلا حين تتوفر الاستعدادات والعقول التي لا تفترض عدوانية الآخر دائما، وحتى لو افترضت بطلان فكره، وهذا طبيعي، لأني لو كنت مؤمنا بما تحمل لكنت مثلك، ولما اقتضى الأمر جدالا، أقول حتى لو افترضت بطلان فكرك، فلا يعني ذلك بالضرورة معاداتك شخصيا، وتحقيرك، وتجريدك من أية فضيلة، وإلا فإن الهدف حينها ليس استمالتك لفكري ولمشروعي، وإنما الهدف تدميرك، وحفر الخنادق بيني وبينك، أو الجدر، وهذا لا يدل على ثقتي بما أحمل، أو هو على الأقل لا يدل على جديتي في الارتقاء بالناس إلى ما أحمل، فما ضرورة أي خطاب إذا كان حامله منفرا، ومعاديا، وشاتما لمن يدعوهم، و هم بمثابة الزبائن لبضاعته؟!

حتى لا يفقد الخطاب الثقافي مسوغ وجوده، فيهوي مع التخلف بدلا من أن يكون رافعة له، أو يغطى عليه، بدلا من أن يضيء، أو يثير، لا مفر من أن ترقى تلك المواقع عن عرض تلك التعليقات المسيئة إلى أي إبداع، والمهينة لمثل تلك الساحات التي تتطلع إلى مخاطبة أرقى ما في الإنسان: قواه الواعية، وإرادته وشعوره بالكلمة والرأي، فما دامت ارتضت الكلمة والفكر، وعقدت مع الطرف الآخر عقدا ضمنيا، أن الالتقاء إنما هو على هذا الأساس، فليكن هذا هو الحكم بين جميع المشاركين في هذه الفعالية الثقافية.

وما دام التعليق الرصين المثقف متاحا فإنه خير آلية يعدل بها الخطاب ويعاد إنتاجه، أو توليده، فهو جهد بشري ناقص ومفتوح، مهما كانت نية الكاتب ومآربه، فهو ليس نبيا، ولا قديسا، مهما تكن مآربه أو مقاصده، فإن عرض رأيه بإزاء الحقائق، كفيل ببيان اعوجاج خطه، وهل أعظم خسارة للكاتب من أن يبدو معروضُه الفكري، وهو رأس ماله، أن يبدو واهنا، أو غير بريء من المصالح والولاءات التي تسمح له باستغباء القارىء، والمتاجرة بعقله، كما سمحت له من قبل بالاتجار بقلمه، وامتهان نفسه!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى